ما يحدث اليوم في سائر المشرق، لا في غزَّة فقط، مِنْ حيْوَنَةٍ للآخر من قبل الغرب وتبرير للإبادة والتوسع الكولونيالي بالصمت أو بالدعم، ليس بتاتاً بالغريب ولا بالمستغرَب على قوى استعماريَّة سجلُّها عريق في الإجرام وبناء الإمبراطوريات فوق جماجمِ أهالي البلدان التي احتلّوها. فقد كانت هذه الأعلام الإجراميَّة منذ عام 1492 (سقوط الأندلس وغزو أميركا) محاطةً بترسانة قانونيّة (صوريَّة) جعلها الغربُ جزءاً من ثقافتها وأيديولوجيتها الممهِّدة والمرافقة لسطوة السلاح. هذا بالضَّبط ما يؤرِّخ له بيري أندرسون في دراسة بعنوان «معيار التحضّر» استندنا إليها لرسم المعالم الأساسيَّة لمقالتنا هذه.بيري أندرسون مؤرِّخ وأكاديمي ماركسي (مواليد لندن عام 1938)، جال جامعاتِ الغرب محاضراً وأستاذاً جامعياً. يحكي طُرفَة معبِّرة عن تجواله الجامعيِّ قائلاً: «في الولايات المتحدة الأميركية عوملتُ كغريب بسبب لَكْنَتِي الإنكليزية، وكغريب في إنكلترا بسبب لكنتي الأميركية، وكغريب في إيرلندا بسبب لكنتي الانكليزية، وأخيراً كغريب في إنكلترا بسبب لكنتي الإيرلندية». لكنَّ الأبرزَ في مساره الشخصي هو تولِّيه تحرير «مجلَّة اليسار الجديد» الأمميَّة المَنْزَع، الإنكليزيَّة المقرِّ، لولايتين: بين عامَي 1962 و 1982 وعامَي 2000 و 2003، فاتحاً بذلك صفحاتها (هي وذراعها الأهم دار Verso اليساريَّة) لأول الأبحاث الجنينيَّة في الدراسات المابعد-كولونياليَّة والدراسات الثقافية ومقالات في مناهضة الصهيونية الموازية لنصرة الشعب الفلسطيني.

لوحة زيتية تعود إلى القرن الثامن عشر تؤرِّخ لغزو المكسيك: الغازي هِيرْنان كورتس وهو يقف على أبواب عاصمة إمبراطورية الأزتك في المكسيك في عام 1521 (من مقتنيات مكتبة الكونغرس)

سيلاحظ القارئ العربي، في صُلب الموضوع، إيراد الدَّارس لأسماء مفكّرين إنكليز وألمان وأنواريِّين فرنسيين، كانَ إلى زمنٍ قريبٍ يعتبرهم روَّاداً لحريَّة التفكير والدفاع عن تحرُّر الشعوب؛ وكم ستكون خيبتُه كبيرة عندما سيقف على مواقفهم المتمركِزة حول الذات الأوروبيَّة في مصلحيَّتها، المبرِّرة للتفوق العرقي الأبيض في ذرائعيَّتِها. لم يسقط الغرب أخلاقياً في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. لقد كانَ تفاحةً فاسدةً تحمل دودة الهيمنة الاستعماريَّة منذ بداية عصور الكشوفات (اقرأها: غزوات) الجغرافيَّة. يفتتح أندرسون دراسته بالتساؤل الآتي: هل يمكننا تصوُّر أن العلاقات الدولية مقنَّنة ومفروضة على بقية العالم مِنْ قِبَلِ بلدان في أميركا اللاتينية، أو أفريقيا، أو القوقاز، أو آسيا؟ ليس الأمرُ بِالسَّهلِ، ولسبب وجيه: منذ القرن السابع عشر، كان القانون الدولي يعكس مصالح القوى العظمى، إلا أن أشكالها المعاصرة، مثل الأمم المتحدة، تظل بمثابة الملاذ غير الفعَّال للأسف في كثير من الأحيان بالنسبة إلى الدول الخاضعة للهيمنة. إن القانون الدولي، بمعناه المعاصر، يثير حتماً فكرة العلاقات بين الدول ذات السيادة. ويُعتقد في الغرب أنّ هذه المعاهدات بدأت تأخذ شكلاً مقنَّناً إلى حد ما مع «معاهدات وستفاليا» التي أُبْرِمَتْ في عام 1648 لوضع حد لحرب الثلاثين عاماً. مع ذلك، فإن ولادة النظرية حول هذه المسألة، سبقت هذه اللحظة التأسيسية، إذ يعود تاريخها إلى ثلاثينيات القرن السادس عشر وكتابات اللاهوتي الإسباني فرانسيسكو دي فيتوريا. أكثرَ مِنِ اهتمامِه بالعلاقات بين الدول الأوروبية (كانت إسبانيا في ذلك الوقت أقواها على الإطلاق) كان فيتوريا مهتمّاً بتلك العلاقات التي حافظ عليها الأوروبيون (بدءاً بالإسبان طبعاً) مع السكان المكتشَفين حديثاً في الأميركيتين.
