مال سميث إلى المصريين، ودافع عنهم؛ فكشف من خلال فصول كتابه عن أشهر جرائم القتل والتسمّم والانتحار، ووظيفة الطب الشرعي، ودوره هو في حلّ ألغازها وفك شيفراتها. فقد اهتدى سميث بألمعيّةٍ نادرة تُحسَب له ـــــ عبر تشريح الجثث وأساليبه الخاصة ـــــ إلى تحديد جثامين ضحايا السفّاحتين الشقيقتين الشهيرتين ريّا وسكينة في الإسكندرية في عشرينيات القرن الماضي؛ بهدف استدراجهن إلى سرقة مصوغاتهن الذهبية وقتلهن؛ فتوصَّل إلى تحديد شخصياتهن بالاسم برغم مرور أشهر عدة على ذلك. كما أنه تناول في مذكراته عملية تشريح جثة سردار الجيش الإنكليزي في مصر وحاكم السودان السير لي ستاك في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 1924 نتيجة قيام مجموعة من الفدائيين المصريين بتصفيته وإصابة اثنين من حرّاسه، وما صاحب ذلك من عمليات ملاحقةٍ ودهم واعتقال وتشريد للمناوئين للاحتلال البريطاني.
أشارت المذكرات كذلك إلى قضايا التسميم بالزرنيخ الشائعة وقتذاك، وإلى عمليات الخنق، وتشويه الأعضاء، وتقطيعها إلى أجزاء متناثرة، وإلى كشف غموض مرتكبي الجريمة البشعة بحق الحسناء الرومانية إيما في القاهرة، وإلى علاقة كل ذلك بسوء الأحوال الاقتصادية، وشيوع الجهل والأمراض والفاقة بين الناس في القرى والنجوع، حتى استبشرت بقدومه صحافة مصر؛ فقالت: «ليس غيره، إنه سيدني سميث رمز العدالة الذي وأد الجريمة في عموم وادي النيل، وكشف أعتى القتلة المأجورين».
أثار سميث إعجابَ الناس وأجهزة الشرطة والأمن عندما اهتدى إلى مرتكبي سلسلةٍ من الجرائم العويصة الصعبة في بَرِّ مصر وصعيدِها، تلك التي كان يتم حفظُها في ما مضى لعدم كفاية الأدلة. أمّا سيدني سميث؛ فقد كان له رأيٌ آخر، إذ أعاد للأذهان شخصية محقِّق الجرائم الأشهر شارلوك هولمز التي رسم أبعادها الكاتب آرثر كونان دويل؛ فكأنه يقرأ أفكار القتلة بمجرد ارتكابهم جرائمهم، أو يشتَمُّ روائحهم على بعد، أو يرى الجريمة ماثلةً في وجوههم؛ فيُلقِي بهم وراء القضبان!
الجديد الذي أظهرته المذكرات هو تعاطف سيدني الشديد مع المصريين في مطالبهم الحثيثة للاستقلال عن الاحتلال البريطاني؛ فقد أيَّد ثورة 1919، ودعا في لندن إلى إعطاء مصر حكماً ذاتيّاً جمهوريّاً على غرار نيوزيلندا، وإلى اختيار سعد زغلول رئيساً... ما تسبَّب له في الإحراج والسخرية من كبار الساسة الإنكليز، حتى صاحوا في وجهه على الملأ: «أفِقْ سيدني؛ فقد أفرطتَ في الشراب»! كما لم يُظهر أي عنصريةٍ أو استهزاء بعادات المصريين وتقاليدهم ومعتقداتهم الدينية كغيره من الأنغلوساكسون الإمبرياليين، وإنما كان بسيطاً يتقرَّب إليهم، ويعقد الصداقات مع فقرائهم، ويُطْلِق القفشات والنِّكات المقبولة معهم؛ فيبث بينهم جوّاً من المرح والمودة.
كشف جثامين ضحايا ريّا وسكينة في الإسكندرية
يشير في كتابه إلى أن مسرح الجرائم النادرة الخطيرة والكثيرة في مصر، وتعددها وتنوُّعها، وتعقدها ساعده في الإفادة القصوى، وألهمه القدرة الفائقة على تفكيك الصعاب حتى صار خبيراً عالميّاً في فك خيوط الجريمة أيّاً كانت؛ فاستقدمته أستراليا، وأيرلندا، واسكتلندا، وسيلان وحتى بريطانيا؛ للإيقاع بالمجرمين على أراضيها، وهو ما نجح فيه باقتدارٍ ومهارة. ومن الإنصاف البالغ، أنْ ننحني له بتحيةٍ واجبة عندما وجدناه ينحاز بضميره المهني ووازعه الأخلاقي إلى الحقيقة المجردة، ولو كانت ضد مصلحة بلاده؛ فاعترف بشجاعةٍ في مذكراته قائلاً: «إن سلطات الاحتلال أخرجت القتلة والسفّاحين من السجون للعمل معهم مخبرين سريين وخُفراء غير نظاميين أثناء تظاهرات ثورة 1919 وغيرها؛ للإمساك بالمعارضين والثوّار أو لإطلاق النار عليهم عند المواجهات»! ووجه سيدني أصابع الاتهام مباشرةً إلى قوات الاحتلال البريطاني بعدما أجرى كشفه الطبي على أحد المعتقلين المصريين؛ فعرف أنه تعرض لوابلٍ من التعذيب داخل السجن؛ فثار في وجه القائد الإنكليزي. تضمَّنت المذكرات حديثاً عن عالم القتل والجريمة في مصر، وأنواعها وطرقها والجديد الغريب فيها؛ إلى درجة أن مصر أصبحت حقل تجارب ومعامل للجريمة في العقود الخمسة الأولى من القرن العشرين.
يبدو من الكتاب كيف صار سيدني سميث يمثِّل أباً مؤسساً للطب الشرعي في مصر؛ فهو مؤلِّف أول كتابٍ مصري وعربي في الطب الشرعي عام 1924 بالاشتراك مع الطبيب المصري عبد الحميد عامر. ومن المعروف أن سيدني حاضر عن الطب الشرعي في كلية طب القصر العيني في الجامعة المصرية القديمة طوال إقامته، وأرسى معالم ومناهج وأساليب هذا العلم الحيوي، وأوجد له تلامذةً يدينون له بالفصل والعلم حتى بعد رحيله عن قاهرة سعد زغلول.