يُحمر الشقيف، جنوب لبنان، 1970.لو علمت «حسنة حرَيبي» أنّ الغيوم السوداء ستحتشد في سماء أسرتها، هل كانت قراراتُها ستختلف؟
لو عرف زوجها علي علّيق ما قد يكسره ولدُه جودت من عادات شبه مقدّسة لدى كثيرين، ما الذي كان سيُغيّره من رتابة الحياة عمّا كان سائداً من طرق العيش والأمنيات؟
تقف حسنة مبتسمة في درب عودتها من الحقل إلى الدار، تضع عن رأسها وعاءً ضخماً ملأته بأوراق «العريش»، تتأمّل شجيرة علّيق تمتدّ خلف الصخور؛ تتحوّل فروعها جذوراً ثم تستنبت فروعاً جديـدة، وهكذا رأت هي زوجَها؛ غصناً من عائلة تُشبه اسمَها تماماً، يعيش معها أيّاماً تُشبه أيّام عائلات القرية، على مرمَى حجر من «قلعة الشقيف». كان لهم أقرباء وجيران، كلّهم لم يتوقّعوا ما سيمرّ عليهم، وما سيجعل زمان الضيعة ذكرياتٍ متحوّلة كجذور العلّيق.
زمان الضيعة ذاك، تعدّدت مشاهده عند الأسرة المزدحمة، تعدّدت أشغاله، أمنياته، وأفكاره.

قلعة الشقيف (وكالة وفا ـــ 1980)

هنا أبو حسين ينهض فيجد زوجته حسنة قد نفضت نعاسها، وجاءت من كرم العنب بالأوراق، يبدآن معاً بإطعام الماعز والأغنام، وحلب البقرات بأيديهما؛ إذ لا آلات عندهما و«لا من يحزنون». ما إن تشتدّ أشعة الصباح فوق الحجر والمدر، وتأتي بدفئه، حتى تحين اللحظة التي حُدّدتْ من أجل راحة الرجل والتقاط أنفاسه، فتناديه لفطوره، وهو يهمّ بإخراج الدجاجات من القن، شعاره مثل شعبيّ: «لا تحبس نفْساً أنت قادر على أن تحرّرها».
يستيقظ أفراد البيت تباعاً. يساعدون بما يقدرون عليه؛ من حمل أعواد الحطب، إلى نقل غسيل للأمّ لتطويه، أو ليتعاونوا في توضيبه في الخزائن. ثم يحين موعد الحصاد في الخارج.
يلتهم الأبناء فطورهم، لقمة صعتر ممّا زرعوه وقطفوه بأيديهم الصغيرة والمتورّمة أحياناً، دقّته مطرقة الأمّ وساعدها الأب لتموينه، يضيفون عليها رشّة زيت الزيتون. والزيتون هم «حوّشوه» ورصّوه في جلسات عائليّة، نال رذاذ عصيره من ثيابهم ووجوههم، ثم حُمل جزء منه إلى المعصرة. ما ألذّ الطعام من تراب نكشوه وسقوه ماء الحب وعرَقه!
تحدّق أم حسين في أولادها مبتسمة؛ أرادت ألّا يكتفوا بهذه الأوقات. صمّمت أن يتعلموا، وفي أحسن المدارس أيضاً. إنها لا تنجب ليعيش الأطفال في هذه الحياة وحسب، فالمهمّ أن يصبحوا ناجحين، حاملين للمسؤوليّة.
تتذكّر عزوبيّتها، فتهزّ رأسها، كأنّها تستغرب حالها قبل عمر المسؤوليّة عن حماية أسرة وعمران بيت وتربية أولاد.
عُرفت حَسنة اسماً على مسمّى؛ «حُسن» أو «حُسنى» أو «أم حسين»؛ مهما اختلفت لهجات عارفيها في مناداتها، فهي عندهم تكتنز معنى الحسن. طلّة تلتفت الرقاب نحوها، ترفل بهمّة الصبايا، تتنقل من «جلّ» إلى تنّور، تغرس المساكب وتشعل المواقد، حتى يحمرّ الكرزُ على خدّي وجهها الثلجيّ الدائري.
