تتميّز القصة القصيرة عن غيرها من باقي الأجناس الأدبية، بأنها في كل مرة تُكتب، تكشف عن شيء جديد، عن علاقة جديدة باللغة وبالبناء القصصي، فهي تجربة كتابة متجددة في كل مرة، وقد اعتبر غي دو موسابان أنّ «أفضل تعبير عن اللحظات العابرة يكمن في القصة القصيرة». أما القاص السوري المعروف زكريا تامر، فيرجع اختياره للقصة القصيرة «لكونها أداة فنية غنية في التعبير تتحدّى كاتبها وتتيح له المجال لتقديم الدليل على إطالته، وموهبته ومدى إخلاصه لبيئته وإنسانها».وقد تميزت القصة القصيرة بوضوحها وصراحتها، إذ تكاد تخلو من التملّق الذي قد يذخر به الشعر، ومن الأساطير التي ترتكز عليها المقامات. إذا ولد فن القصة القصيرة من رحم الألم والمعاناة، فكان هدفه عكس صورة الواقع، ومحاولة محاكاة الأحداث الواقعية عبر قالب قصصي للتعبير عن جغرافيا شعورية ومكانية واسعة، يطرح عبرها أفكاره تجاه ما يحدث.


من هنا يمكن أن ندخل إلى باكورة السورية علا الجبر «طبّع أنا عربي» (دار شيبيلا للنشر والتوزيع» ـــ سوريا). عبر أربع عشرة قصة قصيرة، تحاول الجبر رصد العوالم المحيطة بها، وهنا لم تغفل الكاتبة عشر سنوات من الحرب الدامية في سوريا التي أكلت الأخضر واليابس، فكانت هناك حصة لا بأس فيها من القصص: «بالذبح جيناكم»، و«في هذا الباص»، و«علا نظافة» حيث ترصد الحرب الدامية، والنزوح، والخوف وفقدان الأمل في النجاة. لم تكن الحرب وحدها خلفيةً لقصص الجبر، إنما استفادت من تداعيات الحرب على المواطن السوري الذي هدم جدار الخوف، لكن فقد الأمل في حياة أفضل، وباتت حياته عبارة عن طوابير تنتظر ما يمكن أن يأتي. حياة روتينية أكلها وحش الفساد وسيطر عليها انقطاع الكهرباء، وشحّ المياه والعوز والحاجة كما في قصة «هاتف».
تصوّر الجبر الإنسان السوري في معاناته التي لا تنتهي وقلقه ويأسه، وعجزه وضياعه وسط دوامة الحرب وتداعياتها من أمراض المجتمع، كالنفاق، والفساد والمحسوبيات، والتقاليد البائدة كغسل العار، فكل قصة تبدأ من تفصيل صغير تنسج الحكاية، تبدأ من الخاص إلى العام والمعلن، محمّلة سردها المكتنز ما تريد قوله.
لا تتصنع علا الجبر، ولا تزخرف، بل تقول الأشياء كما هي. ولا ترسم عالماً مثالياً. إنه الواقع بكل آلامه وأخطائه وجراحاته يطبق بقوة على نصّها، كأنها فصّلته على مقاس جراحاتنا وآلامنا.
منحت الكاتبة مجموعتها عنوان القصة الأولى، واختيار هذا العنوان بالتحديد كعتبة لدخول عوالم المجموعة نقطة تُحسب لها، كونه على علاقة بما يجري الآن في فلسطين سواء أمن قريب أم من بعيد، ومن جهة أخرى للدلالات والإيحاءات التي يمكن أن ترمي بظلالها على المتلقي ما أن يقرأ العنوان، فتشدّ القارئ إلى النص كما تشد شجرة وارفة الناس إلى ظلالها في يوم قيظ شديد. فالقصة عبارة عن حوار بين كاتبة وبطل قصتها الفدائي، الذي اختار بندقيته ليدافع عن أرضه، وقد أدرك تخلّي الجميع عنه. إنه وحده الآن على الأرض وما من أحد. يهاجم أعتى جيوش العالم وحده.
البطل في القصة يواجه الكاتبة التي تبدو كأنها حال الحكومات العربية التي تريد منه أن يترك سلاحه ويوقّع معاهدة السلام أو يطبّع مع الكيان الصهيوني، ولكنه يرفض ويصرّ على بندقيته. تغير له المصائر والدروب، ولكنه يصرّ على بندقيته ويخاطب الكاتبة قائلاً: «اتركي القلم من يدك أنا وحدي صحيح، وسأكتب النهاية وحدي هذه المرة. حمل بندقيته ومضى ليكتب النهاية، ولكنّني مزّقت الورقة» (ص11).
تبدو شخصيات الجبر قريبة جداً كأنّها أشخاص التقينا بهم، أو ربما تحدثنا معهم، أو سمعنا قصصهم أثناء الحرب، أو عشنا بعضها في روتين الحياة اليومية البائسة. هكذا جعلتنا قريبين من عوالمها التي نسجتها من تفصيل صغير، لينتهي إلى قصة تلامس عوالم متنوعة، لترسم بذلك العالم كما تراه من دون إضافات، لا كما يجب أن يكون. وقد انحازت إلى الإنسان، وآلامه، وعزلته، وقلقه، ويأسه كبؤرة أساسية صبّت عليها كل اهتمامها الإبداعي.
تصوّر الإنسان السوري في معاناته التي لا تنتهي


لا تزخرف ولا تنمق. هكذا يبدو أسلوبها بسيطاً سلساً، كمن يرسم على لوحة وتأتي ضربة الفرشاة لتخلق الفرق .ثمة سرد ناعم تتابع فيه الأحداث، تتنوع فيه العلاقات بين الراوي والمروي له، وتستخدم فيه تقنيات متعدّدة، لعل أهمها التكرار الذي ظهر في قصة «في هذا الباص»، حيث تتكرّر جملة «وجوه ساهمة وعيون نصف مفتوحة تحدّق في اللاشيء»، حوالى ثلاث مرات بهدف التأكيد المعنوي على الحالة النفسية التي وصل إليها الإنسان السوري من تكرار مشاهد القتل التي لم تعد خبراً عاجلاً وإنما خبراً يومياً.
لا تنوّع الجبر كثيراً في استخدامها للضمائر في سردها، فهي غالباً ما تستخدم ضمير الـ «هو»، أو ضمير الشخص الثالث، مع استخدامٍ خجولٍ لضمير الأنا كما في قصة «طبّع أنا عربي» وقصة «على نظافة». واستخدامها لضمير الشخص الثالث، كان وسيلة ذكية للتواري خلفها كساردة، فتمرر ما تشاء من أفكار وآراء، ما جنّبها السقوط في فخ الأنا الذي قد يجرّ إلى سوء فهم العمل السردي. كما أنه أتاح لها معرفة شخصياتها، وأحداث السرد وكل ما يخص عملية القصّ بشكل عميق. وهذا ما جعل المتلقّي واقعاً تحت اللعبة الفنية التي تشكّل اللغة أداتها والشخصيات ممثلاً فيها، فيعتقد من لا علم له بالخدعة السردية أنّ ما يحكيه السارد في نصه هو ما كان بالفعل.
روت شهرزاد حكاياتها، وفتقت جراحاً بالكاد ضمدناها وروت عجزنا وقلقنا وهشاشتنا وخذلاننا وتركتنا هناك نبحث عن ذواتنا التي قهرها الخوف والعجز والفقر والحروب.