تحتل كتابة السير الذاتية مكانةً خاصة في الأدب العربي والأجنبي، ربما لأنها في إطار الحكي عن شخص ما وحياته، حيث تتداعى وتتشابك الأفكار مع آخرين عاصروه أو تعامل معهم، أو يحدث أن يعلّق صاحب المذكرت على أحداث محددة، ليجد القارئ نفسه أمام خلاصة عصور عدة، وشذرات من الآراء حول هذا أو ذاك. في دولة مثل مصر، تكون هذه السير الذاتية بمثابة الضوء الذي يجعلنا ننظر إلى الخلف بشكل أوضح، حيث ينير ويكشف ما هو ليس دائماً محلاً للمعرفة.يقدم كتاب «من الخوف إلى الحرية... رحلة امرأة مصرية من الصعيد إلى ما وراء المحيط» (الكتب خان ــ القاهرة)، سيرة المحللة النفسية المصرية عفاف محفوظ (1938 ـــ 2023) التي هاجرت من مصر، ودرست في باريس وعملت في نيويورك لسنوات طويلة، حتى انتقلت إلى فلوريدا وتوفيت هناك قبل أشهر.


حكت عفاف قصتها في جلسات منتظمة استغرقت عامين مع خالد منصور، الكاتب والروائي المصري، كما يحكي هو ذاته في نهاية العمل الذي تولّى تحريره. ورغم أن منصور يقول إنّ الكتاب بعيد عن أن يكون «عن تاريخ مصر أو البلدان التي عاشت فيها (عفاف محفوظ)... وما جرى من تطورات سياسية واجتماعية»، إلا أنّه شكّل إطلالةً -وإن لم تكن معمقة- على مصر وتاريخها وما مر بها من تغيرات في الداخل والخارج. إذ تستعرض محفوظ حياتها بداية من محافظة المنيا في جنوب القاهرة، ثم الدراسة في محافظة الإسكندرية والعودة إلى القاهرة والتعامل -من خلال العمل والسفر- مع شخصيات بارزة في تاريخ مصر، كانوا زملاء لها أو تقاطعت حياتها معهم في باريس وواشنطن ونيويورك.
تستعرض السيرة وجهاً خفياً لكبار رجال مصر، فابن عم والد عفاف محفوظ هو حسين سري (1894-1960) رئيس وزراء مصر في ما بعد، والزميل الذي كان يأخذ درساً للرياضيات عند مدرّسها في المنيا عبد الحكيم عامر صديق عبد الناصر وأحد أسباب هزيمة مصر في 1967، ثم يمر في حياة محفوظ مشاهير آخرون، أمثال صوفي أبو طالب الذي تولى رئاسة الجمهورية لأيام عدة بعد مقتل السادات، وأحمد فتحي سرور مستشار مصر الثقافي في فرنسا وأشهر رئيس لبرلمانات حسني مبارك، والكاتب الراحل أحمد بهاء الدين، وبطرس غالي، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، الذي عرض على الراحلة أن تصبح وزيرة للإعلام، وحين رفضت قال لها: «أنتم اليساريون كده تنتقدوا وتنتقدوا بس لما نقول لكم تعالوا ترفضوا».
مشاعر الفقد والقهر والمقاومة تملأ الكتاب، فقد جربتها عفاف محفوظ صغيرة: «ذقت معنى الفقد والموت حيث توفي شقيقي عادل عقب أشهر من مولده، ولم تعش شقيقتي هنا سوى عامين فقط». حين سافرت إلى فرنسا في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، تم تسجيلها في الجامعة باسم عفاف الشقيري أي عائلة زوجها. حتى ممارسة «لم تكن سارية قانونية في مصر»، كما تستطرد منصور في حديثها عن فترة انتقالها إلى فرنسا قرابة عام 1959، عقب العدوان الثلاثي بسنوات (1956). فترة شهدت تحرر عفاف محفوظ الفكري وتعرفها إلى ثقافات أخرى أثرت كثيراً في حياتها، ومقاومتها لأشياء كثيرة لسنوات هناك حتى إعدادها رسالة دكتوراه عن النظام السياسي المصري وقتها، وقدرتها على دراسة التحليل النفسي في أحد معاهده الشهيرة في نيويورك وبصعوبة بالغة.
منذ البداية، يأخذك الكتاب إلى وضع المرأة المصرية ما قبل ولادة بطلة السيرة وبعدها، فلا تكمل النساء تعليمهن بسهولة، كما يمكن أن يضيع ميراثهن أيضاً (أمر ما زال شائعاً حتى الآن)، وإنجابهن خارج إطار الزواج وخصوصاً الخادمات، وسط أجواء محافظة ومتزمّتة تمنع حتى إطلاق اسم «ليلى» على بطلة هذه السيرة خشية من الربط بينها واسم الممثلة والمطربة ليلى مراد!
تعرّج على تأثيرات الإخوان على المجتمع المنفتح في ذلك الوقت


طوال قراءة الكتاب، تنقلنا سطوره إلى كيفية تأثير الأحداث السياسية على المجتمع من خلال حياة عفاف محفوظ المنتقلة من صعيد مصر إلى شمالها، فتقول منصور في الفصل الثاني من الكتاب بعنوان «سنوات الإسكندرية» حيث انتقلت (1953) للدراسة في جامعة الإسكندرية: «في المنيا، حيث البيئة محافظة أكثر، كنت متمردة فكرياً». وفي الإسكندرية الأكثر انفتاحاً، صرت محافظة دينية». وهنا تعرّج السيرة على تأثيرات جماعة الإخوان المسلمين على المجتمع المصري المنفتح في ذلك الوقت، حيث صارت النساء بسببهم يبتعدن عن ارتداء التنانير القصيرة والذهاب إلى الصالات السينمائية وزاد ارتداء الحجاب والامتناع عن ارتياد البحر إلا في أوقات بعينها، ثم الرقابة المستمرة من الرجال على السيدات.
وعبرت السيرة الذاتية لمحفوظ عن حالة المصريين تجاه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فتنتقد عفاف سياساته لكنها تحزن على وفاته، وتعيش الحداد عليه «لأنه كان أول مصري يحكم بلادنا بعد قرون طويلة». وقد رفضت محفوظ العمل في «الأهرام» مفضلة التدريس في جامعة حلوان، ثم عملت في السلك الديبلوماسي وصاحبت جيهان السادات في جولاتها في واشنطن حيث كان يسافر السادات كثيراً.
يقدم خالد منصور -الذي اختار بعناية عناوين فصول الكتاب- شهادات من سيدات مصريات حول كتاب «من الخوف إلى الحرية» مثل الطبيبة النفسية، عايدة سيف الدولة، والأكاديمية في جامعة القاهرة، هدى الصدة، وأخريات، علّقن على المذكرات أو تحدّثن عن علاقتهن ببطلة السيرة.
يجيب الكتاب ككل عن سؤال يأتي على لسان عفاف محفوظ منذ البداية «لا أعرف: هل تستحق حياتي أن أكتب عنها كتاباً أم لا؟ حياتي عادية، فلماذا أكتب عنها كتاباً؟». لو لم تقرر محفوظ أن تحكي لخالد منصور مشوارها من صعيد مصر وحتى نيويورك وشواطئ فلوريدا لكان القارئ قد خسر كثيراً.