وفقاً لتعريف روبرت همفري لتيار الوعي، يركّز الأخير على كشفه الحياة الداخلية والعقلية والعاطفية للإنسان، معتمداً على سرد قصص ترتاد مستويات ما قبل الكلام من الوعي، للكشف عن الوعي الداخلي والنفسي للشخصية. أسلوب بات يعتمده الروائيون بشكل دائم، لكنه يتداخل مع تجارب أخرى في أساس تشكيل الرواية، فما علاقة هذا الأسلوب برواية «الآن بدأت حياتي» (دار الكرمة) للسوري سومر شحادة؟ وهل اعتمده بشكل كامل في تشكيل نصّه الروائي الجديد؟ولأنّ الروائي السوري، والعربي بشكل عام، ابن بيئة تتخبّط بعدم الاستقرار السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، فإنّه مهما حاول التجديد والتجريب على المستوى الأسلوبي واللغوي، وعلى مستوى البناء والحبكة، لا يمكنه أن يبتعد عن واقع بلاده المأزوم، ليكون له صوت ورأي. وبحسب رولان بارت، «لا يستطيع أحد الكتابة من دون أن يتّخذ موقفاً انفعاليّاً ممّا يحدث في العالم». فما كان موقف سومر شحادة ممّا يحدث في العالم، وفي بلاده على وجه الخصوص!


عبر عنوانها وغلافها البسيط المريح للنظر، والبَوح الذي يبدأ به إياس في فصل الرواية الأول، يوهمك النصّ بأنّك أمام رواية نفسية اجتماعية، تطرح مسألة العلاقات الزوجية والفَقد والوحدة المترتّبة عن كل ذلك، فإياس يكرّر جملته التي بدأت بها الرواية «زوجتي تركتني، هي من طلبت الانفصال، وأخذت ابني معها». في المقطع نفسه، يبوح إياس بما يوهمنا به عنوان الرواية عبر اكتشافه بأن علاقة سيبدؤها مع لين، وأن حياته ستبدأ الآن معها، ومعها سينسى صفاء. لكن الأمور بعيدة عن كلّ ما تمّ ذِكره.
يحضر في فصل الرواية الأول، التداعي الحرّ للشخصيات التي تعرّف كلٌّ منها بنفسها، ساردةً جزءاً من واقعة الموت/ القتل التي حصلت ليوسف. يوسف الذي تكشف لنا الرواية عبر علاقاته بجميع الشخصيات، لين وريما زوجته وناديا والدة ريما، ونهاد والده العجوز العاجز، أنّ خبر انتحاره لن يمرّ مرور الكرام. وهذا بالفعل ما يحدث عندما يبدأ التحقيق في منزله. ومع التحقيق يشمّر شحادة عن ساعديه، ليمرّر نقده السياسي والاجتماعي المسيطر في اللاذقية، مدينته بالفعل، ومسرح أحداث الرواية، ليأخذنا إلى سوريا ما بعد الحرب.
الحبكة عادية. يبدأ التحقيق مع الشخصيات نفسها التي عرّفتنا بها الرواية عبر التداعي الحرّ لكل منها، ولكن التحقيق يضيف الكثير إلى معلوماتنا حول الضحية، فلين عشيقته التي تُوَجَّه إليها أصابع الاتهام، وريما زوجته المنهارة حزناً كما نظنّ، وناديا وإياس، إضافة إلى شهود كأصدقاء يوسف المحامين الثلاثة والبوّاب، والشاهد الملِك، نهاد الذي أكّد رواية المحقّق التي فصّلها. لم يكن التشويق حاضراً بشكل قويّ، رغم أنّ المتلقّي ينتظر النهاية ليعرف ما سيحدث في نهاية ذلك اليوم، فالرواية تدور أحداثها في ليلة حفلة وداع يوسف وريما حتى مساء اليوم التالي، لأنّ النصّ كان يأخذنا إلى النهاية منذ بدء التحقيق، فلين المتَّهمة وما رافق التحقيق، وإضافة إياس إليها مساعداً في ما بعد، لم يكن أمراً مفاجئاً، فالنصّ أراد إبراز الواقع كما هو، لا التوهّم بواقع/ حلم قد يبغيه الحالم بمستقبل أفضل لبلاد عاشت حرباً ضروساً، ليقول للمتلقّي بأن الواقع، والمستقبل، أشدّ قتامة وقساوة.
