هل سبق أن سيطرت فكرة ما على عقلك وسبّبت لك قلقاً وربّما وسواساً قهرياً؟ هل أخفقت يوماً في اختبار ما، فتحطّمت ثقتك بنفسك واعتبرت أنّك شخص فاشل؟ هل تقضي ساعات طويلة في تخيّل حدوث كارثة ما لك ولعائلتك؟ إذا كان أي من تلك المواقف مألوفاً، فمن المحتمل أن يكون لديك استعداد للتهويل والهوس الاكتئابي، ما يجعلك تبالغ في تقييمك للمواقف الحياتيّة، وتغالي في العواقب السلبيّة المحتملة لذلك السيناريو الذي يدور فقط في رأسك.

تهيمن ثيمة الهوس على المجموعة القصصية «الصراع» (1996) للكاتب الألماني الشهير باتريك زوسكيند (1949). في هذه المجموعة التي انتقلت أخيراً إلى العربية (دار المدى ـــ ترجمة كاميران حوج)، يُقدّم زوسكيند أربع قصص مختلفة حول شخصيات تستحوذ عليها فكرة معيّنة مجنونة، وتؤدِّي في بعض الأحيان إلى تدمير حياتها بالكامل. القصة الأولى تدور حول فنّانة موهوبة تخسر مستقبلها، ويجفّ مصدر إبداعها بسبب تعليق سخيف لأحد النقّاد حول نقص العمق في أعمالها. بعدما واجهت هذا النقد اللاذع في معرضها الأول، تصبح هذه الفنانة مهووسة بمفهوم العمق في فنّها و تنعزل تدريجاً عن العالم الخارجي، محاولةً بشكل يائس فهم وتحقيق هذا «العمق» الذي تعتقد أنه ينقصها. تقوم الفتاة الشابّة بأعمال متنوعة لسد هذه الثغرة: دراسة الفنّ، قراءة كتب الجماليات، زيارة المتاحف... ومع ذلك، تبوء هذه المساعي بالفشل، فتفقد ثقتها بنفسها، وتصبح منفصلة عن الواقع، وتنغمس في الوحدة والاكتئاب والعادات الضارة مثل تناول الكحول والأدوية العصبية. ورغم دعم أصدقائها الذين يحاولون مساعدتها، تنخرط أكثر في سعيها المهووس لتقديم عمل فنيّ أصيل وعميق. في النهاية، بعدما استنزفت الرسّامة طاقاتها الجسديّة والعقليّة، تُنهي حياتها بالقفز من قمّة برج عال. هذا الفعل المأساوي يجذب وسائل الإعلام التي تُحلّل أسباب انتحارها. يعود الناقد (المُتسبِّب في الكارثة) إلى لوحاتها الأولى ليشرح كيف عكست بالفعل تلك الأعمال توترها الداخلي وسعيها النهم للوصول إلى العمق ويتساءل عن مفهوم «العمق» نفسه وكيف أدى إلى تدمير الشابة. باختصار، تستكشف هذه القصة مواضيع الضغوط الفنيّة، والبحث عن الأصالة، وانعكاس آراء النقّاد السلبيّة على نفسية الفنان. النص الثاني بعنوان «الصراع» يصف مشهداً في إحدى أمسيات شهر آب (أغسطس) في حديقة لوكسمبورغ حيث يجلس رجلان ليتبارزا حول رقعة الشطرنج. تجذب اللعبة اهتمام عدد من المتفرّجين، وتتركز الأنظار على اللاعبَيْن: الأول وهو البطل المحلي العجوز الذي يفوز في جميع المنافسات منذ سنوات طويلة. أما الثاني، فشابّ غامض ذو مظهر واثق وهادئ. تلقى لعبة الشطرنج التي يلعبانها متابعةً حثيثةً وحماسية من قبل 12 متفرجاً. يتوجه انتباه الجميع نحو الشاب المُتحدّي الذي يبقى صامتاً طوال مُجريات اللعبة، مكتفياً بتحريك قطعه بلا مبالاة، واضعاً سيجارة بين أصابعه من حين إلى آخر، من دون أن يشعلها. يأسر الشاب الجذّاب قلوب الحاضرين، فيشعرون باليقين التام بأنّهم أمام شخصية استثنائية تماماً، ذات موهبة هائلة وعبقرية. مردُّ هذا الشعور يعود ربّما إلى مظهره الوسيم، ولباسه الأنيق، وجماله الجسدي؛ وربّما كان بسبب هدوئه وثقته بذاته. في كلّ الأحوال، كان الحضور، مقتنعاً تماماً بأنه رغم أنّه يلعب