تقديم: محمد ناصر الدين حوار: منير الحايك
«بدأت الحكاية بمولد طفلة صغيرة لعائلة نابلسية فلسطينية، وكالعادة، استُقبلت الطفلة بعدم ارتياح يبلغ حدّ الشهقات وذرف الدموع، فقد كانت الطفلة الخامسة على التوالي، وتبعتها ثلاث أخريات. والوالد الذي كان يتلهّف إلى صبيّ يحمل اسمه، شعر أن صورته كـ «أبي البنات» وما تعنيه هذه الصورة من انتقاص في مقاييس الرجولة، قد أُثبتت إلى الأبد. أما ردّة فعل الأم فكانت أبلغ، إذ بكت لأيّام واعتبرت نفسها واحدة من الأمهات الشقيّات الملعونات المنحوسات. بالإضافة إلى مصابها الأليم، أحسّت بالذعر خوفاً من أن يستغل الزوج ذاك الحدث ويتّخذه مبرّراً لزواج جديد من امرأة جديدة»: من قلب هذا المأزق الوجودي في قلب المجتمع الذكوري المشرقي بسلطته البطريركية وقيمه المجحفة بحق المرأة، شقّت سحر خليفة (1941)، إحدى أبرز الروائيات على الساحة الفلسطينية والعربية اليوم، طريقَها نحو الكتابة والأدب. كتابة توّجتها بسيرة روائية بعنوان «روايتي لروايتي» استكملت «دار الآداب» البيروتية جزأها الثاني أخيراً (2023) بعد الجزء الأول الصادر عام 2018: إنها رحلة أشبه بالسير بين الألغام توزّعت على شرطين وجوديين في سيرة صاحبة «الصبار» و«حبّي الأول»: قضية تحرّر المرأة العربية من جهة، والنضال في وجه الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية من جهة ثانية. طبع هذان الأقنومان أعمالها منذ باكورتها الروائية «لم نعد جواري لكم» (1974) حتى الكتاب الأخير. أعمال تعبّر عن إيمان خليفة العميق بأن وعي المرأة النسوي جزء لا يتجزّأ من وعيها السياسي، وأن نضال المرأة العربية والمحن التي تمرّ بها جزء من النضال العام من أجل التنوير والتحرير. في روايتها، لم تستطع خليفة إلا أن تصنّف نفسها خارج إطار «الجماعة»، وتبدّت ذاتها الروائية كروح هائمة وضائعة بحيث كانت الشخصيات جميعها تواجه المصير الكافكاوي ذاته من الإهانة والهزيمة والألم. بدأت الكاتبة الحائزة الدكتوراه في دراسات المرأة والأدب الأميركي من «جامعة أيوا» الأميركية الكتابة بانتظام بعد نكسة 1967، إذ اكتشفت أن الهزيمة السياسية ما هي إلا انعكاس للهزيمة الحضارية، وأن النكسة هي «الثمرة لشجرة مهترئة تحتاج إلى العلاج لكي تبرأ. المهزومون في الداخل لا ينتصرون، وحتى ننتصر على الخارج علينا أن نبدأ بالداخل... من أهل البيت، وبأهل الحكم، بقيم المجتمع وأربطته، ببناء الدار، بقواعد وجذور تربية الفرد، في عائلته، في مدرسته، في جامعته ثم الشارع. الأمّ تصنع من الأمة عجينة رخوة، والأمّ تجعل من الأمة مصنع فولاذ». تأملات خليفة في هزيمة حزيران ألهمتها كتابة عملها الكبير «الصبّار» (1976) الذي رصدَت فيه تحركات الشارع الفلسطيني تحت الاحتلال من خلال الحكايات وقصص الناس والمناضلين والثوار، ورصدت فيها المرحلة الرومانسية الثورية و«تربية الأمل» على حد مقولة محمود درويش، من خلال شخصيات وسرد يتماشى مع نبض الشارع والقضية، واصطدام الثورة بالواقع المرّ و«انزياح غلالة رومانس الثورة عن الثوريين». خيبة أمل خليفة من قادة القضايا الكبرى في العالم العربي عموماً، رسّخت بداخلها أن معظم دعاة الثورة والتغيير ما هم إلا نسخة ممجوجة لجيل سلفي قديم يرتدي زياً حديثاً فحسب، وأنّ «قياداتنا الذكورية زائفة فاسدة تعيسة، وأنّ النساء الطليعيات بوضع بائس، وأن الثورة ثورتنا نحن، هي ثورة عقيمة ومحددة لأنها تتغاضى عن العمق أي الداخل»: بهذا الانطباع المتشائم، شرعت خليفة في كتابة عملها الثالث «عبّاد الشمس» الذي استكملت فيه التنقيب حول الجنس والعلاقات والحب والسياسة والتعقيدات والصراعات النفسية التي تعيشها المرأة العربية وهو ما توّجته في ما بعد في «مذكرات امرأة غير واقعية» (1986)، لتحصد أعمالها التي كُتبت أثناء دراستها وعملها في جامعة بيرزيت نجاحات باهرة. إذ ترجمت «عبّاد الشمس» إلى لغات عدّة، كما تبنّتها منظّمة التحرير الفلسطينية في حينها واشترت حقوق إنتاجها مع «الصبّار» كمسلسل تلفزيوني ينقل معاناة الشعب الفلسطيني وتجدد وعيه بهويته رغم المآسي والمعاناة. استكملت خليفة حفرها في الذات السياسية والاجتماعية العربية في أعمالها الأخرى بعد انتفاضة 1987 من «باب الساحة» (1990) و«الميراث»(1997) لتكر سبحة الأعمال التي تطرح الأسئلة القلقة من الطفلة التي بدأت «خلف الجدران» واكتشفت أنها قادرة على الإبحار والطيران والمغامرة بأسلوب روائي حساس وشفّاف وممتع. رغم أنها تكتب بالعربية الفصيحة، فإنها تتنقّل برشاقة إلى استعارة العامية الفلسطينية وتعبيراتها الدارجة عندما يقتضي الحال في السرد: نالت سحر خليفة العديد من الجوائز العربية والعالمية اعترافاً بها كاسم لامع في الأدب العربي والفلسطيني، أهمها «جائزة ألبرتو مورافيا» للأدب المترجم للإيطالية، «جائزة ثيربانتيس» للأدب المترجم للإسبانية، «جائزة نجيب محفوظ» عن روايتها «صورة وأيقونة وعهد قديم»، و«جائزة سيمون دوبوفوار» التي رفضتها بسبب الموقف الملتبس لبوفوار وصديقها سارتر من الصهيونية ودولة الاحتلال: «بتّ نخلة ترتفع فوق الأسوار وتتمايل في رحاب الأفق فتعلو على الخوف، أو حلمت بذلك. وفي أحلامي أعلو على الذات وأرفعها وأقيم الدنيا وأقعدها وأقول الكلمة لوجه الله، لوجه الحقّ، ولو كان الثمن حدّ السكّين»

