«لقد أعطاني الأدب كل ما أملك اليوم، كان هو معنى حياتي، أعطاني شجاعة المقاومة، والسعادة، والأمل في التغلب على كل شيء». هكذا لخّص الكاتب الألباني الأشهر، إسماعيل كاداريه (1936-2024) الذي توفي أمس في العاصمة الألبانية تيرانا علاقته بالأدب والكتابة. وُلد كاداريه في جيروكاستر، لؤلؤة جنوب ألبانيا وهي من قبيل المصادفة مسقط رأس الزعيم الألباني الشيوعي أنور خوجا (1908-1986) الذي حكم ألبانيا بقبضة من حديد منذ تسلّمه السلطة بعد الحرب العالمية الثانية حتى وفاته. الصبي الذي اكتشف في مكتبة أبيه ساعي البريد «ماكبث» لشكسبير، فضلاً عن تراجيديات إسخيلوس، وأعمال سيرفانتس، ودانتي أو غوغول، سرعان ما ستتلمّس فيه أسرته بذور الموهبة الأدبية التي صُقلت أثناء دراسته الجامعية في كلية الآداب في تيرانا، ليكون ضمن النخبة التي أرسلها النظام الشيوعي السابق أوائل الستينيات للدراسة في «معهد ماكسيم غوركي» المرموق في موسكو. شكّل هذا المكان حاضنة للواقعية السوفياتية، وهو نوع أدبي مقَتَه كاداريه لأنه «لم يكن يحمل أي غموض، ولا أشباح، ولا أيّ شيء على الإطلاق».
نُشر أول أعمال كاداريه الشعرية من قبل ناشر روسي، لكنّ النصوص كانت مصحوبة بمقدّمة تدين الكاتب «المتأثّر بالغرب» أكثر مما تمدحه: قبِلَ الشاب كاداريه هذه الدمغة، وما لبثت هذه الثنائية أن ترسّخت بعد فترة قصيرة من سطوع نجمه. نشر سنة 1963 روايته الأولى «جنرال الجيش الميت» التي لاقت نجاحاً في ألبانيا، حيث تتبّع الكاتب محاولات جنرال إيطالي وآخَر ألباني يوفدان إلى ألبانيا عقب انتهاء الحرب من أجل استخراج جثث جنودهما الموتى وإعادة دفنها في بلادها الأصلية. اكتشف نقّاد الأدب من خلال هذا الكتاب، الذي تُرجم بعد سبع سنوات من نشره في ألبانيا إلى لغات عديدة، أن البلد الصغير المغلق في البلقان يحتضن كاتباً حقيقياً لديه ما يقوله. إلا أن الحكومة الشيوعية آنذاك التي كانت تتشكّك في الأجانب الذين يُحتمل أن يكونوا من الجواسيس رأت في الكتاب أمراً بغيضاً، وخصوصاً أنّ الكتاب تتناوب حبكته بين الخيال والأمور الحقيقية الموثّقة. عاد كاداريه إلى ألبانيا بعدما صدر قرار خوجا بقطع العلاقات مع الاتحاد السوفياتي بزعامة نيكيتا خروتشوف، ومن هذه القطيعة وُلدت رواية كاداريه الثانية «الشتاء الكبير» (1973)، حيث يُظهر الكتاب تأييده لموقف تيرانا الداعي للانسلاخ عن الشيوعية السوفياتية. لكنّ المتعصبين لخوجا اعتبروه مديحاً غير كافٍ وبدأت دعوات في تيرانا تطالب برأس الكاتب «البورجوازي». كما أن قصيدته «الباشوات الحمر» (1975) أجبرته على النقد الذاتي العلني وأظهرت أرشيفات عصر خوجا أن اسمه كان الحاضر الدائم على قائمة المرشحين للاعتقال. إلا أن خوجا الذي كان يرى إمكانية استخدام الكاتب الموهوب في ما يسمى «دبلوماسية الأدب» مع الغرب، آثَر أن يتبع مع كاداريه سياسة العصا والجزرة، فما إن يقع كاداريه تحت سيف ديموقليس لجهاز الشرطة حتى يهرع خوجا الذي يزعم أنه عاشق للأدب إلى إنقاذه. كما عُيّن كاداريه نائباً لفترة في أوائل السبعينيات، ليستفيد من الحصانة السياسية عندما كان الآخرون يُحكم عليهم بالأعمال الشاقة أو حتى الإعدام، وينعم برفاهية محدودة والحق في الحصول على جزء من حقوقه من ترجماته في الخارج. رغم هذه المغريات، لم يتوانَ كاداريه عن توجيه النقد اللاذع إلى نظام خوجا، ففي «قصر الأحلام» (1982)، يصف الراوي بلداً خاضعاً للديكتاتورية، حيث يجب على السكان تلخيص أحلامهم التي يتم تسجيلها بدقة. وفي «الوحش» (1992) التي يحيل عنوانها إلى خوجا نفسه، يروي كاداريه تقلبات حاكم يحاول الثورة ضد التقاليد القديمة لكنه في النهاية يستسلم لشغف الطواغيت.