يفصِّل أندرسون بعدئذٍ، في أصناف القوانين الدولية التي مرَّت بها التشريعات الغربية: وبالاعتماد على قانون الأمم jus gentium الروماني، استعرض فيتوريا الأسس المحتمَلة لغزو إسبانيا للعالم الجديد. هل تم الاستيلاء على أرض غير مأهولة؟ هل اسْتَتْبَعَهم البابا إلى تاج إسبانيا؟ هل من واجب المسيحيين تمسيحُ الوثنيين بالقوة إذا لزم الأمر؟ لقد رفض كل هذه الأسباب لطرح سبب آخر: لقد انتهك المتوحشون الذين يسكنون الأميركيّتين حقاً عالمياً، وهو «الحق في الاتصال» (jus communicandi)، الذي يتوافق مع حرية السفر والتجارة أينما كان، إلى جانب حرية التبشير بالحقيقة المسيحية من أجل الأهالي. وبما أن الهنود، كما سمّاهم الغزاة، عرقلوا ممارسة هذه الحريات، كان من حق الإسبان الرد بالسلاح وبناء الحصون ومصادرة الأراضي. وإذا أصروا، استحقوا بذلك المصير المخصص لأسوأ أعدائهم: النهب والاستعباد. بعبارة أخرى، كانت الهيمنة الإسبانية شرعيّةً تماماً. وبالتالي، فإن الركيزة الحقيقية الأولى لما سنستمر في تسميته «قانون الأمم» لنحو مئتي عام، بُنيت لتبرير التوسع الإسباني. والثانية، والأكثر أهمية، كانت عمل الديبلوماسي الهولندي هُوغُو غروتيوس في بداية القرن السابع عشر. اليوم، يشتهر غروتيوس، بل يحظى بالإعجاب، برسالته في «قانون الحرب والسِّلْم» (De jure belli ac pacis)، التي يرجع تاريخها إلى عام 1625، لكنَّها مصاحِبة لعمل كتبَه قبل عشرين عاماً. عمل ترك بصمةً أكبَرَ على القانون الدولي الحديث. في كتابه «الحق في الاستحواذ» (De jure praedae)، أسَّسَ قانونيّاً لعملٍ غير مسبوق من أعمال النهب، أثار ضجةً كبيرة في جميع أنحاء أوروبا: فقد هاجم أحد أبناء عمومته، وهو قبطان في شركة الهند الشرقية الهولندية، سفينةً برتغالية واستولى عليها: شحنة من النحاس والحرير والخزف والفضة بقيمة إجمالية تبلغ 3 ملايين خولدة ذهبيَّة (أي ما يعادل الإيرادات السنوية الإجماليَّة لإنكلترا). في الفصل الخامس عشر من رسالته، الذي نُشر لاحقاً بشكل منفصل تحت عنوان «حرية البِحَار» (Mare Liberum)، أوضح غروتيوس أن أعالي البحار يجب أن تكون منطقةَ حريةٍ كاملة للدول والشركات الخاصة التي تمتلك جيشاً. ولذلك كان ابن عمه يمارس كلَّ حقوقه. وهذه هي الطريقة التي رأت بها الإمبريالية التجارية الهولندية نفسها شرعيةً بدورِها.

