انشغلت بالفقيه والفيلسوف الأندلسي ابن رشد لمدة، بسبب مقولات سادت عن جدوى استعادة أفكار رجل عاش قبل ما يزيد عن ألف عام، ومدى أهمية منجزه للثقافة العربية، أو التقليل من شأنه على ألسنة بعض المحسوبين علينا دعاة للتنوير والعقلانية، في الوقت الذي أرى فيه نوعاً من «تمجيد» الأفكار الصوفية وأيقوناته وأبرزها الرومي أو ابن عربي وسواهما من أقطاب المتصوّفة، محاولاً إيجاد تفسير لهذا كله. بعد جولة من القراءات التي حاولت أن أعمّقها بقدر الطاقة، تبيّنت أنّ ثمة فروقاً مذهلة في تناول الفكر العربي لأفكار ابن رشد مقارنة بالغرب. فالتناول الشرقي العربي، باستثناء دراسات الباحثين المغاربيين، يتّسم بنوع من العمومية. ولا أريد اتهامها بالسطحية والاتكاء على مصادر محدودة، سواء كانت مدوّنات كتّاب «التاريخ الأندلسي» أو الكتاب الشهير لأرنست رينان الذي نشر عام 1850 تقريباً بعنوان «ابن رشد والرشدية». هذا الكتاب اكتشفه وقدّمه للثقافة العربية المفكر فرح أنطون الذي خاض سجالاً واسعاً كان بين أطرافه رشيد رضا، ثم الشيخ محمد عبده... سجال انتصر فيه فرح أنطون لأفكار ابن رشد، وكتب عنه المفكر المصري سلامة موسى قائلاً: «وقد تحطم فرح أنطون بما وقع فيه من مناقشات تاريخية مع الشيخ محمد عبده بسبب إرنست رينان، وتحطم إرنست رينان بسبب كتابه عن المسيح، ومثل هذه المعارك الأدبية تحتاج إلى الشرح الذي لا يسمح له هذا الفصل، ولكن قصارى ما أقول: إن فرح أنطون نقل عن رينان اضطهاد الحكومات الإسلامية للأحرار، فردَّ عليه الشيخ محمد عبده بأن اضطهاد الحكومات المسيحية كان أكبر وأقسى، ودارت المساجلات بين الإثنين، هذا يكتب في الجامعة، وهذا يكتب في المنار، ولم يكن الجمهور المثقف يتحمّل في ذلك الوقت الوهج اللاسع من هذه المساجلات. وانهزم فرح ورحل إلى أميركا كي يعود بعد ذلك إلى مصر وينغمس في الثورة الوطنية إلى حب سعد. لكن هذه السجالات؛ وخصوصاً ما يتعلّق فيها بابن رشد وأفكاره، كانت بين أهم ما يمكن أن يفيد القارئ حول أهمية فكر ابن رشد، ثم لاحقاً تبنّى عدد من المثقفين شرح أفكار ابن رشده وإعادة نشر كتبه وأبرزهم الدكتور عابد الجابري رحمه الله.
ولعل أهم ما يمكن ملاحظته في تناول ابن رشد (1126-1198) أنّ الكثير من الكتابات التي تناولته في الشرق ركزت على موقعه كفقيه وعلى بعض الأخطاء التي قام بها في تفسير أرسطو بسبب أخطاء ترجمة كلمتَي «كوميديا» و«تراجيديا» على يد مترجمين أمثال اسحق بن متى وغيره، أو على السجال مع الإمام الغزالي، مع ميل مشوب بالهوى للتيار الذي يمثله الغزالي الذي كفّر الفلاسفة، وليس انحيازاً إلى فكر ابن رشد الذي أوجد صلة وثيقة بين الفلسفة والشريعة. أما الغرب، فلم يقتصر على دراسته التفصيلية لأفكار أبي الوليد، التي بدأت مع المدرسة الرشدية في القرن الثالث عشر، وهي التي مهّدت للدراسة الموسوعية التي قام بها باحثون في القرن الخامس عشر وما بعده مروراً بإرنست رينان في القرن التاسع عشر، وبسببه أُعيد إحياء أفكار ابن رشد عربياً، ولو على استحياء، ثم وصولاً إلى جيل معاصر في إسبانيا وفرنسا من الباحثين والفلاسفة من بينهم مثلاً دومينيك اورفوا «ابن رشد... طموحات مثقف مسلم»، أو جان باتيست برونيه الذي أصدر كتابين في غاية الأهمية هما «ابن رشد المقلق»، الذي تناول فيه أسباب إساءة فهم ابن رشد في القرن الثالث عشر وشيطنته في أوروبا على يد توما الأكويني، ثم كتاب «أنا أتخيل: فضاء المقدرة عند ابن رشد» الذي أعاد اكتشاف عبقرية فيلسوف قرطبة، وتصوّره للعقل، بوصفه قوة مشتركة لدى الإنسانية، بينما كان الخيال عنده هو الباعث على التفكير… على أساس أن التفكر ليس نتاجاً نهائياً للعقل، بل هو نتاج الخيال. كأنه يطلق صيحة جديدة على لسان ابن رشد قوامها «أنا أتخيل إذن أنا موجود».