سحر خليفة: لو كان قادتنا أقلّ جهلاً وأنانية وعنجهية هل كنّا وصلنا إلى هذا الانحدار والتشرذم؟


لنبدأ بعنوان الكتاب «روايتي لروايتي» وهو الجزء الثاني، فهل هذا دليل على أننا لن نقرأ رواية أخرى لسحر خليفة في المستقبل؟
ــــ بين الجزء الأول والجزء الثاني من سيرتي، كتبت رواية «الجسر». ربما لم تصلكم تلك الرواية لأنها طبعت في عمان ووزعت في فلسطين، وكان هذا مقصوداً من جانبي. كتبتها كي أذكّر كيف بدأنا كثورة فلسطينية بالكفاح المسلح حين كنّا في الطريق الصحيح. حين كتبت «الجسر»، لم تكن كتائب المقاومة قد بدأت أنشطتها في الضفة بعد، وكنت أتمنى أن يحدث ذلك ونعود إلى نهج الكفاح ولا نستسلم كما فعلت سلطة أوسلو. وحين بدأت المقاومة ثانية وأخذت تشتدّ، اطمأننت وهدأت، وعدت لاستكمال السيرة في جزئها الثاني. رواية «الجسر» كانت بين الجزأين الأول والثاني. وهذا ما قد أفعله ثانية.