تزوّجَته، وهو ابن المجبّر العربي ناصر علّيق المقصود من كلّ سكّان القرى المجاورة. رأته بطلاً من ثوّار العرب، لم تملّ أحاديثه عن زمن تدفّق اللّاجئين من فلسطين، وكم تنهّدت من أجل ألمه من غدر الذين تخلّوا عنها. لا تنسى يوم كان يهرّب بارودة إلى الثوّار أيّام الفرنسيّين، وقتها، تلقّى صفعة من مُقرَّبين، وشاية أسلمته إلى الجنود؛ أُنهكت قوّته في ليلة تعذيب وتحقيق، وتلفّظ بمقولةٍ ردّدها في ما بعد أيضاً: «هالطريق مليان غدر يا إم حسين!».
تمسح وجهها متنهّدة، وتُفكّر: ما أطيب قلبه! ما رآه من خيانة بعض المدّعين دفعه ليقول ما قاله، ولكنه لم يمنعه من احترام الصادقين. وظلّت تراه غصناً أخضر في عينيها الواسعتين الخضراوين، تراه ليّناً متسامحاً، لم يؤلمها بفعل، وإن حكى ما يزعج فسرعان ما يجبر الخاطر كما يجبر أبوه كسور العظام.
هناك، كثيرٌ من العجائز كانوا حولهم، يصلّون ويصومون، لكنهم لا يُجبرون صغيراً على فعلٍ ديني، ولا يفرضون القوانين على الأولاد لكي يُصلّوا ولا لكي يتركوا الصلاة إن فعلوا. واعتاد الأبناء أن ينظروا بعيون مفتوحة؛ تحفظ ذاكراتهم صوراً، منها ما يدخل قلوبهم، ومنها ما يعكّر صفوها، فيسألون عنها. هنا «حريّة» تعني وصول «الأوكسيجين» إلى أدمغة البنين والبنات، وهم يكبرون، فيكتشفون ويعملون، ومنهم جودت الذي سيبهر الآخرين بغير المألوف.
من يرى جودت الصغير وهو ابن إحدى عشرة سنة، يراه مصفّفاً شعره الداكن اللامع، يفرقه نحو اليمين. فيبرز حاجباه المتباعدان الطويلان، فوق عينين كبيرتين، تحملان أهداباً كثيفة وطويلة، فيهما لون النهر إذا انعكس فيه لون السماء ذات صيف.
يعمل الصبي مع إخوانه، ويحاول أن يشبههم، بينما يشبهه أصغرهم في الذكور رفعت، مع مسافة أقلّ بين الحاجبين والعيون. منذ أن مشى رفعت على قدميه وهو يدور حول أخيه، ولا يتفرّق عن أقران الطفولة، يتعلّمون في المدرسة نفسها، يزرعون معاً، ويجمعون الغلال معاً.
حين يأتي يوم توزيع بطاقات العلامات في مدرسة يُحمر الرسميّة، يلبس جودت أنظف الثياب، ويلمّع حذائه؛ فهذا يوم مختلف عند جميع التلاميذ، ينادي الناظر:
- جودت علي علّيق، ناجح.
نعم، «خلص السيرتيفيكا»، رغم ظروف الدرس المتقطّع مع متاعب العمل، يركض نحو والديه، يصفّ قدميه فوق التراب، ويمدّ يده بالشهادة، ينظر إلى الأعلى وإلى جانبيه، كأنّه يداري سروراً أو فخراً خفيّاً؛ لقد تكلّل الانتظار فرحاً.
يصرّح صديق الطفولة «فارس» مبتسماً لنجاحهما معاً: «النجاح إنجاز بحدّ ذاته!».
فارس وجودت متصاحبان ومتجاوران منذ نعومة الأظافر، لكن هل علما ما سيفيض في شبابهما من الصحبة والجيرة؟ يضحكان، ثم يعودان بعد برهة إلى رمي البذور في الأرض أو تقليمها أو سقايتها.
- ما بتتعب يا زلمي؟
يسأل الصديق ضاحكاً، وهو يعرف الجواب؛ فحين يتعب جودت من زرعٍ، ينطلق إلى حصاد زرعٍ آخر، وحين يتعب من رعي المواشي، يبدّل عمله إلى المشاركة في بناء الغرف التي يضيفها الأهل إلى السكن، غرفة إثر غرفة. هذه هي الولدنة: عمل وعمل وعمل!
