لا يمكن قراءة منتج الروائي المصري حمدي أبو جليل (1967- 2023)، من دون أن تجد نفسك حاضراً بين شخوصه، بل ستجده شخصياً حاضراً بقوة إلى جانبك. هو لم يكن ينفي ذلك، بل يراه ضرورةً أدبية في الوقت الحاضر، منظّراً بأنّه يجب على الروائي أن يكون حاضراً بتجربته ولغته في ما يكتبه. وفي ذلك، نجح أبو جليل بشكل مبهر في ربط الذاتي بالموضوعي بشجاعة وقوة كبيرتين. لدى تتبع مسيرته الأدبية والشخصية، تجدها معجونةً بالتمرد والاختلاف، مع صراحة ووضوح لا يجعلانه أبداً فظاً غليظاً، بل بشوشاً محبوباً في الوسط الأدبي والصحافي، وهو ما جعل خبر وفاته، قبل شهرين تقريباً، أمراً صادماً للجميع حتى للمختلفين معه.الأكيد أنّ تطبيق نظرية أبو جليل في أن يكون الكاتب بطلاً للرواية التي يكتبها، وحاضراً فيها بتجربته الخاصة ومعبّراً عن مجتمعه، أمر صعب على أي كاتب، يزداد صعوبةً عندما يكون الكاتب شخصاً مثل أبو جليل... بدوي نشأ في بيئة شديدة المحافظة؛ ينتمي إلى قبيلة بدوية استوطنت صحراء الفيوم؛ تعتبر أن تقاليدها وأعرافها سرّ قوتها فتحافظ عليها وتحميها، تتمسك بها مثلما تتمسك بلهجتها وعالمها الخاص.
مع ذلك، نجح أبو جليل ـــ عبر ما نشره في مجال الرواية والقصة ــــ في أن يكون مثالاً واضحاً لنجاح فكرته، وإمكانية تطبيقها. حضر في أعماله الأدبية بسيرته الذاتية، وسيرة شخوص عايشهم. وتمكّن من التعبير عن المهمشين، هو الذي كان واحداً منهم، جاء إلى القاهرة في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، شاباً اكتفى بالحصول على تعليم متوسط (دبلوم فني)، عمل في مهن يدوية كعامل بناء (فواعلي). وكأغلب أبناء المهمّشين، هاجر إلى ليبيا للعمل. كان يقول عن قرار السفر إلى هناك: «هناك أنواع للمصريين الذين كانوا يقررون السفر؛ الأشخاص النبهاء يسعون دائماً للسفر إلى أوروبا، والأشخاص النصّ نص يسافرون إلى الخليج، والميح (عديم الإمكانات) يسافرون إلى ليبيا كونها الخيار الأمثل للفقراء. وأنا كنت ميح فاخترت ليبيا». لم تطل فترة سفره إلى ليبيا. عاد إلى قريته في الفيوم، حاملاً فشلاً كبيراً كما قال أكثر من مرة، ثم يقرر النزول إلى القاهرة، محاولاً إيجاد فرصة فيها، سكن مع أبناء طبقته من المهمشين على أطراف المدينة، وعمل في مهن شاقة، قبل أن يكتشف قدرته على الكتابة والتوجه إلى الصحافة.
في مقدمة كتابه الشهير «القاهرة... شوارع وحكايات» (الهيئة المصرية العامة للكتاب- 2008)، كتب مورّطاً القارئ في تفاصيل إقدامه على هذا الكتاب، متحدثاً عن الملابسات التي دفعته إلى إنجازه، لكنه في الحقيقة كتب ملخصاً لشخصيته. وبدلاً من الكتابة برصانة وجدية، شارك القارئ في البوح بسرّ من أسرار شخصيته البدوية: «كنت كأي صحراوي خائفاً ومكروباً، لا يشغلني في القاهرة سوى مكانين: المكان الذي أقيم فيه، والمكان الذي أضطر للرحيل إليه». هكذا كان حمدي يرى دوماً أنه ليس ابن هذه المدينة، رغم أنه كان أحد حراسها، وكتب مؤرّخاً لشوارعها وجوامعها. في آخر أيامه، كان يسعى لإنشاء قصر ثقافة في قريته «دانيال» على حدود صحراء الفيوم الجنوبية، وسط الكثير من معارفه وأصدقائه، ليؤكد للمرة المليون على ارتباطه بأرضه وأهله ومجتمعه.
