أن تقرأ للروائية عبير أسبر، يعني عليك اصطحاب جواز سفرك لتبدأ بالتنقّل ليس فقط بين البلدان، وإنّما بين عوالم أشخاص وحكايات. تُحمّل لُغتها من السّرد والمجاز ما يكفي ليشدّك لتُنهي القراءة في جلسة واحدة تدوم لساعات. ها هي في روايتها الجديدة «ورثة الصمت» (دار هاشيت أنطوان/ نوفل 2024) تأخذك بلغتها الآسرة طواعيةً من قُرى وادي النصارى، التي كان فخر أهلها مقدرتهم على رؤية صواري ميناء طرابلس عند انقشاع الضّباب الأزلي عن قممها، وتحديداً قرية مقلس، إلى نيس وأخيراً مونتريال.

مقلس قرية عائلة قدسيّ الممسوسة بلعنة النّحس جلّابة الكوارث. تدور أحداث الرواية حول أفراد هذه العائلة واضطراباتهم ومخاوفهم التي تعكس النفس البشريّة المعقّدة، وما يرافقها من ردود فعل تأتي نتيجة سلسلة من الأحداث الخارجية التي لا طاقة لنا بها ولا عليها، بدءاً من الطفولة حتّى آخر العمر. تبدأ أحداث النّحس، التي يرويها سامي قدسيّ، مع جده الذي يموت بالسّرطان قبل أن يُكمل الأربعين، ثمّ استشهاد خاله، الابن البكر مطانيوس في حرب 1948، ثمّ موت والدته فكتوريا، تاركةً طفليها سامي وبسمة لأمّها ماريّا الصّلبة كالرّجال، تُصارع الرّب والآلهة لكثرة ما قدّمت من قرابين (زوجها وابنها وابنتها). تفقد بعد زمن بصرها، ليس بسبب الحسرة والبكاء والعلاقة المريبة مع مرض السّكري، بل كما تقول: «بسبب النّحوسات مجتمعةً يا عين ستك». حمّلت حفيدها صلباناً كثيرةً لتدلّ عليه، ولتحميه من غضب الله وأعين الشّرّ، فلم تنفع على كثرتها، إذ اضطر للهجرة هرباً من الخدمة العسكريّة التي استُدعي إليها نتيجة خطأ ورد في اسمه رغم كونه وحيداً، فحُسِم أمر سفره من قبل جدته ووالده وأخته. يصل مدينة نيس الفرنسية ليواجه الاغتراب واختلافات الثقافة والمجتمع. تتوالى خيباته، ويصل إلى الإفلاس، فيضطر للعمل حمّالاً في ميناء، وصبيّ مقهى يمسح الطاولات ويُلملم أحاديثَ الغرباء، وهو الشّاعر الذي درس الهندسة، وأتقن أربع لغات، كتبت له الحياة أن يُحاط بعالم النساء السّريّ، وأن يغرق ضمنه في سيل من الأمزجة الغامضة، واللغة المعوجّة. نساء يُجدن الصّمت والرحيل. بلغةٍ إبداعيّةٍ تصف اسبر هذا العالم على لسانه: «تُغادر النّساء حياتنا بعد إحالتها خواءً، يتركننا لنتلاشى بعدما تأبّطن أذرعتنا لأخذ الصّور الكبيرة الحجم، وثبّتتنا بمسامير ثخينةٍ على حوائط البيوت للمباهاة. ينتزعن منّا الأبناء بعد ربطهم بحبلٍ غير مرئيٍّ، ويغرقنهم بالحنان، بينما يحملن أسماءنا لا لينتمين إلينا، بل كلعبةٍ للتخفيّ عن غلاظ النّفوس. بمهارةٍ يستخدمننا لنحت القصائد فوق جداريّات التّاريخ، وتشييد القصور ورصف الفسحات بالبلاط العاجيّ كي لا تتّسخ أرجلهنّ الحافيات عند التعرّي. كالغزاة الشرسين، نغيّر الخرائط الكونيّة لأجلهنّ، نخلق الجغرافيّات الجديدة، ونعبر البحار حاملين الرّخام والأبنوس المنهوب من بلادٍ بعيدة، لا لشيء فقط كي نؤطّر عوالمهنّ بالصواري والأحلام، ونراقب تبخترهنّ في متعرّجات حياتنا وهنّ يوزعن الحلوى مخلوطةً بإكسير الشبق. يعشقننا فنصبح ملوكاً وقراصنةً، يكرهننا فنصبح خصياناً متخفّين، نُترك لنُقتل بالرغبة، بينما تتآكل أرواحنا من ثقل الرجولة المفتقدة». تستمر كآبته في نيس، إلى أن يلتقي بحبٍّ يُثمر زواجاً هَنيّاً وعملاً لائقاً وطفلةً جميلةً. لكن ما تلبث هذه السعادة أن تنهار بموت الزوجة التي تصفها اسبر على لسان الزّوج العاشق: «كانت معشوقتي قد اختارت طريقها، فعندما رأيتها للمرّة الأولى، كأنّها مثبّتة صوبي بمغناطيس خفيّ، تراقب ما أفعل بذاك الرغيف العجيب، تقف متأمّلةً قامتي وحركة جسدي المتململة المخنوقة من الحرّ، تتابع كلّ تفصيل، ثمّ دون لحظة تردّدٍ بدأت حديثها، ولم نمضِ أبعد من عدّة جملٍ حتّى أخذتني أناييس من يدي إلى المستقبل، إلى العالم الرقميّ، ومنحتني مستقبلاً محترماً، وزواجاً سعيداً، وحباً لم يقهره إلّا موتها.
