جاءت رواية «ديك أمي» (دار الشروق ــ 2023) التي صدرت بعد رحيل مؤلفها حمدي أبو جليل، متحرّرة بشكل كبير من القيود كافةً سواء على مستوى الكتابة أو الأفكار، كما أنها يمكن أن تعتبر درة رواياته الخمس، ليس لأنها الأخيرة، لكن لأنها عبرت بالفعل عن طريقته وحبه في أن يكتب الكتّاب عن أنفسهم متحررين من قيود ومخاوف أنهم لا يكتبون الرواية كما يجب!الناقد والشاعر المصري شعبان يوسف، يقول لنا إنّ أبو جليل صبّ تركيزه في رواية «ديك أمي» على الشخصية البدوية، وإن «ظهرت بالفعل من قبل في مجموعاته القصصية، لكنها كانت تطلّ من بعيد بين الحين والآخر. أما في «ديك أمي»، فكانت شخصية البدوي مركزة جداً وهي الأساس في الأحداث».


ويرى يوسف أن أبو جليل كان متحرراً جداً في هذه الرواية بداية من عنوانها «ديك أمي» الذي قد يثير الجدل وأشكال وتقنيات السرد، والإفراط في الاستخدام المتنوع للهجات، وإن فعله بشكل قليل في روايتيه «لصوص متقاعدون» و«الفاعل».
يعود أبو جليل في روايته مرة أخرى إلى كيفية قيام محمد علي والي مصر بين عامي 1805-1848 بالتخلص من المماليك بالذبح، والبدو بالتوطين عن طريق إعطائهم الأراضي الزراعية، وهنا يذكر شعبان يوسف أن أبو جليل كلما عاد إلى هذه القصة، أضاف إليها تفاصيل جديدة، وأرّخ لها، ويتابع «قدّم أبو جليل تأريخاً روائياً للبدو الغربيين منذ أيام محمد علي حاكياً عن كيفية تخلص الوالي منهم بتوزيع الأراضي الزراعية عليهم، لتبدأ معركتهم الجديدة في أنهم لا يحبون الزراعة ويستجلبون الفلاحين لزراعتها». ويعتبر يوسف أن مسألة الزراعة والفلاحة التي لا يحبها رجال البدو ـــ كما كان أبوه في الرواية يبيع الأرض ليعيش من مالها بدلاً من زراعتها ـــ «كانت مدخلاً لأسطرة أم الراوي التي تمسّكت بالأرض في أهم مشهد في حياتها حين رفضت البيع ومزّقت العقد. ورغم أنّ لهجتها بدوية، إلا أنها فلاحة تقليدية وليست كالبدو الذين لا يحبون الأرض والفلاحة ويبيعون الأرض وينفقون منها على الأكل والعلاج».
يرى الناقد المصري أن بدء الرواية بحكي الراوي عن قفزه على سور المنزل في الفيوم عند الدخول إليه بدلاً من الدخول عبر الطريق العادي المؤدي إليه هو «بداية لما سيأتي بعد ذلك من تقليده لوالدته في كثير من الأمور». وعن إمكانية الخلط هنا بين شخصية الراوي والكاتب حمدي أبو جليل نفسه يقول شعبان يوسف: «حمدي لا يعطي فرصة لخيال القارئ، هو يقول ابنتي هالة وهي ابنته في الحقيقة، ويتحدث عن ابنه هشام وهو كذلك في الحقيقة» ويضيف أنه يعتبر أن «ديك أمي» سيرة ذاتية لحمدي أبو جليل بلا جدال «سيرة روائية، ليست كالسير المعروفة لكنها ببناء روائي، وتواريخ ومشاهد تكاد تشبه ما فعله طه حسين في الأيام».
ويتوقف يوسف عند لغة «ديك أمي»، مشيراً إلى أنّ أبو جليل استخدم ثلاثة مستويات من اللهجة في الرواية: البدوية، والعامية والفصيحة عندما يتحدث الراوي «من دون تسلسل روائي، لكن عن طريق تواريخ ومشاهد»، إضافة إلى قيامه بتكرار بعض الأجزاء في أكثر من حكاية للتأكيد على ما يريد قوله وأهميته.
ويفصل يوسف مسألة المرأة في «ديك أمي» أنها كانت دائماً أسطورة، شجاعة ومضيافة مثل أمه، وإن كانت فيها صفات طريفة كالنميمة، كما يتحدث عن شخصية «خود» التي فاجأت القبيلة ورجالها جميعاً حين خطبت فيهم وقالت إنّ زوجها لا يستطيع القيام بواجباته الزوجية! ويشير الناقد شعبان يوسف إلى أن شخصية «أم حليجة» التي جاءت في الرواية بأنها عاشت وسط الفيوم ولقبت بـ «قاطعة العرب» أي قاتلتهم يبدو أنها كانت «أسطورية» لإظهار مكانة المرأة وكيف أنها توسطت بين حاكم مصر سعيد باشا ابن محمد علي والبدو حين أرادوا المغادرة إلى ليبيا. ويعتبر يوسف أن وصف أبو جليل لها أسطوري تماماً: «كانت تعيش في سرايا مبلطة بريالات الفضة والذهب وبها شخشيخة عجيبة تمتص أشعة الشمس طوال النهار وتبثها طوال الليل». ويضع شعبان يوسف قيام أبو جليل بالربط بين أمه والكاتب سلمان رشدي في صفحة الرواية الأخيرة، فسلمان رشدي ولد يوم تحرر الهند بلده الأصلي، أما أم أبو جليل وإن لم يَعرف تاريخ ولادتها، فقد تزوجت عام 1948 «عام نكستنا الأولى» كما يقول الروائي الراحل وينهي حكايته/ أسطورته عن أمه بقوله: «أمي بعيدة جداً في قلب الصحراء، حيث يمكن زفاف عروستين من عزبة الحوش إلى عزبة أبو طاحون في عربية واحدة، بينما الأمة تنكب نكبته الأكبر في العصر الحديث».