في عام 1997، نشر مجموعته القصصية الأولى «أسراب النمل»، التي نبّهت الوسط الثقافي إلى ولادة كاتب سيكون له شأن، ثم جاء عام 2000 فنشر مجموعته الثانية «أشياء مطوية بعناية فائقة». مجموعة حصلت على «جائزة الإبداع العربي» في العام نفسه. إلا أن روايته الأولى «لصوص متقاعدون» (2002)، كانت حدثاً ثقافياً مهماً نالت حفاوةً نقديةً كبيرة. ورغم أنها لم تصبح روايةً جماهيرية بالتعريف التجاري للناشرين، إلا أنها كانت مهمة تدور أحداثها في بيت بسيط في حيّ منشية ناصر (منطقة حلوان- جنوب القاهرة)، جسّدت واقع سكانه وطبيعتهم البائسة كنتيجة مباشرة للفقر والعشوائية. في هذه الرواية التي تحتوي على سخرية فلسفية عميقة، نجح حمدي في ما أسماه النقاد «إعادة تعريف الهامش الاجتماعي»، ففيها نرى حياة المهمّشين العادية، من دون أن يدفعنا إلى محاكمتهم ولا التعاطف معهم. أدخلنا أبو جليل بيت «أبو جمال»، حيث عشنا مشكلاتهم وشجارهم اليومي، وتناقضاتهم، ورأينا بأعينهم كيف ينظرون إلى الحياة، أعينهم هم، وليس عيناً غريبة. الأمر نفسه نراه في روايته الثانية «الفاعل» (دار ميريت - 2008)، التي رصدت مجتمع عمّال التراحيل، وطبيعة حياتهم تحت الشمس الحارقة يحملون مواد البناء على ظهورهم ويبنون بيوتاً لن يسكنوها أبداً. في هذه الرواية تجد أبو جليل حاضراً كـ «أجير»، لكنه الأجير المثقف الذي يكتب القصص ويسعى لكتابة رواية ترصد تلك المعاناة من واقع خبرة ومعايشة، بل إنّ القارئ يدرك مع سطور الرواية أنه كان واحداً من أولئك «الفواعلية»، لكنّه كان نموذجهم المثقف الذي يكتب القصص ويحلم بكتابة رواية. نجح حمدي في عدم تكرار نفسه، خلال رصد معاناة هذه الفئة من المصريين وبؤسهم وعالمهم. لم يخلُ العمل من السخرية التي يعتبرها أداةً لتجريد العالم، وليس مجرّد صوت للمهمشين. يقول في أحد لقاءاته إنه «لا يتعمّد السخرية في أعماله وإنما يستخدمها لفهم المتناقضات».
على أي حال، فازت «الفاعل» بـ «جائزة نجيب محفوظ»، التي تقدّمها الجامعة الأميركية في القاهرة، وقالت إدارة الجائزة في حيثيات فوزها إنّها «تبني قاهرة مغايرة... قاهرة الفواعلية الذين شيّدوها وبدلوا وجه الأطلس الأدبي المتعارف عليه إلى الأبد» وترجمها روبن موجر إلى الإنكليزية بعنوان «كلب بلا ذيل».