سؤالٌ يطرحه النقاد والقراء، لماذا يضيف المبدِع العربي دوماً عبارةً بعد «السيرة الذاتية» عندما يكتب سيرته، وأنتِ اخترتِ «أدبية»، أهي هروب من التوثيق وتبرير لبعض الحَذف أم لغاية مقصودة من قِبَلك؟
ـــ أعتقد أنّ الناقد فيصل دراج فهم مقصدي وفسره في مقدمته. قال: «لكأنها (سحر) وحدت بين سيرتها الحياتية – الكتابية وسيرة شعب خذلته قيادته. أنشأت، بعد عقود، ذاكرة يحتاجها شعب يبحث عن أفق، ذاكرة مقاتلة...». وأنا أتفق مع هذا القول أو التفسير. إذ وحّدتُ بين سيرتي الحياتية وسيرتي الكتابية. بمعنى أني لم أركّز على سيرتي الذاتية فقط، بل سردت السيرة الذاتية لكل رواية كتبتها: من أين جاءت فكرة الرواية، الأحداث والشخصيات الواقعية التي حوّلتها إلى أحداث وشخصيات روائية، والتشخيص والرسالة من وراء كل رواية. هذا ما قصدت. لا أدري إن كنت أصبت الهدف أم قصرت، لكني حاولت، ولم أهرب. أبداً لم أبرّر ولم أهرب.

تستهلّين هذا الجزء من سيرتك بسؤال تلومين فيه نفسك حول قرارك الالتزام بكتابة أدب مرتبط بقضية سياسية معقّدة، ثمّ تتداركين الأمر بالدفاع عن القرار بأن «أيّ أدب لا يرصد كل هذا الألم والدم والدموع ليس أدباً، بل قلّة أدب وأنانية»، ولكن ألم يكن يحقّ لكِ بعض الراحة والفسحات للابتعاد عن القضية والكتابة حول شؤون أقل تعقيداً؟
ـــــ الأدب هو انعكاس للحياة، حياة الكاتب وهواجسه وكوابيسه، وتفاعلاته مع آلام مجتمعه وأمنياته. هذه هي المدرسة الأدبية التي أنتمي إليها. لنسمّها مدرسة الأدب الملتزم. وأنا، صدقاً، لم أقصد الالتزام من أجل تسجيل موقف أو مواقف، فحياتي تحت الاحتلال وإيماني بوجوب مقاومة الظلم والضعف والتخلّف، دفعاني دفعاً إلى كتابة ما كتبت وما أكتب. فأي مضامين أو ثيمات أخرى، في وضعنا الحالي، تستحق الغوص فيها أدبيّاً وفكريّاً أكثر من المضامين التي استغرقتني، وما زالت، أي مضامين مقاومة الظلم والضعف والتخلّف؟ في وضعنا الحالي، تحت الاحتلال، والأوضاع العربية عموماً وما يعتريها من ضعف وتشرذم وتخلّف، أي مضامين أو ثيمات أخرى كالحبّ والموت والغيرة ونزوات النفس البشرية وإلخ إلخ، وما يكتب عنه الكاتب في العادة، تبدو لي، في وضعنا الحالي، ثانوية، وربما ساذجة وسخيفة. هناك أولويات، فحين تتعرض حياة الإنسان للنكبات والكوارث، من الصعب أن يهرب من واقعه إلى رفاهية الثانويات التي ذكرت. هكذا أفهم الحياة. قد أكون محدودة الفكر والمنظور، لكني لست ساذجة ولا قاصراً. أنا أعيش الواقع وأختار منهجيتي وأولوياتي بعد تفكير وتأمّل. وقد اخترت طريقي، طريق مقاومة الظلم والضعف والتخلف على كل المستويات السياسية والاجتماعية. ولا أعتقد أني سأحيد عن ذلك.