التوسع الأوروبي
يرصد أَنْدِرْسون في سياق مغايِر تحولاً عرفته الشرائع الدوليّة بانكشاف مراميها التوسعيَّة. مع نشرِ رسالة «قانون الحرب والسِّلْم»، كانت هولندا قد وسَّعت مَطَالِبَها لتشمل الاستحواذ على الأراضي، وانتزعت بشكل خاص جزءاً من البرازيل من أيدي البرتغاليين. في أطروحته الشهيرة، أعلن غروتيوس هذه المرة حق الأوروبيين في شنّ حرب ضد أي شعب يعتبرون عاداته همجية، حتى في غياب الاستفزاز. وهو ما اصطُلِحَ عليه بِـ «قانون السيف» (jus gladii): «يجب أن يكون معروفاً أيضاً أنّ الملوك، وأنّ أولئك الذين لديهم سلطة مساوية لسلطة الملوك، لهم الحق في إنزال العقوبة ليس فقط على الجرائم المرتكبة ضدهم وضد رعاياهم، لكن أيضاً بالنسبة إلى تلك التي لا تؤثر عليهم بشكل خاص، التي تنتهك بشكل مفرط حقوق الطبيعة أو حقوق الأشخاص، كيفما كانوا». وبعبارة أخرى، فقد أعطى هذا القانون رخصة بمهاجمة وقهر وقتل أي شخص يقف في طريق التوسع الأوروبي.
إلى هذه الأسس الأولى للقانون الدولي الحديث (قانون التواصل وقانون السَّيف) أضيفت حُجَّتان أُخْرَيَانِ لتبرير الحملات الاستعمارية. استخدم توماس هوبز الديموغرافيا كذريعة: بينما كانت أوروبا مكتظّة بالسكان، كان عدد السكان في الأراضي البعيدة للصيادين وجامعي الثمار قليلاً جداً إلى درجة أنّه كان للمستعمرين الأوروبيين الحق، ليس في «إبادة أولئك الذين يجدونهم هناك، لكن في إجبارهم على التعايش معاً بشكل وثيق. وهذا من دون احتلال مساحات شاسعة من الأراضي، عن طريق قضمِ ما طالوه من أراض». يعدّ هذا الشّكل في الغزو طريقاً واضحة نحو إنشاء محميات مثل تلك التي يمكن أن يتواجد فيها المزيد من الأميركيين الأصليين لاحقاً. (بطبيعة الحال، إذا كان بوسع المرء أن يصدر قراراً بأن هذه الأراضي فارغة، فلن تكون هناك حاجة إلى الاهتمام بمثل هذا المنطق). وقد عزز جون لوك هذه الفكرة المقبولة عموماً عبر تحديد أنه من القانوني تماماً مصادرة الأراضي المرغوبة من السكان الذين استوطنوا هناك إذا لم يتمكنوا من الإفادة منها على أفضل وجه. كان تحسين إنتاجية التربة بمثابة تحقيقٍ للإرادة الإلهية. هكذا، وجدت الأيديولوجية الاستعمارية الأوروبية نفسها في نهاية القرن السابع عشر مغطَّاةً بمجموعة هائلة من المبررات. يلاحظ أندرسون أنّه في القرن التالي، أصبحت العلاقات بين الدول الأوروبية الموضوع الرئيس للكتابات المخصصة للقانون الدولي، في حين شكك العديد من مفكري التنوير، بمن في ذلك دوني ديدرو وآدم سميث وإيمانويل كانط في أخلاقيات العمليات الاستعمارية (من دون الدعوة إلى التَّراجُع عنها). من أبرز الأطروحات المكتوبة في هذه المدة، كانت مقالة الفيلسوف السويسري ايمير دُو فاتّيل «قانون الأمم» (1758)، الذي لاحَظَ فيه ببرود: «إن الأرض ملك للجنس البشري من أجل بقائه: لو أرادت كل أمة منذ البداية أن تخصص لنفسها بلداً شاسعاً، لتعيش هناك فقط عن طريق القنص وصيد الأسماك والفواكه البرية، لما كانت الكرة الأرضية لدينا لِتكفيَ عُشرَ ساكِنَتِها اليوم. ولذلك فإننا لا نحيد عن آراء الطبيعة بتكديس المتوحشين في حدود أضيق». ورغم أن فاتّيل كان متفقاً مع أسلافه بشأن هذه النقطة، فإن عمله كان بمثابة نقطة تحول مفاهيمية عبر اقتراح نسخة أكثر علمانية للقانون الدولي. كانت النزعة التوسعية معه تتدثَّر بلبوس الدين، لكنّ الأخير صار يحتلّ المركز الثاني.
