تبدأ القاصّة شيخة حليوى ابنة قرية ذيل العِرج البدويّة على سفوح جبل الكرمل الفلسطينيّة، مجموعتها القصصية «طريق النّحل» (صدرت طبعتها الثّانية أخيراً عن «دار النهضة العربيّة» في بيروت) بقصّة بعنوان «حيفا اغتالت جديلتي» لتصوّر لنا صراعاً نفسيّاً تعيشه طفلةٌ انتقلت مع أمّها المطلّقة وأخيها من حياة البداوة إلى حياة المدنيّة في حيفا. يبدأ هذا الصراع بمجرد وصولها إلى باب مدرسة راهبات الناصرة في حيفا، حيث ستتعرّض للتنمّر من زميلاتها رغم نجاحها في التبرّؤ من لهجتها البدويّة الفاضحة، ولسببين استعصى عليها إخفاؤهما: اسمها البدوي، وجديلتها الطويلة التي تُعتبر بمثابة إرث بداوةٍ يقصم ظهرها. بالتالي، تنجح القاصّة في نقل ملامح حياةٍ كاملةٍ بما يسودها من صراعات طبقيّة وعنصريّة وجَندريّة، وبتكثيفٍ عالٍ، عبر طفلةٍ بكلّ ما تحمله من براءة وتساؤلات وأحزان تكسر القلب، تثور على مجتمعٍ ماهرٍ في قصّ جناحيك وتحجيمك، فتذبح جديلتها، لتُشير حليوى بذلك إلى أهمية وأد الكثير من العادات والموروثات التي تصبغ المجتمعات فتُقيّدها وتُبقيها رهينة التخلّف.

وتستكمل في «سأكون هنا» الحديث عن البداوة وعلاقة الابنة بالأمّ التي ورثت العصبية والغضب كلعنةٍ تنتقل جيلاً عبر جيل، مُستخدمةً ألفاظاً بدويّةً تستمدّها من أصلها، لتؤكّد على قيمة الهويّة والأرض كأيّ فلسطينيّ أصيل، وممّا جاء فيها: «كلّ ما أخفيته عنها ما كنت أراهُ يندرج في إطار «الجِذِبْ» (الكذب)، ولم يكن يستحقّ ما تُنزله بي من عِقاب بعد أن يصفعها «جِذبي» ويُحرجها أمام الآخرين. كنت أحتاجه، الكذب، كما أحتاج أن أكون، أن أكون منهنّ: طوني، جوليا، مها، إيهاب، نادرة، تشارلي. أحتاجه حتّى أتسلّل من خيمة البداوة وأعيش منفاي المؤقّت بسلامٍ، أحتاجه كي أقتل القبائل، وتُحبّني هي، وهي كان حبُّها عميقاً بارداً جارحاً. لا يكاد يطلُّ بسمةً أو قبلةً متردّدةً إلّا و«تُكْصُف» عمره، كما «تُكْصف» عمري بدعائها عليّ في لحظات غضبها. سَوّدت وِجهي كُدّام الرّاهبة! خلّيتيني كَدِ اللُكمَة، شْنو وِدها تُكول عنّي هسّا؟ مي عارْفة تربّي بِنتها؟ -يُمّة...-حُمّة وحيّة جَدرة! ما تستَحي عحالج. وِدّج تُدُشْري؟ تِجذْبي علَيّ؟ والله لَكْصف عُمرِج! الراهبة البريطانية وأمّي تفصل بينهما عصور من النّهضة وتلتقيان في ضرورة تهذيبي. الأولى تنعتني بالغجريّة كلّما خالفت قوانين المدرسة الصارمة، والثّانية تخشى أن أصير غجريّة يوماً ما. أنجو من شُرك البداوة لأقع في فخّ الغجر».
تستمر حليوى في «كالنجوم يسقطن من السماء» في تصوير عالم النّساء الموشوم بالعار إذا ما مُسّت بكارتهنّ حتّى بمجرد شائعة أو كلام، وسط مجتمع ذكوريّ، حياةُ البنت فيه قائمةٌ على كلمةٍ من «الحبّابة» التي وظيفتها تفحّص العذارى. تستكمل حليوى سيرة النساء في «فستان ورديّ»، فتروي لنا كيف تتسلّل أصابع الأنوثة إلى الجسد لتهتمّ به وتحصد زرعه، رابطةً الحكاية بالأرض -الأمّ- وسنابل القمح ومواسم الحصاد؛ ثمّ تصل إلى قصّة «عليّ» التي قد يشي عنوانها بدايةً باسم رجل، لكنّها لا تبتعد عن عالم النساء، فعليّ الزّوج العاشق الذي يقف ليتقبّل العزاء بزوجته وَضحى التي اصطلحت النسوة على مناداتها بلقب زوجها «وَضحى المصطفى»، والتي لا يُريد أن يُصدق موتها. ففي شرع البداوة، ثمّة أمورٌ كثيرةٌ لا تموت وإن دُفِنَت تحت التراب.
تضيء على مجتمع البداوة وتقاليده ومَحظوراته

وتستمرّ حليوى في رصد عالم النساء، وهذه المرّة مع «أفعى» التي تحكي فيها عن نعيمة التي تغسل جُثث النساء الميتات، وما يحدث من نميمةٍ بعد غسلها جثة امرأةٍ وشمت أفعى في موضعين من جسدها الغض، لتأخذنا حليوى برحلة عن المحرمات والدين والآيات التي تحكيها نعيمة، حتّى تغدو تلك الأفعى حديث النسوة وحُلُم الرّجال. تعود حليوى مجدداً إلى الأمّ وأطفال لا حول لهم والفقر والزوج الظالم في «مدن منزوعة الرّوح». تحكي عن قوّة الكلمة وتأثيرها، حواراً قصيراً، قد يبدو عابراً، لكنّه يُشكّل حافزاً للأمّ لانتزاع روحها: «المرّة الأولى هي القاتلة ولا شيء يؤلم بعدها. صدّقيني. انزعي منك شيئاً ما، وادفنيه في مكانٍ ما وانسيه. مثل ماذا؟ خوفِك، خجلِك، روحِك مثلاً». ثمّ إلى قرية أمّ الزّينات الفلسطينية التي يُغري اسمها بالجمال والحبّ، عبر «الحبّ كلّه حبّيته فيك». تحدّثنا المؤلفة عن عادات البدو ومحرماتهم وأوّلها الحبّ، فالبدويّ مضياف لديه كلّ ما يشتهي الضّيف ويُحبّ، ما عدا أن تُحبّ العذارى. تقول حليوى: «الرجال في أمّ الزّينات لا يثقون إلّا بالنّساء اللواتي تجاوزن الشّباب والجمال، فلا يُخشى عليهنّ من الفتنة، وهنّ فقط يتوليْن تلقين عذارى القريّة هذا الناموس المقدّس: ما عندينا بنات يحبَّنْ...». تروي لنا كيف تختفي العذارى اللواتي يعشقن ويغنّين، الواحدة تلو الأخرى. تتابع حليوى في باقي قصص مجموعتها رصد عوالم النساء ومعاناتهن، ومجتمع البداوة، وتقاليده ومَحظوراته، ومعالمه وعوالمه، وما يسوده من عَصبية وتعصّب، وما يُروى فيه من أساطير تجعل الخوف سِمة أساسيّة لنسائه، إلّا قلّة منهنّ يتمرّدن فيكون نصيبهنّ الرحيل بمعناه المجازيّ أو الاصطلاحيّ.