اختيارك لصفة «الختيار» للحديث عن ياسر عرفات، هل يمكن أن نعتبرها توجيهاً غير مباشر منكِ للقارئ المناوِئ له ولقراراته وسياساته بأن يعود ويتقبّله من خلال هذه الصفة «اللطيفة»؟
لا أبداً. أنا لم أدافع عن سياسات عرفات وقراراته. كما لم أشوّه أو أتنكّر لسيرته النضالية وتطلعاته. حاولت أن أضيء على جوانب مسيرته المختلفة وقلت مؤكّدة في هذا النص، أقصد في «روايتي لروايتي»: «أحياناً أصاب، أحياناً أخطأ، وعليّ أن أكون منصفة وأمنحه الصورة التي يستحق ولا أنكر فضله». قلت ذلك، وحاولت فعل ذلك، ولا أتنصّل ممّا قلت ومما فعلت. وصفة «الختيار» لم أكن من اخترعتها أو روّجتها، فمذ عرفت عرفات والتقيت به، وحتى قبل التقائي به، كانت هذه الصفة موجودة في الأجواء الفلسطينية ومتعارفاً عليها. ربما بدأت هذه الصفة كاسم حركيّ أو سرّيّ للتغطية، لكنها انتشرت وانفتحت وباتت بديلاً عن اسمه. فحين نقول «الختيار»، نفهم فوراً أنه عرفات بالذات وليس أي ختيار آخر. وكان عرفات يستعذب ذلك لأنها، على ما أظن، تمنحه صفة الوالد وكبير العائلة أو المختار. نحن شعب أبويّ قرويّ بالفطرة، وهذه الصفة، والصفات المشابهة، ما هي إلا ملمح من ملامح ثقافته وتجلياته.

موقفك من الحركات الإسلامويّة كما وصفتها واضح منذ بداياتك في العمل الاجتماعي والنسوي، برأيك هل وصلت تلك الحركات بعد ما مررنا به، إلى إثبات فشلها وبالتالي نهايتها؟
نعم، الحركات الإسلامويّة المتطرفة مثل «داعش» و«النصرة» و«أحرار الشام» وغيرها ممّن ابتلانا الاستعمار الغربي بها وأنشأها وموّلها وتبنّاها، وما زال، هذه الحركات أثبتت فشلها السياسيّ والاجتماعيّ، لكنّها للأسف لم تبلغ نهايتها. انظر إلى ما يحدث في شمال سوريا وبعض أنحاء العراق وكذلك الخلايا النائمة في الأردن وفي دول إسلامية أخرى عربية وأجنبية. هذه الحركات ما زالت موجودة تتحرك بمشيئة خارجية كلما أملت عليها الإرادة الغربية، وحتى تركيا، القيام بذلك. أمّا الحركات الإسلامية المعتدلة والمقاوِمة للاحتلال والاستعمار وفساد الحكّام، فلم تثبت فشلها ولا نهايتها، بل على العكس، فهي حاليّاً تتصدر مشهد المقاومة في لبنان وسوريا والعراق وفلسطين واليمن وغيرها، ومن لا يرى محاسنها وأفضالها، فهو إمّا حسود أو مكابر أو أعمى. وعلى الرغم من حذري الشديد من مواقف تلك الحركات من المرأة وتمسّكها بقيود التشريعات والاجتهادات الدينية في ما يخصّ فرض الحجاب وتفضيل الرجل على المرأة في حقّ البنوّة والميراث وتعدّد الزوجات وما ملكت الأيمان، إلا أني من ناحية قومية ووطنية لا أنكر فضلها. انظر إلى الجو العام في العالم العربي، فأين اليسار؟ أين اختبأ العلمانيون؟
كباحثة اجتماعية ميدانية، أنوّه بأنّ المدَّ الإسلامي بحلاوته ومرارته قد وصل إلى المستويات الشعبية، بعكس المَدَّين القوميّ واليساري