ورغم البساطة التي كان يتحدث بها حمدي أبو جليل دائماً عن نفسه ومنتجه، إلا أن كلمته في احتفال فوزه بـ «جائزة نجيب محفوظ» تكشف عن مثقف يقدّر نفسه جيداً ويعرف قيمته الأدبية والفنية. قال في كلمته: «شكراً للجائزة واللجنة والجامعة، يا لها من مفاجأة! ويا له من فرح! شكراً لتفهّم الانحراف عن الأستاذ في جائزة الأستاذ، لا، ليس الانحراف وإنما العجز... شكراً لتشجيع العجز، نعم العجز وليس التجاوز، التجاوز يعني القوة، يعني القدرة الجبّارة على استيعاب قيمة جمالية وفكرية، ثم تجاوزها ببساطة، وتطوّر الكتابة ـ كما أفهمه ـ يعود، في جانب منه، إلى الضعف، العجز عن الوفاء لشروط النماذج السابقة، أقصد طبعاً النماذج العظيمة السابقة. دائماً أتخيل مسار الكتابة على هيئة مجرى مائي به ربوات عالية، راسخة، وعجز الماء عن المرور فوقها، أو تجاوزها، يدفعه إلى مسارات جديدة تماماً، بل أحياناً مناقضة لمجراه القديم. العجز دافع لتطوّر الكتابة، لاندفاعها في مسارات جديدة، هناك دوافع أخرى بالطبع كاختلاف ظروف الحياة والوعي بها، لكن العجز، ربما لقسوته، يحتلّ مكانة الدفاع الأوجه، العجز عن الوفاء لنموذج سابق يدفع لإنجاز خطوة ما، ترتاد منطقة جديدة وتؤكد العجز في الوقت نفسه، خطوة تجمع بين الفرح بجِدتها ومغايرتها، والحسرة من وضوح عجزها». ما يميّز أبو جليل في كتاباته عن المهمشين أنه كتب عنهم بصدق وانحياز ومن دون نفاق في الوقت ذاته، فكان ناقداً لأفكارهم وتقاليدهم. يظهر هذا في كل أعماله تقريباً، ومن بينها رواية «يدي الحجرية» (الهيئة المصرية العامة للكتاب- 2021). يقول على لسان البطل/ الراوي الذي هو حمدي في الواقع: «زرنا خرابة أم البريقات وهي قرية كاملة من العصر البيزنطي.. كان جدي عولة يكمن فيها البهايم المسروقة.. لكن إذا كانت حمير جدي بعرت فوق الكنوز البيزنطية، فهناك من أكرمها ونعمها في أوروبا». بشكل واضح، يسخر أبو جليل من ثقافة وتقاليد مجتمعه البدوي الذي يعامل كنوز البيزنطيين بإهمال وعدم اكتراث، فيخبئ فيها البهائم والحمير، بينما تعامل في أوروبا، وقتها، معاملةً مختلفة.
في «يدي الحجرية» (2021) آخر رواية نشرها في حياته، واصل التأريخ للبدو وهجراتهم، وتعامل السلطة معهم من أيام الدولة الفاطمية وحتى عصر محمد علي، ودورهم في الأحداث التاريخية الكبرى، من بينها ثورة 1919. فعل ذلك من دون أن تتحول روايته إلى كتاب تاريخ، بل كان هناك مساران واضحان: الأول تاريخي والثاني ذاتي، بالجمع بين الشخصي والعام، مستعملاً سيرته الذاتية كإحدى شخصيات الرواية، راصداً أثناء ذلك التحولات التي مرّت على البدو من تركهم الحياة البدوية إلى الاستقرار في البيوت. في هذا الطريق، استخدم لغة تشبه الكلام، كما كان يحبّ أن يقول. وفي روايته «قيام وانهيار الصاد شين» (دار ميريت- 2018)، التي ترجمها هنري ديفيز إلى الإنكليزية بعنوان «الرجال الذين ابتلعوا الشمس»، خاض مغامرة كبيرة، في استخدامه لهجات عربية متعددة: البدوية والفيومية والصعيدية والقاهرية والليبية والمغربية، فالرواية تتناول مجتمع البدو المصريين الذين انتقلوا في سبعينيات القرن الماضي إلى ليبيا، راصداً بشكل تاريخي تلك القبائل ومعاركها. وبالتوازي مع هذا الخط التاريخي، كانت هجرة البطل غير النظامية من ليبيا إلى إيطاليا، ومن خلال هاتين الهجرتين، نجح أبو جليل في نقل قسوة حياة المهاجرين والظلم الواقع عليهم ومشكلاتهم وصراعاتهم. ظلّ يكتب تلك الرواية وينقّح فيها نحو عشر سنوات، يقول: «ماذا أعمل في السنوات العشر؟ أبحث عن النبرة، عن اللغة الأشبه بلغة الكلام. ليست العامية وإن كنت أحب الكتابة بالعامية، لكن أقصد سهولة الكلام وخفته ودقته وقدرته على الإقناع. وربما يرجع ذلك إلى أنني ابن الثقافة البدوية وهي ثقافة الشفاهة، ثقافة الكلام».
سعى إلى نقد التاريخ الإسلامي ومساءلته من خلال إعادة قراءته، وعدم الاستسلام للأفكار الراسخة


هذه البيئة والثقافة والخلفية التي جاء منها أبو جليل، اعتبرها الروائي الراحل الكبير خيري شلبي (1938– 2011)، في الكلمة التي تصدّرت رواية «يدي الحجرية»، أحد أوجه تميزه وتفرده بل نجاحه. أورد شلبي في المقدّمة: «بحكم علاقتي الإنسانية والعملية بحمدي أبو جليل، كنت أستشف من حديثه عن ذكرياته، من نوادره عن أهله ومن حكاياته الكثيرة عن أعيانهم، تفاصيل شديدة الثراء، فإن تصادف وكان من بين أبناء هذا العالم شاب موهوب في فن الرواية، فإنه حريّ بأن يكون -بتفاصيل هذا العالم وحده- روائياً كبيراً يناطح قامات كثيرة كانت تتمنى لو أنها رُزقت ولو بشطر ضئيل من هذا العالم الثري الذي خرج منه كاتبنا الشاب حمدي أبو جليل».
