ينتمي الجزء الأكبر من النقوش الفلسطينية بين القرنين الثاني عشر والعاشر ق.م، وربما حتى القرن الثالث عشر ق.م، أي منذ نهاية العصر البرونزي، إلى مرحلة انتقالية. ويمكن تعداد عدد من هذه النقوش التي تنتمي إلى هذه المرحلة: نقش روزنامة جازر، نقش تل زيتا، نقش خربة قيافة، نقش تل الصافي، نقش زير القدس، نقش عزبة سرطة، نقش تل الصارم «راحوف»، إضافة إلى نقش قدح ترشيحا «فيراديم»، إلخ. وهذا يعني أن كل هذه النقوش ليست فينيقية، وأنّ قراءتها على أنها فينيقية تعود إلى انبهامها وعدم فهمها. وهو ما يعني أن علينا إعادة قراءة هذه النقوش، المتنوعة جداً، منذ البدء. ويمكن أخذ «روزنامة جازر» كمثال كبير على التشوّش والانبهام. فهذه الروزنامة المفترضة، التي اكتُشفت عام 1908، ليست روزنامة في الحقيقة، وليس فيها أي ذكر للأشهر، كما أنها ليست فينيقية الخط والأبجدية. وبالطبع، فهي ليست عبرية، كما يزعم عدد لا بأس به من مهاويس إسرائيل. إنها مجرد لائحة طلبيات في مشغل عطارة وأدوية، كانت تُمحى وتكتب مكانها لائحة أخرى حين يجري تلبيتها. وعلى رأس قائمة الطلبيات كان «الحضض» الدواء الشهير جداً في العصور القديمة، الذي يمكن العثور على اسمه في أكثر من نقش من النقوش القديمة. وعلى ذلك قس بقية النقوش.
ومن المحتمل أن هذه الفترة الانتقالية انتهت مع غزوة الفرعون المصري شيشنق لفلسطين في القرن العاشر ق.م. فقد كانت هذه الغزوة في ما يبدو تغييراً لقواعد اللعبة في جنوب بلاد الشام، بل وفي الشام كله من الناحية الثقافية. فقد تغيّر الخط، أي الأبجدية، تغيراً جوهرياً، وفي فترة قصيرة جداً نسبياً، وصار من الممكن الحديث عن نقوش فينيقية.
ويبدو لي أنّه لا يمكن دراسة تطور الألفباء في فلسطين والشام عموماً في نهاية العصر البرونزي وبداية العصر الحديدي من دون دراسة تأثير الوجود المصري. والواقعة الأساسية لهذا الوجود تتمثل في أنّ العداء المصري للهكسوس أدى في ما يظهر، إلى عداء شامل للأبجدية نفسها. فقط رُبطت الأبجدية بالهكسوس بشكل ما، وهو ما جعلها تبدو كياناً معادياً عند المصريين. وهو ما يشير إلى أنّ الهكسوس كانوا على علاقة وطيدة بالأبجدية. وربما كانوا من اخترعها وأحضرها إلى مصر معهم.
وقد أدى العداء للأبجدية إلى إرغام حكام مدن فلسطين وبلاد الشام على استخدام المسمارية الأكادية في مخاطبة الحكام المصريين في القرنين 13 و14، أي في نهايات العصر البرونزي، كما يظهر في رسائل تل العمارنة. فمخاطبة الفرعون أخناتون والإدارة المصرية كانت تجري بالأكادية، وكان على المدن الفلسطينية والشامية أن تتخلى عن كتابتها الأبجدية الخاصة الموجودة منذ خمسة أو ستة قرون على أقل تقدير، وأن تتحدث بالأكادية. وهذا أدى بالتأكيد إلى تعثر الأبجدية، وإلى ضعف النخبة التي تكتب بها. فلكي تكون كاتباً عند الحكام، عليك أن تتقن الأكادية، ولن ينفعك كثيراً أن تتقن الأبجدية، فهو لن يؤهلك لوظيفة كاتب في قصر أي زعيم من زعماء المدن. وهكذا انعزلت الأبجدية عن الحياة السياسية والثقافية، وظلّت تعيش في ركن صغير خاص بها، لكنها لم تمت. غير أنّ انحسار النفوذ المصري في بداية العصر الحديدي أدى إلى نهوض جديد للأبجدية، أي إلى عودتها كوسيلة رئيسية للكتابة في فلسطين.
سيطرة الإسرائيليين على الحقل يجعل من المستحيل على غير العرب إعادة قراءة هذه النقوش


ويبدو أنّ المصريين اضطرّوا إلى قبول الأبجدية بشكل ما في نهاية الأمر، لكن على أساس تصفيتها من الأثر الهكسوسي فيها. وفرضيّتي تقول إنّ الهكسوس قدموا من الجزيرة العربية. بذا فقد كانت الخطة المصرية هي محو أثر الجزيرة العربية في الأبجدية. وقد أدت هذه الخطة إلى ميلاد الخط الفينيقي كخط محلي في بلاد الشام في حدود القرن العاشر ق.م. وكانت «جبيل» في لبنان مركز هذا الخط كما يظهر. ويتوافق توقيت أقدم النصوص الفينيقية (القرن العاشر قبل الميلاد) مع غزوة الفرعون شيشنق لفلسطين ومناطق أخرى حولها ربما تكون منها أطراف شمال الجزيرة العربية. بذا يمكن القول إنّ الأبجدية الفينيقية التي نعرفها أُنتجت تحت الضغط المصري في فترة ما تقع حول غزوة شيشنق. أما قبل ذلك، أي الفترة الانتقالية التي نتحدث عنها، والتي استمرت طوال قرنين أو أكثر، فقد عرفت فلسطين خطاً خليطاً بين الخط الكنعاني - الفينيقي المحلي وخطوط شمال الجزيرة العربية. والنقوش التي ذكرتها أعلاه تقع ضمن هذا الخليط. ولأن الاتجاه العام في حقل النقوش الذي يسيطر عليه الإسرائيليون وأنصارهم، لا يقبل بفكرة خط انتقالي خليط، فإن النقوش المذكورة قرئت قراءةً خاطئةً على أنها فينيقية. بذا لم ننتفع بوجودها في فهم تاريخ فلسطين، ولا في فهم تطور الأبجدية في تلك الفترة.
بالتالي، فالمهمة المطروحة علينا الآن هي إعادة قراءة كتلة النقوش هذه. وتحقيق هذه المهمة لا يمكن إلا أن يكون عربياً. ذلك أنّ سيطرة الإسرائيليين على الحقل يجعل من المستحيل على غير العرب إعادة قراءة هذه النقوش من جديد.

* شاعر وباحث فلسطيني