يتفتّح الربيع، ويفوح عطره. يعدو جودت بين أفياء أشجار يُحمر. اشتهرت هذه الأفياء بالزيتون والتين البري والغار. كم سرح الصبي بين عشب المردكوش، وإكليل الجبل، والعيزقان والطيّون، يتمرّغ عليها، ولكنه يحنو على الدحنون وشقائق النعمان!
عندما تحين فرصة والأهل يسمحون، تصدُر دعوتُه لصديقه، جذلانَ مسروراً: «هيّا سريعاً إلى النهر».
- يا عيني على النهر، مع جودت السبّيح الممتاز!
يقرّر فارس، وهو يعلم أنّه ما من أحد من الرفاق يجاري جودت في السباحة، ويُسرِعان.
الجلوس على الضفاف تقليدٌ غير مخطط له، يجلسان طويلاً، يستمعان إلى معزوفة الخرير، مع حفيف أغصان الأشجار التي يهزّها الهواء، ويراقبان عوداً يجري مع الماء هنا، وعوداً يعلق عند الضفاف.
يصرّح جودت أنه تمنّى لو يصل الماء جرّاً إلى البيوت، بدلاً من نقل الأوعية الذي يخلع الأكتاف؛ سترتاح عندها أمّه من نداء: «املأ الحاووز، يا جودات. انتبه للدلو يا جودات».
السمك أسرع من جودت في النهر، فكيف يلتقطانه؟ يلمحان انسياب بعض «الحنكليسات»، يحاولان التقاط الأفراخ بالصنّارة؛ تغطس وتبتعد.
- اليوم فاشل، يا جودت.
- عندي فكرة!
- أنتغدّى بندورة وخيار؟
يصمت ولا يردّ، يخرجان ويتمشّيان ويدفعان الحصى بأقدامهما.
في اليوم التالي يفاجئ جودت صديقه وهو يحضر إلى الصيد، يحمل مصباحاً يعمل على الغاز.
- ما هذا؟ «لوكس»؟
- قلت لك أمس: عندي فكرة.
ينزل جودت إلى الضفة برفق، يوجّه الإضاءة إلى صفحة الماء، يرى فارس الأسماك تطفو باتجاه النور ويهمّ بالصراخ، فيشير جودت بالصمت، واضعاً أنامله على شفتيه، ثم يصطادها، ويمدّ يديه إلى صديقه ليحظى بحصّته.
ما كانا يفعلانه هو ما أسمياه لاحقاً «هواية» أو «حرفة». الصيد كان لعبتهما، وكان معيشة وطعاماً. الشاطر كان يقتني طابة، لا، بل ربما المُترف. فلا وقت لدى أبناء المزارعين لمثل رياضة «كرة القدم» التي ستنتشر في الضيعة بعد عقود.
ما إن يترك الصبي جودت النهر حتى يمضي بين الأشجار في حقول الشقيف، التي يسمّيها الأطفال «غابات»، خصوصاً من ناحية أرنون.
يمرّ مع رفيقه أمام جامع القرية الصغير، لا يكاد يُسمع صوت من الداخل. أحياناً «يميّلان» إلى الفناء الهادئ؛ يستطلعان المكان والعجائز هنا وهناك، ويخرجان. أسراب «الدوريّ» في ساحته، تغري بالاندفاع نحو البيت لأخذ العدّة، وللذهاب إلى صيد العصافير.
إن عاد الخريف تُقضى النهارات في أحراج الزيتون، لينجز التلاميذ «التحويش» في موسمه. وسرعان ما يرتدون زيّ المدرسة، ويمشون إليها.
يركض جودت فور إكمال الفروض إلى صيد العصافير، وتقليم المساكب وقطف ما نضج من الخضار، يحتضنها كأنّه والد يحضن طفله. تلاحقه ضحكات الطفل رفعت. هذه الخيرات حياة انتمى إليها، وعرفها سحراً في عيون من حوله.
إن حلّ الصيف تُضاف إلى التقاط دفئه أعمال مختلفة؛ من ترصّد السمك وصيده في النهر، إلى القطف في كروم العنب، وشكّ أوراق الدخّان المتحوّلة إلى اللون البني. وقت «القطيفة» في الفجر، وعند الصباح يبدأ عمل الشكّ.
تُشكّ أوراق التبغ بالميابر والخيطان، تعلّق «الرُبُط»، أي مجموعة الخيطان بسقف الغرفة لتتعرض للهواء وتنشف تماماً. يأتي موسم «التصفيط» ثم «التدنيك» في الطرود، وبعد ذلك تسلَّم «للريجي».
