كلما أمعن حسين البرغوثي (1954- 2002) في الغياب، ازداد نصّه حضوراً. قرب إصدار أعماله الكاملة أخيراً (منشورات المتوسط) فرصة لإعادة اكتشاف الشاعر والروائي والأكاديمي الفلسطيني على نطاق عربي أوسع. لطالما كانت حفرياته تقع في منطقة جانبية، لانتسابه إلى «الأقليّة» بوصفه كائناً مستقلاً، يتنزّه على هواه في تقليب التربة، وابتكار نباتات جديدة في مشتله الخاص. وإذا به يحطّم القوالب الجاهزة في كيمياء الكلام، معوّلاً على اشتغالات «الناقد النبوي» في معالجة مأزقه الوجودي، رافضاً ما هو سائد وعمومي وسكوني، ليس في الكتابة فقط، وإنما في سلوكه الحياتي الذي يتأرجح بين الصعلكة والجديّة والفوضى، وترسيخ العقل، من جهةٍ، وتطوير عمل العاطفة، من جهةٍ ثانية.
صورة لحسين البرغوثي وُجدت ضمن مجموعة فرقة «صابرين» (أرشيف «المتحف الفلسطيني الرقمي»)

هكذا بزغ «الضوء الأزرق»، مثل شهاب خاطف، متجاوزاً حدود البلاد على رافعة مشروع «كتاب في جريدة»، لنكتشف صوتاً مختلفاً وجذرياً وتجريبياً، سواء في النبرة أم في انشغالات المعنى في تفكيك «مرض التاريخ». سيباغتنا في الصفحة الأولى من سيرته قائلاً «كنت على حافة الجنون»، وكان عليه أن يعمل على ترتيب فوضاه. وسيردّد مفردات الجنون والقلق والملل في متون كتبه الأخرى بإحالات مختلفة. ولأنّ المكان مصيدة، والمصيدة متاهة، كما يقول، نراه يرتحل بين الأمكنة، وصولاً إلى مسقط الرأس (قرية كوبر في رام الله)، كما دوّنها في «سأكون بين اللوز» موثقاً صراعه مع المرض العضال بما يشبه المرثية، لكن ببسالة الاعترافات الشخصية، عائداً إلى «هذا الجمال الذي تمّت خيانته»، في «نهاية» غير متقنة. ههنا يربكنا صاحب «مرايا سائلة» في تجنيس ما يكتب، نظراً إلى تعدّد مرجعياته وذخيرته المعرفية المتشعبة بين التأملات الفلسفية، والميثولوجيا المحلية، و«الأضداد المتصارعة». لكن هذه الكشوفات لا تخضع للعادي، إنما تتطلّع إلى «بدائل رؤيوية» تفيد في توثيق تاريخ آخر للغة والفكر والروح، تبعاً لاختراقاته للمألوف، والتهكم منه، بقصد زعزعة ما هو مستقر ويقيني. وفي «حجر الورد»، سيجنح صاحب «الفراغ الذي رأى التفاصيل» أكثر نحو الاختلاف والنفور من المتوقّع، بدفع اللغة إلى حدودها القصوى، بالاشتباك مع قيم «الموسيقى المحضة» كما يقول، مستنفراً إيقاعات مختلفة لجهة اللون ودرجات السلّم الموسيقي، وبلاغة التخلّي، بانزياحات صريحة عن الواقع، لتأسيس سطوح أخرى أكثر لمعاناً، بهدم ما يبدو صلباً في المعاش والمألوف، و تالياً، تأثيث حواف النصّ بعرفانية حيناً، وبنشوة الجسد في تحديقة أخرى... مثل عرّاف أعمى، مبدداً ضباب المشهد بإحالات تاريخية وميثولوجية مبهرة في طريقة صهرها وتطريزها في نَفس إيقاعي يعلو ويهبط وفقاً لدرجة اللذّة والترحال من أصفهان إلى طروادة إلى طنجة: «من ليس جديراً بالسرِّ، وافِهِ بالتفسير، قال. من أنت؟ كلّنا غرباء في أرضٍ غريبة تدعى الحياة» يقول. هكذا تذهب اللغة إلى مجرى نهرٍ آخر، ما يجعل صاحبها يعيش في حالة «فصام لغوي» بين ما يلفظه الشارع اليومي، ومتطلبات الخطاب الشعري أو السردي. إلا أنّه بتأثير العمر القصير المؤكد، ورائحة أسرّة المستشفيات، عمل حسين البرغوثي على استثمار موهبته بنهم في مختلف الأجناس الإبداعية بما فيها السينما، والمسرح، وكتابة الأغاني، كمن يدرك بأنه سيغادر المنصّة باكراً، فسعى إلى «نهب كل ما يقوله الشارع» بصوغه على نحوٍ آخر، من أجل ترميم المسافة بين جموحه التخييلي وحضوره الخلّاق، نائياً بنفسه عن الحشود... ألم يقل يوماً «لو نُصبت ملكاً لأهملت مملكتي وانغمستُ في الجنون».