يُعد كتاب أمين معلوف «الحروب الصليبية كما رآها العرب» (1989) في طليعة الكتب التي دونت للحروب الصليبية في عيون عربية. لفت هذا الإصدار بعض الباحثين في شأن إيلاء هذا النمط من التأريخ الاهتمام اللازم. وعلى الرغم من ندرة المؤلفات العربية المعنية في هذا الحقل، نُشر عدد قليل، نذكر منها «الحملات الصليبية كما يرويها المؤرخون السريان» (دار الطليعة، الطبعة الأولى، 2010)، للباحث العراقي أفرام عيسى موسى. في «المؤرخون العرب للحروب الصليبية» (إعداد وتحقيق وترجمة: نبيل رضا المهايني) الصادر عن «الدار العربية للعلوم ناشرون»، يقدم المستشرق الإيطالي فرانشيسكو غابرييلي (Francesco Gabrieli) رؤية عربية بقلم مؤرخين عرب واكبوا الحروب الصليبية. ولد غابرييلي عام 1904. درس الأدب العربي الكلاسيكي في «جامعة روما» ليتخرج منها عن أطروحة عن أبي الطيب المتنبي.

عمل بين (1928-1935) محرراً في الموسوعة الإيطالية، ثم أستاذاً في «جامعة نابولي الشرقية» بين عامي 1935 و1938. أصبح أستاذ اللغة العربية والأدب العربي في «جامعة روما» عام 1938 حتى تقاعده عام 1979، وبقي مهتماً بالدراسات العربية حتى وفاته عام 1996. نشر غابرييلي عدداً من المؤلفات من بينها: (Storia della letteratura araba) (1951) «تاريخ الأدب العربي»، (L›antica societá beduina) (1959) «المجتمع البدوي القديم»، (L›Islàm nella storia) (1966) «الإسلام في التاريخ»، (Maometto e le grandi conquiste arabe) (1967) «محمد والفتوحات العربية الكبرى»، (Cultura araba del Novecento) (1983) «الثقافة العربية في القرن العشرين». صدر (Storici arabi delle Crociate) عام 1957 وتُرجم إلى الإنكليزية عام 1984. وبعد مرور خمسة عقود ونيف، نقله إلى العربية الباحث السوري نبيل رضا المهايني الذي كان على معرفة بالمؤلف، علماً أنه بدأ بإعداده في روما خلال سبعينيات القرن المنصرم تحت إشراف غابرييلي.
يرى أن الغزوات الصليبية أصابت الإسلام حين كانت الموجة العربية قد بدأت تنحسر


تقاطعت الحملات الصليبية مع حقبة اضطراب سياسي في الحاضرة الإسلامية التي شهدت صراعات داخلية بين الخلافة العباسية في بغداد والخلافة الفاطمية في مصر، وملوك الأتراك السلاجقة. تأتي أهمية الكتاب «القديم» والحديث» من أنه يؤرخ لفترة تاريخية مفصلية، سعى فيها المؤرخون العرب إلى تدوين الحيثياث التاريخية في أدق تفاصيلها، وقارعوا نظراءهم الغربيين في تجميع المعلومات وسردها. استند غابرييلي في النصوص التي حققها إلى حوالى ستة عشر مؤلَّفاً، وهي وإن لم تشكل كل المصادر الإسلامية التاريخية عن الحروب الصليبية، فإنها تشمل أكثرها أهمية، وتعتبر محاولة لتقديم إطار متكامل يستعرض مختلف النماذج والاتجاهات التاريخية والأدبية. أما المؤرخون الذين استشهد بنصوصهم فهم على التوالي: ابن القلانسي، ابن الأثير، كمال الدين ابن العديم، أسامة بن منقذ، بهاء الدين بن شداد، إمام الدين الأصفهاني، شهاب الدين أبو القاسم أبو شامة، رشيد الدين سنان، جمال الدين بن واصل، سبط ابن الجوزي، أبو الفضل، تقي الدين المقرزي، نصر الدين بن الفرات، بدر الدين العيني، أبو الفداء إمام الدين إسماعيل بن علي الأيوبي، وأبو المحاسن بن طغر يبيردي.
يستهل غابرييلي عمله بملاحظات ببليوغرافية مع تقديم سيرة ذاتية مختصرة عن المؤرخين العرب. تميز الكتاب بالدقة على مستوى التحقيب الزمني للحروب الصليبية وحملاتها بدءاً من استيلاء الفرنجة – أطلق العرب مصطلح الفرنجة تمييزاً لهم عن الروم البيزنطيين – على أنطاكية وصولاً إلى تحرير الديار الإسلامية من آخر معاقل الصليبيين.