تكشف الرواية عن علاقات كثيرة ليوسف الضحية، المحامي المشهور، من علاقاته العاطفية، مع لين، وعلاقته مع صفاء، زوجة إياس التي لم يستطع تخطيها بعد مرور أربع سنوات، الأمر الذي كان له الأثر الكبير بالنسبة إلى المتلقّي، وخصوصاً تجاه التعاطف مع إياس، الرجل الشفّاف الصادق المخلص، الذي لم يستطع تخطّي كآبته تجاه حال بلاده الـمُهانة والمفكّكة.
يوهمك النصّ بأنّك أمام رواية نفسية اجتماعية


أما علاقات يوسف الأخرى، فهي علاقاته برجالات الدولة، وآخرين خارجها، الأمر الذي لم توضح لنا الرواية تفاصيله، وتفاصيل تلك العلاقات، وما عرفه يوسف وما كاد يفصح عنه، بل أحالتنا إلى أنه كان في خضمّ قضايا فساد كبيرة لرجال متنفّذين، ولأنّ النصّ أراد للخديعة أن تسيطر، لم يفصح عن خبايا القضايا وتلك العلاقات، لأنّها عادية، طالما البلاد ما زالت محكومة بالماضي، والواقع الأكثر قتامة، ليوجّهنا نحو المستقبل المتوقَّع.
إنّ العُمقَ الذي قدّمه النصّ خلال التداعي الحر، وخلال الحوارات أثناء التحقيق، من شخصيات كثيرة ومتنوعة الانتماءات والفئات العمرية والجنسية، كان سيفاً ذا حدّين بالنسبة إلى النصّ، فمن جهة أظهر قدرة الكاتب على تحميل شخوصه مسؤولية التعبير بشكل واعٍ أو غير واعٍ عن خباياها، بأسلوب متقَن فيه من التحليل النفسي الكثير، وفيه من فلسفة الكاتب ومواقفه تجاه العالم الكثير أيضاً، نفسيّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً... إلا أنّ التشابه في صياغة العبارات عبر الأسلوب اللغوي والفلسفيّ الخاص بالكاتب نفسه، جعل صدور بعض الأفكار وبأساليب لغوية متقنة، عن بعض الشخصيات، أمراً غير مقنع، فالتفاوت حضر عبر علاقات الشخصيات ببعضها وبالحدث وبالزمان، لكنه لم يستطع فصله كلّيّاً عبر الأسلوب.
رواية «الآن بدأت حياتي» هي رواية الناس عن الناس، رواية سومر شحادة عن ناسه في مدينته التي بقي فيها، رواية قاسية عن استمرار الفساد واستشراسه بعدما ظنّ أنه انتصر، رواية عن المخدوعين البسطاء منّا، وعن الحالمين بغدٍ أفضل، رواية عن الخيانة وقساوتها معهما تعددت أسباب من يريد تبريرها. هي رواية عنّا، وعن حياتنا التي نحتاج إلى ما يجعلنا نبدؤها من جديد إن أصابتها انتكاسات وتحوّلات لم نكن نخطط لها، ولكنها في بلادنا، مع كلّ الأسف والحزن والكره لواقع تلك البلاد، تبدأ مع تداعيها ونهايتها، مع فضيحة وتهمة بالقتل زوراً، ومستقبلٍ لا يبشّر إلا بالشرّ، حياة إياس التي تنتهي معه الرواية كما بدأت، إياس المواطن العاديّ، الذي يقول مع بداية نهاية حياته الوادعة العادية الكئيبة، «الآن بدأت حياتي».