أين الأحزاب القومية والماركسية التي كانت تتصدر المشهد السياسي والفكري والاجتماعي في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات؟ ربما بقيت بعض بؤرها هنا وهناك، لكن أين زخمها وفعاليتها؟ كما لا بدّ من أن أنوّه هنا، كباحثة اجتماعية ميدانية، أنّ المدَّ الإسلامي بحلاواته ومراراته قد وصل إلى المستويات الشعبية كافة، بعكس المَدَّين القوميّ واليساري. وهذا في الحقيقة لا يسعدني، لكني لست مكابرة ولا عمياء. وفي حالتنا هذه، في ضعفنا وتشرذمنا وتراجعنا، أجد في الحركات الإسلامية التي تتصدر المقاومة على المستوى الوطنيّ والسياسيّ أحد مصادر قوّتنا التي لا بدّ من أن نتحالف معها ونعاونها، وإن أنكرناها فمن يبقى؟ قل، من يبقى؟

تحدّثتِ عن روايات عدة وأسباب كتابتها الفنية والاجتماعية والسياسية... ألا تعتقدين أنك تأخذين من النقاد والدارسين أدوارهم؟
لا، لا أعتقد ذلك. النقد مدارس، وللدارسين وجهات نظر مختلفة. فالنقد يعتمد على التأويل والتفسير. وكل ناقد أو دارس له تأويله الخاص وتفسيره، له وجهة نظره المختلفة أو المتفقة مع الآخر. أنا فقط ألقي الضوء على خلفيات كلّ رواية. وما أفعله استمرار لقناعتي بوجوب كشف المستور سياسيّاً واجتماعيّاً. وهذا حقّي. فمن يستطيع أن يمنعني من ممارسة حقي؟ أنا مواطنة قبل أن أكون أديبة، وأنا باحثة اجتماعية ودارسة أعتمد المنهج العلميّ في الشرح والتفسير ولا أكتفي بالتنويهات والرموز الأدبية. وأعرف أن تأويلات البعض النقدية قد تنحاز أو تبالغ أو تتجاوز. وهذا حقّهم. لكني وددت، من خلال شرحي لخلفية كل رواية، أن أبيّن أهدافي ومقاصدي الاجتماعية والسياسية. فمن أراد الإفادة ممّا فعلت فأهلاً وسهلاً، وإلّا، فمن أنا حتى أصادر حق الآخرين في التفسير والتأويل؟!