لا تكتفي النصوص المدرجة في التأريخ للحملات الصليبية الدامية والمقاومة الإسلامية لها، إذ تكشف عن بعض الجوانب الحياتية السائدة في تلك العصور، كما أنها تحيل القارئ على منهجية دقيقة تمتع بها مؤرخوها يتخللها فخر تاريخي بإنجازات صلاح الدين الأيوبي، الكردي الأصل، التركي/ العربي اللغة والتربية، الذي طغت سيرته وانجازاته على المدونات التاريخية.
وضع دانتي أليجيري –كما يشير المترجم- صلاح الدين في البرزخ بين العظماء الصالحين، والمكان المخصص للصالحين من غير المسيحيين والأطفال الذين ماتوا من غير أن يتم تعميدهم. وجاء في النشيد الرابع (129) من كتاب الجحيم في «الكوميديا الإلهية»: «رأيت صلاح الدين، كان وحيداً، على طرفٍ». قال دانتي إنه وحيد لأنه من دين آخر، لكنه ذكره بين الحكّام الذين استحقوا المجد بسبب سخاء روحهم، ووضعه مع الأرواح العظيمة.
أحدثت الحملات الصليبية جروحاً دامية في الذاكرة العربية الإسلامية، انعكست في عدد من كتب التاريخ المختصة في هذه الحقبة، وآلت إلى تبادل الصور النمطية بين المسلمين والأوروبيين، فتركت تأثيرها العميق في العصور اللاحقة. تبرهن الكتابات الأوروبية إبان القرون الوسطى عن حالة توتر شديد بين المسيحية والإسلام. أطلق مؤرخو العصر الوسيط في أوروبا على المسلمين: «هاجريون»، «إسماعيليون»، «محموديون» وكذلك مصطلح (Sarrasins) (السراسنة)، وهو من أصل يوناني ويعني «الشرقيين». استخدمت في الفرنسية للمرة الأولى كلمة «المسلمين» عام 1551 و«إسلام» عام 1697. أما في الإنكليزية فاستعملت كملة (moslem) عام 1615 و«إسلام» عام 1613.
قام غابرييلي بتحقيب تاريخي للحملات الصليبية واعتمد على ابن الأثير وابن القلانسي كمصدرين رئيسين في روايته عن الحملة الصليبية الأولى. ويلاحظ أن مؤرخ الدمشق يكتفي بتقديم رواية إخبارية عن الأحداث، بينما يعمل ابن الأثير على ربط ظاهرة الحملات الصليبية بحركة الهجوم المسيحي على الإسلام. وتبرز الصفحات المنقولة عن ابن القلانسي تفاصيل حية ومباشرة عن سقوط مدن الساحل السوري، وردود الفعل التي حدثت داخل عاصمة الإسلام الروحية بغداد على الغزو الإفرنجي وتوسعه. حظي صلاح الدين الأيوبي باهتمام ملحوظ من قبل المؤرخين، بعدما تمكن من استعادة عدد من الأراضي وحرر القدس، ما أدى إلى شن الحملة الصليبية الثالثة بقيادة ريتشارد قلب الأسد، ملك انكلترا. وبين الأعوام 1265 و1291 تمكن ثلاثة سلاطين مماليك هم بيبرس وقلاوون والأشرف من تفكيك كل ما تبقى من أعمال الحملات الصليبية. اعتمد المؤلف على مصدر واحد لابن عبد الزاهر معاصرهم، على الرغم من أن روايته لم يصل إلّا بعضها وأكثرها ما زال غير منشور.
يرى غابرييلي أن الغزوات الصليبية أصابت الإسلام في لحظة خطرة من لحظات تاريخه، أي في الوقت الذي كانت الموجة العربية فيه قد بدأت ومن زمن بعيد تنحسر، أو أنها بدأت تتراجع إلى مواقع الدفاع، بينما كانت الموجة التركية في طريقها لتدعيم نفسها وتنظيم مواقعها في أحضان الأوطان الإسلامية والأوطان المجاورة، ذلك قبل أن تنتقل بأسلوب منظم إلى مواقع الهجوم ضد العالم المسيحي.
يحفل «المؤرخون العرب للحروب الصليبية» بسرد تاريخي ممتع ينم عن وجهة نظر تفصيلية للمؤرخين العرب الذين واكبوا أخطر مرحلة عرفها الإسلام.