في سياق لم تعد فيه الإمبريالية الأوروبية تستهدف الشعوب التي لا حول لها ولا قوة فقط، بل الإمبراطوريات الشاسعة (ولا سيَّما الآسيوية) وغيرها من الدول المتقدمة الأكثر قدرة على مقاومة اعتداءاتها، برز سؤال جديد: كيف ينبغي تصنيف هذه الدول؟ هل تتمتع بالقدر نفسه من الحقوق كالقوى الأوروبية؟ أجاب مؤتمر فيينا ضمنيّاً على السؤال بمنع الإمبراطورية العثمانية من المشاركة في مؤتمر الأمم الذي كان ينظمه. ورغم أنّه كان ممكناً تفسير هذا الاستبعاد باعتبارات دينية، فقد تشكَّلت عقيدة قانونيَّة أخرى على مدى العقود التالية، وهي «معيار التَّحَضُّر»: لن يوافق الأوروبيون إلا على معاملة الدول التي يعتبرونها «متحضِّرة» على قدم المساواة معها.
لقد أتاح «معيار التحضُّر» إدراج ثلاث فئات من الدول في القائمة السوداء: الدول الإجرامية (أو الدول المارقة في المصطلحات المعاصرة)، مثل كومونة باريس أو المجتمعات الإسلامية المتعصبة، التي ستنضم إليها روسيا إذا استسلمت لنداء العدمية؛ والدول «شبه الهمجيَّة»، التي لا تجادِل في معايير الحضارة الأوروبية بالطريقة نفسها التي كانت عليها سابقاتها، ولكنها لم تجسدها أيضاً (مثل الصين واليابان)؛ وأخيراً، الدول العاجزة أو المنهارة (نتحدث اليوم عن الدول الفاشلة)، التي لا يمكن بالتأكيد اعتبارها جهات فاعلة مسؤولة. إضافة إلى استبعادها من المجتمع الدولي، كان لا بد من إخضاع دول المجموعتين الأولى والثالثة بالقوة. وكما أوضح لوريمر، فإنّ «الشيوعية والعدمية مُدَانَتَان ومحظورتان بموجب القانون الدولي».

المعاهدات مجرّد كلمات من دون السيف
يرسم أَنْدِرسون خطَّ تحوُّلٍ جديد في السياسة والشرائع الدوليَّينِ شهده عام 1884، عندما حسم مؤتمر برلين مصير أفريقيا، كما فعل مؤتمر فيينا مع مصير أوروبا. تقاسمت الدول الأوروبية المجتمِعة في العاصمة الألمانية الكعكة الاستعمارية. ذهبت الحصة الأكبر إلى بلجيكا (الدولة ذاتها التي تأسّس فيها القانون الدولي كنظام) في شكل مؤسّسة خاصة يديرها الملك. وأشاد معهد القانون الدولي، الذي تأسس في بروكسيل قبل نحو عشر سنوات من ذلك، بهذه الاستحواذات الجديدة.