بالنسبة إلى حديثك عن رواياتك الثلاث الأخيرة، وصفتِها بأنها مرحلة أدبية جديدة، ولكن ما الجديد الذي أضافته إلى مسيرة سحر خليفة؟
أضافت لي معرفة أوضح وأعمق بتفاصيل تاريخية كانت غائبة عني، أو مضلَّلَة كما ضُلِّل معظمنا. نحن ورثنا كمّاً هائلاً من التفسيرات التبريرية لنواحي قصورنا وتخلّفنا. تفسيرات إعلامية وحتى تاريخية لأناس مكابرين لا يتحلون بالجرأة وتبنّي منهج البحث العلمي الحياديّ، واكتفوا بوضع اللوم على اليهود والاستعمار الأوروبي ومن بعده الأميركي، وبرّروا لهزائمنا التي هي في الأصل نابعة منّا، أي أنّ هزائمنا هي النتيجة الحتميّة لما في بنيتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية من ضعف وهلهلة وتخلّف. فلو كانت بنيتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية قوية وقادرة، هل كنّا وقعنا في هذا البلاء؟ لو كان قادتنا وسياسيّونا أقلّ جهلاً وأنانية وعنجهية هل كنّا وصلنا إلى هذا الانحدار والتشرذم؟ أنا لا أقصد فلسطين فقط، بل العالم العربي بأسره. انظر ما حدث في العراق، انظر ما يحدث في السودان، وما حدث ويحدث في لبنان وغيره وغيره. من المسؤول عن كل ذلك؟ ألم يخطر في بالك، على سبيل المثال، أنّ صدام حسين كان المسؤول الأول عمّا جرى للعراق، وأنه بسبب عنجهيّته وغروره وجهله، أوقع بلده في كارثة دموية تدميرية ما زال يعاني العراق منها حتى الآن، وربما سيظل يعاني من آثارها لعقود تالية طويلة؟ صدّام حسين كانت لديه مراكز أبحاث استراتيجية وعلماء في كل الميادين العلمية والاقتصادية والاجتماعية، مع ذلك لم يستشر أي خبير أو متخصّص حين شنّ حرباً على إيران وألحقها بغزو الكويت ورفض كل الوساطات والتحذيرات وتشبّث بقراره المستبدّ الواحد والأوحد. هذا مثال من أمثلة، وهذا المثال ينطبق على كلّ قطر عربي بنسب متفاوتة، وطبعاً لا أنسى ما قامت به السلطة الفلسطينية حين وقّعت اتفاقية أوسلو والخراب الذي أوقعته وجاءت به. المهمّ أن مسيرتي الأدبية التجريبية التي اعتمدت فيها الرجوع إلى التاريخ ومحاكاة وقائعه، عرّفتني بالكثير من تفاصيله وأفادتني، وأيضاً أفادت البعض حين استرجعوا تفاصيل ما كتبت عن عبد القادر الحسيني وقبله القَسّام ومن بعدهما أنطون سعادة. كثيرون ممّن قرؤوا أعمالي الثلاثة علّقوا بقولهم: غريب، لماذا لم نكن نعرف هذا! إذن استفدت، وبالتالي أفدت.

تجربتك في ترؤّس لجنة التحكيم لجائزة «البوكر»، ماذا أضافت لكِ، وماذا كشفت لكِ حول مسار الرواية العربية المستقبليّ؟
لم تضف لي شيئاً سوى أنها أخذت الكثير من وقتي. ربما تكون مسيرة البوكر بشكل عام قد أفادت الرواية، وهذا للحقّ صحيح ويحتسب لها، لكنّها لم تضف لي شيئاً أتعلّم منه أو أستمتع به.

في الختام، هل هناك رواية جديدة أم ننتظر الجزء الثالث من «روايتي لروايتي»؟
الرواية فنّ وفكر ومزاج، وما لم تختمر أحداث الرواية وشخصياتها في ذهن الكاتب ومخيّلته، فمن الصعب إفراز رواية صادقة فنّيّاً وإنسانياً. انظر حولك، ولا داعي لذكر الأسماء. لدينا الآن في الساحة الأدبية روايات فاشلة تعتمد الكثير من الثرثرة واللغو وتعبئة الصفحات، عشرات الصفحات، بالكلام المكرور الفارغ، كتبها روائيّون كبار استكانوا إلى موقعهم الأدبي وشهرتهم وأصابهم الغرور فاعتقدوا أنّ كل ما يكتبونه لا بدّ من أن يكون درراً أدبية وفنية. وأنا أعتبر ذلك حماقة وسذاجة. فحين أقرأ رواية جديدة لكاتب كبير وأجدها فارغة وسخيفة، أنقم على الكاتب، لأنه جشّمني شراء رواية لا تستحقّ ثمنها والجهد المبذول في طباعتها وقراءتها. وأنا حريصة على عدم فعل ذلك، أي كتابة رواية فارغة المضمون مليئة بالحشو وهذر الكلام. فما لم تكن لديّ رواية مختمرة بشخوصها وأحداثها وفكرتها فلن أكتب مهما كثرت مطالبات القراء والنقاد. أنا الآن في حالة جمود وترصّد. وما لم أجد الفكرة والشخوص والمضامين المناسبة فلن أكتب.