تصيغ الرواية كملحمة فيها من الأشعار والحكمة والأساطير

سُحرت بأناييس، بحنانها، برائحتها، بمألوفيّة ألوان جسدها، ولفظها القويّ للحروف كسكّان القرى، أحببتها لواقعيّتها، لشجاعتها، ولأنّها فهمت حكايتي من دون أن تبتذلها».
من نيس يغادر وحيداً مع طفلته إلى مونتريال، ليختبر لا صقيع المناخ فقط، بل صقيع الوحدة المُثقَلِ بدورٍ مُضاعفٍ ما بين الأمومة والأبوّة لتربية جانو التي شاءت الأقدار أن تُشبه عمتها حتّى في محاولتها الانتحار بعدما أصبحت صبيةً: «في غرفتها، بدت جانو مشرقةً كشمس في يومٍ ربيعيّ، تناقض ضوء بشرتها مع النهار المختنق بثلوجه في صباح المدينة الرّماديّ، وقفت كوردة نيسان، بشعرها القمحيّ المُجعّد وعينيها شديدتي الزُّرقة كقلب المحيط. لوهلةٍ لم أستطع إلّا تخيّل نانا، وصعقتني الرؤية، شلّني كمّ التشابه بين الابنة وعمّتها، يا لرائحة الموت، يا لطعم الأسى، لقد مُرِّرت اللعنة من جيلٍ إلى جيلٍ والسّلام». العمة بسمة سمّاها حبيب المراهقة «نانا» على اسم قطته، ففرضته على من حولها، حتّى نسي الجميع اسمها المكتوب على شهادة ميلادها قائلةً: «من يريد أن يُدعى بسمة، بينما في استطاعته أن يكون نانا..». تكبر أخاها، وقد شكّلت قناعاته ومبادئه، ومنحته الرغبات عبر أفكارها التي كانت ترميها كقطع ملابسها ورسوماتها. ثارت على الكنيسة والتقاليد، وتزوّجت حبيبها عُمَر ورُزقت منه بحسن الذي دفعها لاحقاً إلى الانتحار بعدما لعنها لزواجها من غير دينها، مُتأثراً بنتائج المحرقة السورية عموماً، وبمدينته حمص «عاصمة الثورة» التي دفعتهم إلى الهجرة إلى مونتريال حيث يُصيبك البرد بالاكتئاب والجمود، وهناك انتحرت عن جسر مرتفع، من دون كلمة وداع، لتعلنَ للكون أنّ لها الكلمة الأخيرة، وأن الموت كالحياة حدثٌ تافهٌ أيضاً.
تستعرض اسبر حكاية كلّ بطل على التوالي، مُبتدئةً كلّ حكايةٍ باقتباسٍ تمهيديٍّ مأخوذٍ من كتابٍ مقدّسٍ أو ملحمةٍ تاريخيّةٍ أو روايةٍ أو قصيدةٍ أو بمثلٍ شعبيٍّ أو حكمةٍ أو موال من التراث، لتصيغ الرواية بالمُجمل كملحمة فيها من الأشعار والحكمة والأساطير والسّرد والحكايات المتداخلة والجغرافيا الواسعة ما يكفي لإمتاع القارئ وتكامل الرواية.