أعقبتَ الحرب العالمية الأولى قمةٌ دولية جديدة: مؤتمر باريس للسلام، الذي نظمته القوى المنتصرة (المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة) وأفضى في عام 1919 إلى توقيع معاهدة فرساي، التي فرضت عقوبات على ألمانيا وأعادت رسم خريطة أوروبا الشرقية ووزعت الأراضي التي نشأت عن تقطيع أوصال الإمبراطورية العثمانية. وقبل أي شيء، أدت إلى إنشاء عصبة الأمم، وهي هيئة دولية مسؤولة عن ضمان «الأمن الجماعي» وضمان إقامة السلام الدائم والعدالة بين الدول. لقد حرصت واشنطن على دمج «عقيدة مونرو» في ميثاق عصبة الأمم نفسها من بين الأدوات «التي تضمن الحفاظ على السلام»، ما يجعل أميركا اللاتينية حديقتَها الخلفيَّة. أما محكمة العدل الدولية الدائمة التي أنشأها هذا المؤتمر في لاهاي، فهي لا تزال تشير حتى اليوم في مادتها 38 إلى «المبادئ العامة للقانون التي تعترف بها الأمم المتحضرة». ومن بين واضعي نظامها الأساسي، كان هناك مؤلِّف مذكرات من ستمائة صفحة يدافع فيها عن السجل الرائع للإدارة البلجيكية للكونغو.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، تم خلط الأوراق. لم تعد هناك سيادة للدول الأوروبية، التي كان معظمها في حالة خراب أو مثقلة بالديون. أنشئت الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو عام 1945، وعملت على إدامة المبدأ الهرمي الموروث من عصبة الأمم. في دراسته المهمَّة «عُرفُ الأرض» التي نُشرت في عام 1950، أكَّد كارل شميت كم كان مفهوم القانون الدولي في القرن التاسع عشر أوروبيّاً، بل متمركزاً على وجه التحديد حول أوروبا. وهكذا، وفقاً له، فإن المفاهيم العالمية المفترضة مثل «الحضارة» أو «الإنسانية» أو «التقدم»، التي تتخلل الفكر الديبلوماسي والتعابير الديبلوماسية، لا تُعْتَبَر صالحة إلا مع إرفاق صفة «أوروبي(ة)» بها.
يقول أندرسون إنّه بعد قرن من الزمان، كانت عملية إضفاء الطابع المؤسساتي تجري على قدم وساق. مع تشكيل من الأمم المتحدة، كتجسيد نهائي للقانون الدولي الذي يكرس ميثاقه سيادة الدول الأعضاء وسلامتها، كانت الولايات المتحدة مشغولة بانتهاك هذه المبادئ. وعلى بعد أميال قليلة من مكان انعقاد المؤتمر الافتتاحي، اعترض فريق استخبارات عسكري متمركز في بريسيديو (حِصن إسباني سابق تحول إلى قاعدة عسكرية) معظَمَ البرقيات المتبادلة بين الوفود وبلدانهم الأصلية. وصلت الاتصالات التي فُكّت شيفرتها على هذا النحو في صباح اليوم التالي إلى طاولة وزير الخارجية ادوارد آر ستيتينيوس، الذي استشارهم أثناء تناول وجبة الإفطار. وكما كتب المؤرخ ستيفِن شلِيزنجر بلهجة مبتهجة عند وصف عملية التجسس المنهجية هذه، فإن الأمم المتحدة كانت «منذ البداية مشروعاً للولايات المتحدة، صممته وزارة الخارجية، وقاده بمهارة رئيسان شاركا فيه شخصياً (..) وفقاً لنزوعات تكريس القوة الأميركية».