بطريقة غير مفهومة، ويُحرّك أحجاره بطريقة خطرة وغبيّة، هو لاعب شطرنج من الطراز الأول، وسيحقق المعجزة التي كان الجميع يتمنّونها سراً، وهي هزيمة البطل المحلي. للأسف يخيب أمل الحضور، ويفشل اللاعب الوسيم في هزيمة العجوز الخبير في اللعبة. لكنه ينسحب بفخر وعدم اكتراث من دون أن ينطق بحرف واحد، مثيراً تعاطف الجميع معه، بمن فيهم اللاعب الفائز الذي يشعر بالألم، و يقرر أن يهجر الشطرنج بعدما هزم معبود الجماهير ذاك. تتمحور هذه القصة حول تأثير المظهر الخارجي والثقة بالنفس في كسب القلوب والسيطرة على الآخرين، ولو كان المحتوى الذي يقدّمه الإنسان ضحلاً، لكنها تُظهر في الوقت عينه قيمة الخبرة والمعرفة لتحقيق الانتصار الحقيقيّ. القصة الثالثة «وصيّة المعلم موسارد» تتناول حكاية جواهرجي ماهر ومعروف في باريس، يُقرر أن يتقاعد بعد سنين طويلة من العمل ويستقر في منزل رائع بناه خصيصاً لهذه المرحلة من حياته. في أحد الأيّام، يتفاجأ أثناء عمله في الحديقة على اقتلاع الورود الضعيفة، بوجود صخرة مغطاة بالصدف مكان الأزهار، ثم يجد صخوراً عدة من النوعية ذاتها في أماكن متفرقة من بستانه. يثير هذا الاكتشاف فضوله، ويقرر عندئذ البحث واستكشاف المنطقة التي يعيش فيها، فيجدها مليئة بصخور صدفية. يستنتج الصائغ الذي يدّعي اعتماد المنهجية العلمية في أبحاثه، أنّ الأرض كلها تتحجر رويداً رويداً، وتتحول إلى صدفة كبيرة عملاقة، ما سيؤدي في النهاية إلى موت جميع الكائنات الحيّة. تُسيطر هذه الفكرة الغريبة على عقله، فيُصاب بالهوس لدرجة أنّه يمرض بشدة، ويبدأ جسمه بالتحجر ليموت في النهاية بشكل بائس تاركاً وصيّة محذراً فيها من نهاية العالم. تبدو نبرة هذا النص مأساوية ومظلمة تُعبّر عن اليأس المطلق. استخدم الكاتب صورة الصدفة المتكلّسة لاستكشاف مفاهيم فلسفية مثل التحوّل، والموت، وطبيعة الكون والوجود البشري، وكيفية مواجهة الكائنات الحيّة لفنائها الحتمي، كما أنه أبرز أضرار الأفكار السوداوية التشاؤمية على جسد الإنسان وصحته العقليّة.
يُقدِّم في هذا العمل رسائل فلسفية عن معنى الوجود ومأساة الإنسان القلق


أما النصُّ الأخير، فهو تأمل حول الذاكرة والقراءة وتأثير الكتب على حياتنا. يبدأ الراوي بالتساؤل عن الكتاب الذي ترك أثراً لا يُمحى في نفسه، وغيّر مجرى حياته، لكنه يشعر بالإحباط، حين يكتشف أنّه غير قادر على تذكر معظم الكتب التي قرأها، كأن كل شيء تبخّر من ذاكرته. يستخدم الراوي السخرية لاستكشاف آثار النسيان الأدبي، ثم يشير إلى أنّ النسيان قد يكون في الواقع مفيداً للكاتب، إذ يمكن أن يسمح له بالتحرُّر من القيود التي يفرضها التأثير الأدبي للنصوص السابقة، وبأن يبدع بحرية أكبر متجنباً الانتحال والتكرار. لكنه يعود ويطرح فكرة بأنّ قراءات الإنسان تظل محفورة في لاوعيه، ولو انزلقت ظاهرياً من ذهنه. يناقش النص كيفية تفاعل القراءة والذاكرة، ودور الذاكرة في بناء علاقتنا بالأدب والتفكير النقدي، وكيف يمكن أن يلعب النسيان دوراً متناقضاً في الإبداع وفهم الأعمال الأدبيّة. استطاع باتريك زوسكيند أن يُقدِّم في هذا العمل رسائل فلسفية عميقة عن عبثية الحياة البشرية، ومأساة الإنسان القلق والمكتئب الذي يبحث بلا طائل عن المعنى والهدف من الوجود في عالمٍ قاسٍ ومُعقّد.