جودت يعمل في «الدخان» مثل إخوته الذكور، يصبر أكثر، لا يتململ ولا يُسوّف. يستطيع التحمّل طويلاً جالساً مع العاملين والعاملات من دون تذمّر. تغيّر نوع عمل الفتيان مرّة جديدة، حين وضع جودت علّيق خمسة عشر عاماً خلف ظهره، ولم يترك زياراته الدوريّة إلى النهر؛ ظلَّ يشاكس «السمّيكات» و«البوري»، ويصغي إلى بوح الماء المتدفّق، ولكن، آن أوان البدء في صناعة الفحم، والنهر هو المكان الأنسب لتلك الصناعة، واسع كفايةً في الهواء الطلق، يمكن إشعال النار عند ضفافه، من دون حدوث أي أضرار على السلامة العامة.
طلوع السلم درجة درجة، ولا مجال لانطلاق عمل «المشحرة» قبل خطوات تمهيديّة وأساس. يجب أن يكوّم الخشب ويُغطيه بالتراب ثم يعطيه شعلة، ويتركه في حالة احتراق للقشرة الخارجية عدّة أيّام؛ العمل يعلّم الهدوء والانتظار. يحترق القليل من الخشب بسبب دخول القليل من الهواء على مدى نهاراتٍ وليالٍ. يسهر جودت في الطبيعة على ضوء القمر أو «سراج الكاز» أو «لوكس الغاز». يزوّد الجزءُ المحترقُ بقيةَ الخشب بالحرارة اللازمة ليحترق ويتحوّل إلى فحم. إن لم يحترق الخشب على حرارة معينة فلن يكون نافعاً.
كم أحرق الفتى الأكوام، وغرق في «الشحتار» الأسود! لا حصاد من دون ألم. كم علا السعال من صدره، كما يعلو دخان الاحتراق نحو السماء!
تمرُّ خيالات في خاطره، وهو يتأمّل السماء ومساحة التقائها بالجبل، يغشاه الضباب الذي يخفي الوادي، يتأمّل وكأنّه يريد أن يعرف ماذا يخبّئ حيناً بعد حين حتى كبُر وغلظ صوتُه!
لم يدرِ كم ستكون بين عمليات التفحيم وحياته القادمة أوجه شبه. كان يجلس منتظراً أيّاماً حتى تحترق القشور الخارجية لما كوّمه من الأعواد.
بعد تقطيع الفحم يأتي نقله إلى مكان مناسب، ثم تأتي مرحلة البيع والشراء لتأمين اللقمة وطموحاتٍ مفتوحة.
هل ملّ الصبيّ اختلاف الأشغال من الصيد إلى التحطيب إلى صناعة الفحم؟ لم يسأله أحد، لكن ثمّة أسئلة أخرى بدأت تغزو جمجمته، صار يطرحها على نفسه، فتى مفكّراً أو محلّلاً، يطلقها أمام من يظن أن لديه جواباً جديداً أو مقنِعاً، وثمّة أسئلة ستتحوّل إلى «نوعية» متبدّلة في سنوات لم تطل كثيراً.
وما برح جودت يسرح في عمله، كما يسرح في الشروق والغروب والوادي والجبل والطرقات والبيوت والنهر والشجر وحياة الأسماك والطيور، كأنّه يناجيها مناجاة خفيّة، كأنّه يسمع سكونها ويفهم لغتها، ويدور بينهما الغزل والتغنّي بالجمال!
كلا، لم يكن الوالدان يعلمان أن ملامح تغيّر ابنهما «جودت علّيق» ستظهر، وستحلّق أمنيات غريبة، وسيصبح حلمه في توفير فضاء لتلك الأمنيات، وستتوجّع الأسرة بغصّته، وستتلوها غصص، وستتلوّن أعواد العلّيق وثماره، وسيُنسيهما تغيُّر دهرهما كلّ تلك الصعوبات في حياتهما القروية.

(*) الفصل الأوَّل من رواية بالعنوان نفسه للكاتبة نجوى الموسوي، مستوحاة من سيرة الشهيدَين جودت ورفعت عليق، صدرت حديثاً عن «دار أسفار للثقافة والإعلام» في بيروت.