اتفاقيَّة متغيّرة الأبعادِ
بعد مرور ستين عاماً، لم يتغير شيء. بينما تنصّ اتفاقية امتيازات وحصانات الأمم المتحدة، التي تمت الموافقة عليها في عام 1946، على أن جميع ممتلكات وأصول المنظمة، «أينما وُجِدَتْ وكيفما كانَ حائزها، معفاة من التفتيش أو الاستيلاء عليها أو مصادرتها أو نزع مِلكِيَّتها أو أي شكل آخر من أشكال التقييد التنفيذي أو الإداري أو القضائي أو التشريعي». فقد اكتُشِفَ في عام 2010 أنّ هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، لم يكن لديها أي اعتبار لهذه القاعدة. في برقية أرسلتها في تموز (يوليو) 2009، أمرت «وكالة الاستخبارات المركزية» (CIA) و«مكتب التحقيقات الفيدرالي» (FBI) وأجهزة الاستخبارات بالحصول على كلمات المرور ومفاتيح التشفير الخاصة بالأمين العام وسفراء الأعضاء الدائمين الأربعة الآخرين في مجلس الأمن، ولكن أيضاً بجمع المعلومات الشخصية (البيانات البيومترية، وعناوين البريد الإلكتروني، وأرقام البطاقات المصرفية، وما إلى ذلك) لمجموعة من المسؤولين الذين يشغلون مناصب رئيسية والمسؤولين المشاركين على الأرض في عمليات حفظ السلام أو البعثات ذات البُعْدِ السياسي. وغنيّ عن القول أنه لا كلينتون ولا حكومة الولايات المتحدة موضِع متابعة قضائيَّة على هذا الانتهاك الصارخ للقانون الدولي، الذي يُفترض أن يحمي مقرَّها: الأمم المتحدة، كما لم يشعر أي صانع قرار أميركي أبداً بالقلق بشأن الفظائع التي ارتُكِبت في حربَي كوريا وفيتنام.
أنشئت المحكمة الجنائية الدولية الخاصَّة بيوغوسلافيا (السابقة) في عام 1993 مِنْ قِبَلِ مجلس الأمن، وكلِّفت بمهمة محاكمة مرتكبي جرائم الحرب التي اقتُرِفَت أثناء تفكك البلاد. وقد عمل المدعي العام الكندي، بالتعاون الوثيق مع منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، على ضمان أن تقع الإدانات بارتكاب جرائم التطهير العرقي بشكل رئيس على الصرب، وهم عدو الأميركيين والأوروبيين، في حين سيتمُّ تجنّب توجيه أيّ تهمة إلى الكرواتيِّين الذين سلّحتهم ودرّبتهم واشنطن لتنفيذ عمليات التطهير العرقي الخاصة بهم وبها. وقد حدث الشيء نفسه بالضبط مع المحكمة الجنائية الدولية، التي أُنْشِئَتْ بناء على طلب مُلِحٍّ من واشنطن، التي لعبت دوراً حاسماً في تطويرها منذ عام 1998. وعند تعديل النسخة الأولى من النظام الأساسي لتوسيع إمكانات توجيه الاتهام إلى المواطنين من الدول غير الموقعة، التي كان ممكناً أن تضع الجنود والطيارين والجلادين وغيرهم من المجرمين الأميركيين في مرمى المحكمة، سارعت إدارة وِيليام كلينتون غاضبةً، إلى إبرام اتفاقيات ثنائية مع أكثر من مئة دولة حيث كان الجيش الأميركي حاضراً من أجل حماية المواطنين الأميركيين من هذه الملاحقات القضائية. وقبل ساعات قليلة من مغادرته البيت الأبيض، أمر كلينتون مندوب الولايات المتحدة بالتوقيع على النظام الأساسي للمحكمة المستقبلية، وهو يعلم جيِّداً أنّ هذا القرار ليس لديه أي فرصة للتصديق عليه مِنْ قِبَلِ الكونغرس. أُنشئت المحكمة الجنائية الدولية رسمياً في عام 2002، موظفةً طاقماً متعاوناً جداً، وقد رفضت بشكل غير مفاجئ التحقيق في العمليات الأميركية أو الأوروبية في العراق وأفغانستان، وصبَّتْ جامَ غضبها على الدول الأفريقية بموجب هذا المبدأ المُضْمَرِ: قانونٌ للأغنياء وقانونٌ آخَرُ للفقراء.
أما مجلس الأمن، الضامن (على الورق) للقانون الدولي، فإن سِجِلَّه يتحدث عن نفسه. في حين أدى احتلال العراق للكويت في عام 1990 إلى فرض عقوبات فورية على بغداد، مصحوبةً برد عسكري تمثّل في حشد ما يقرب من مليون رجل، فإن الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية استمر لأكثر من نصف قرن من دون أن يحرك المجلس ساكناً. وفي الفترة بين عامَي 1998و 1999، لجأت الولايات المتحدة وحلفاؤها ـــ بعد فشلها في تمرير القرار الذي كان من شأنه أن يسمح لها بضرب يوغوسلافيا ــــــ إلى منظمة حلف شمال الأطلسي، في انتهاك صارخ لميثاق الأمم المتحدة، الذي يحظر الحروب العدوانية.