أما أهمية تأثير ابن رشد والفلاسفة المسلمين، فلا يزال مستمراً إلى اليوم في الغرب على عكس ما نعتقد، وبالتأكيد على عكس ما يحدث لدينا من إهمال لفكر رجل أحرقت كتبه ونفي خارج مدينته وأقصيت أفكاره لعقود طويلة من الساحة الفكرية العربية. حول تأثير الثقافة الإسلامية العربية في العصور الوسطى على الغرب، يقول برونيه: «التأثير كبير وهائل، وهذا واضح وجليّ إلى درجة أننا لا نستطيع فهم الفكر الغربي فهماً صحيحاً ودقيقاً من دون الفكر العربي. أعني بذلك الفكر الذي كُتب باللغة العربية في الوسط الإسلامي. والقرون الوسطى اللاتينية التي تنطلق منها الفلسفة الغربية لم تكن لتوجد مطلقاً كما توجد الآن لولا الفلسفة العربية الإسلامية، وخصوصاً علم الكلام الذي كان واحداً من مصادرها العربية العديدة. في القرن الثالث عشر، كانت الجامعات الأوربية تقرأ أرسطو عبر ابن سينا (توفي في عام 1037) وابن رشد (توفي في عام 1198). وكان الفكر الأرسطي الأوروبي يسترشد في كل شيء بالقراءات العربية التي تقدم المفاهيم والقضايا المتعلقة بالميتافيزيقا وكذلك بعلم النفس وعلم الفلك وبشكل أعمّ بالعلوم كافة. واليوم، لا نستطيع فهم الفيلسوف الفرنسي ديكارت أو الهولندي سبينوزا فهماً شاملاً إنْ تغاضينا عن الفلسفة العربية، ذلك لأننا لا نفهم من دونها ما الذي يستمران فيه ولا ما الذي ينفصلان عنه».
ويرى في اللغة العربية ميزة كبيرةً يشرحها بقوله: «مسألة اللغة مسألة جوهرية على وجه التحديد، فعندما نقرأ اللاتينية المستعملة في جامعات القرون الوسطى نجد أنها لغة تقنية جداً، فهي تستوعب «تقنية» اللغة العربية التي كانت هي نفسها قد تكيّفت من أجل التعبير عن الفكر اللاتيني. فاللاتينية تطورت بالعربية التي طورت نفسها، وهي كذلك اغتنت منها. من هنا نستطيع استخلاص الدرس التالي، وهو درس بسيط ولكنه جوهري يرتبط بالعلاقة بين الثقافة اللاتينية والثقافة العربية: لا يقع الفكر العربي خارج الفكر اللاتيني، وهو ليس ضداً له، ولا آخر مختلفاً عنه، وهو ليس مصدره الوحيد بالطبع، ولكنه عامل رئيس فيه».
هناك إهمال لفكر رجل أُحرقت كتبه ونُفي خارج مدينته وأقصيت أفكاره لعقود طويلة من الساحة الفكرية العربية


في ثقافتنا، اهتمام كبير في المقابل بابن عربي كما أسلفت وما يحيل إليه تيّار اشتهر بما عرف بالحب الإلهي. أعتقد أن استعادة ابن رشد مهمة لكسر نمطية الرؤية السائدة عن ابن عربي في مجتمعات تجعل من الفكر مجرّد عمليات التذاذ فكري وروحي. وهو رجل لديه سيرة جذابة، ويتمتع بلغة فاتنة وأفكاره عن الإلهام والكشف الإلهي والعالم الروحي لها صدى كبير في الشرق والغرب. أحياناً أقول إنّه في مجتمعات شاعت فيها الأفكار الروحانية وأصداء الإشراقات الصوفية واستعيد فيها ابن عربي أو مدونات العشق الإلهي المثيلة لما ساد في الغرب والشرق مع موضة الرومي، أين ذهبت بها؟ أو أين ذهب بنا هذا كله؟ في الحقيقة لا أعتقد أننا ذهبنا أبعد من مرحلة جديدة من الدروشة. الدروشة بمعنى ربط التحولات المادية في العالم بالممارسات التي تحمل طابعاً روحياً. من ذلك مثلاً الاعتقاد السائد بأنَّ التزام الناس الشعائرَ الدينيةَ، أو حتى إعلان تطبيق الشريعة في بلد ما، أو وصول أشخاص معروفين بالتدين إلى سدة الحكم، سوف يؤدي بصورة شبه أوتوماتيكية إلى تحول في الحياة والاقتصاد، بحيث تتنزَّل النعم والبركات على الناس من دون سعي ولا حساب كما يقول مالك بن نبي على سبيل المثال. أنا أعتقد أن ابن رشد رفض الدروشة بهذا المعنى وكان مهتماً بالفكر وتأكيد العلاقة الوثيقة بين الشريعة والفلسفة والإصلاح الاجتماعي بشكل حقيقي.
ولهذا أعتقد أننا في حاجة ماسة إلى فكر ابن رشد، ولا يعني ذلك إقصاء ابن عربي بالتأكيد، لكن مجرد فهم الضرورة الواجبة لاستعادة ابن رشد الآن وهنا.

* كاتب مصري