جسّد كاداريه لفترة طويلة هذا التناقض بين كونه كاتباً معترفاً به ومضطهداً في آنٍ. لم تتحسن أحواله بعد وفاة خوجا. بعد سنوات خمس من تسلّم رامز عليا للسلطة في البلاد، لم ترق سياساته إلى تطلعات كاداريه الذي كان يعتقد أنه سيأخذ البلاد نحو التغيير والإصلاحات الديمقراطية المنشودة. بينما كان كاداريه يوقّع الترجمة الفرنسية لروايته «قصر الأحلام» في باريس سنة 1990، يقرر طلب اللجوء السياسي مع زوجته وابنتيه. في فرنسا، صار منذ عام 1996 عضواً مشاركاً في الأكاديمية الفرنسية للآداب، وحصل على وسام جوقة الشرف عام 2015، واستكمل عمارة عمله الأدبي الغني بحوالي خمسين كتاباً بين روايات ومقالات وقصص وقصائد ومسرحيات، مترجمة إلى 40 لغة، ونال العديد من الجوائز المرموقة، وكان اسمه حاضراً بانتظام للحصول على جائزة «نوبل» في الأدب. في حياته كما في قصصه، كان كاداريه يعود دائماً إلى جيروكاستر أو «مدينة الحجر» كما سمّاها في أشهر رواياته، «مدينة مائلة بشكل مهول، المدينة الوحيدة التي يمكن للمرء فيها تعليق قبعته على قمة مئذنة»، وينهل من المخزون الهائل لأساطير البلقان وما يقبع تحت «لحم الحياة الطري» من حب وكراهية، وأفراح وأتراح وأساطير المغنين المتجوّلين والشعراء والمحاربين، كما تفتك رواياته بالإرث الكبير من المفاهيم البالية المنبثقة من الإرث الشرقي العثماني والقائمة على تدخل الخرافة والسحر في تصريف حياة الناس، إضافة إلى تحريم علاقات الحب بين المرأة والرجل ومعاقبة البنات الحوامل سفاحاً بالموت خنقاً أو إغراقاً في إحدى الآبار.
نقمة إسماعيل كاداريه على الشيوعية والاحتلال العثماني لبلاده رمته بشكل سافر في أحضان الغرب، إذ صرّح في إحدى مقابلاته إبان هجوم الناتو على العاصمة الصربية بلغراد إبان أحداث كوسوفو: «أنتمي إلى أحد شعوب البلقان، الشعب الألباني، الذي فقد أوروبا مرتين: في القرن الخامس عشر، خلال الاحتلال العثماني، ثم في القرن العشرين، خلال الفترة الشيوعية». كما أن المغالاة في استعطاف الغرب أودت به إلى سقطة مدوّية بقبوله «جائزة القدس» الصهيونية سنة 2015 مستخدماً الحجج الذائعة حول الهولوكوست لقبوله بممارسات دولة الاحتلال تجاه الفلسطينيين. كأنّ الأدب الذي يعطي شجاعة المقاومة، حين يتعلق الأمر بحقوق الفلسطينيين، يتحول إلى «نيسان مقصوف»، وهو عنوان لكاداريه نفسه، أو حصان تنغرس آلة قوائمه في لحمهم العاري.