الطبيعة التمييزية للنظام العالمي الذي نشأ أثناء الحرب الباردة تتجلى في معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية


إن الطبيعة التمييزية للنظام العالمي الذي نشأ أثناء الحرب الباردة تتجلى بوضوح أكبر في معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية (1968)، التي تحتفظ فقط للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن بالحق في امتلاك ونشر القنابل الهيدروجينية. أمّا إسرائيل، التي تدوس على هذا الاتفاق، فقد حصلت منذ مدة طويلة على ترسانة نووية ضخمة، لكن لا مجال لذكر هذه الحقيقة. وفي الوقت نفسه، تفرض القوى العظمى عقوبات على كوريا الشمالية وإيران في حين تنكر وجود الترسانة الإسرائيلية؛ وهو مثال بليغ على مفارقات القانون الدولي. مثلما بدأ أندرسون دراسته بسؤال، ختمها بسؤال: هل يعني ذلك أن هذا الحق سيكون خالياً عملياً من أي طابع كوني؟ يجيب: «لا، لأنه كوني بطريقة واحدة على الأقل: حيث تعتمد عليه جميع الدول على هذا الكوكب لضمان الحصانة الديبلوماسية لموظفيها في الخارج، وهو مبدأ يُحترَم من دون قيد أو شرط، بما في ذلك عندما تعلن الدولة المضيفة الحرب على الدولة الممثَّلة». وغني عن القول أن سفارات الدول الكبرى (وغالبية الدول الصغيرة) مليئة بالعملاء العاملين حصرياً في مهام تجسّسية، من دون أي أساس قانوني. وهذه تناقضات لا تساعد أبداً على استعادة القانون الدولي لهيبتِه.
وفقاً لأَنطونيو غرامشي، فإن ممارسة الهيمنة تنطوي على النجاح في تمرير مصلحة معينة كقيمة كونيَّة، تماماً كما يفعل مستعمِلو تعبير «المجتمع الدولي». الهيمنة تعني دائماً ـــ بحكم تعريفها ـــ مزيجاً من الإكراه والموافقة. على الساحة الدولية، يفلت الإكراه في أغلب الأحيان من مقصلةِ القانون، في حين أن الموافقة، إذا أمكن الحصول عليها، تكون بالضرورة أضعف وأكثر خطورة. يعمل القانون الدولي على إخفاء هذا التناقض، إما عبر تزويد الدول بالذرائع الملائمة لتبرير أي عمل ترغب في القيام به، أو عبر تزيين العمل نفسه بزخارف الأخلاق، في انفصال تام عن الواقع. ومن الممكن أيضاً العمل بالدمج بين الموقفين: ليس المدينة الفاضلة أو العذر، بل المدينة الفاضلة كعذر: مسؤولية حماية المواطنين الليبيين لإضفاء الشرعية على تدمير ليبيا، والبحث عن تهدئة المنطقة لتبرير خنق إيران، وما إلى ذلك.
يزعم المدافعون عن هذه المفارقة بكل وقاحة أن وجودَ قانون تنتهكه الدول في الممارسة العملية أفضل من عدم وجود أي قانون على الإطلاق، مستشهدين بالمقولة الشهيرة للا روشفوكو: «النفاق هو التحيّة التي تُقَدّمها الرّذيلة لِلفضيلة». ولكن يمكننا بسهولة عكس هذا القول المأثور وتعريف النفاق على أنه تزييف الفضيلة بالرذيلة لإخفاء المخططات الخبيثة بشكل أفضل. أليس هذا ما تثبته الممارسة التعسفية للسلطة من قبل الأقوياء على الضعفاء أو الحروب القاسية التي تُخاض باسم الحفاظ على السلام؟