خيري شلبي هو أحد الآباء الثلاثة الذين احتضنوا حمدي وساعدوه في بداية مشواره الأدبي، إلى جانب الروائي والقاص الراحل الكبير محمد مستجاب (1938 ـ 2005)، والروائي والقاص الراحل إبراهيم أصلان (1935 - 2012) والثلاثة من جيل الستينيات الذي لعب دوراً كبيراً في تطوّر فن الرواية المصرية والعربية. وعلى رغم أنّ لكلٍّ منهم عالمه الخاص، وأسلوبه الفريد، إلا أن ما يجمعهم الثلاثة مع أبو جليل أنهم لم يكملوا مشوارهم التعليمي، ولم يحصلوا على شهادات. دخلوا الوسط الثقافي بإبداعهم وانحيازهم إلى عوالم خاصة نجحوا في التعبير عنها بإتقان. وبالتالي لم يجد حمدي أبو جليل وسطهم حرجاً في أن يتحدث كما يريد وبحرية تامة، وهو متأكّد بأنّ أساتذته شيوخ وآباء يعاملونه كابن مدلل. يقول حمدي في حوار صحافي عن علاقته بالأساتذة الثلاثة: «أعتقد أنني تأثرت بهم جميعاً، تأثرت بمستجاب في الولع بالسخرية، وبإبراهيم أصلان في تدقيق الوعي باللغة والسخرية، وبخيري شلبي في اتساع العالم وتنوعه والتعمق في الإنسان وواقعه. وأعتقد أنني استوعبتهم جميعاً.. وأتوقع أنهم لو كانوا أحياء لفرحوا باستيعاب تلميذهم».
علاقة حمدي بإبراهيم أصلان تحديداً كانت خاصة جداً. يكفي أنه قبل أيام على وفاة حمدي أبو جليل، نشر على صفحته على فايسبوك صورة تجمعه به معلّقاً عليها: «واحشني يا عم إبراهيم والله» فأبو جليل عمل مع أصلان مديراً لتحرير سلسلة «آفاق عربية»، وعاش معه أزمة رواية حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر»، وكان المتهم الثاني بعد أصلان، وخضع للتحقيق في القضية. هذه الجرأة في المواجهة ظهرت أيضاً في نقده للأفكار الدينية المحافظة التي كان يراها خطراً حقيقياً على الحياة. ورغم معرفته بأنّه يعيش في مجتمع محافظ، يعتبر أنّ أي حديث عن الدين بشكل مخالف هو «كفر بين»، إلا أنه كان قادراً على المواجهة، وسعى إلى نقد التاريخ الإسلامي ومساءلته من خلال إعادة قراءته، وعدم الاستسلام للأفكار الراسخة عن ثوابت الدين. وفي كتابه «نحن ضحايا عك» (2017)، اختار هدم الثوابت بالفعل بإعادة النظر إليها، بدايةً من اختيار الفترة الزمنية التي تلت وفاة رسول الإسلام وما حدث من اجتماع السقيفة، الذي اعتبره أبو جليل أنه الاجتماع الذي أسس نظام الحكم في الإسلام.
تناول بجرأة وشجاعة قضايا شائكة بالنسبة إلى الغالبية من المسلمين، من بينها زوجات الرسول، وعلاقته بمسألة تعدد الزوجات. وانتقل إلى القضايا الشائكة التي حدثت في عهد الخلفاء الراشدين من أهمها حروب المرتدّين. من خلال كتابه، حرّض قارئه على إعمال عقله النقدي والتفكير في ما يقال له من مشايخ وما يقرأه في كتبهم، وألا يستسلموا لما يصلهم، وهذه الجرأة نفسها ظهرت في جريدة «المقال»، آخر صحيفة عمل فيها، وكان مسؤولاً فيها عن صفحات «يرحمكم الله» التي تخصّصت في تجديد الخطاب الديني المصري.