نعيش راهناً في فضاءات العالم الرقمي والتقنيات الجديدة والشبكات الاجتماعية العاملة على تغيير حياتنا اليومية، في مجالات مهمة مثل العمل أو التعليم أو العلاقات الاجتماعية أو الاقتصاد. وفي خضم هذا التحول الاجتماعي والثقافي الكبير، يُطرح السؤال عن دور الفن أو الأدب أو القراءة أو المكتبات أو الكتابة أو الأيديولوجيات أو المعتقدات: هل محكوم علينا أن نعيش في عالم من دون ثقافة، بلا فكر أو تفكير، عالم تتحلل فيه شخصية كل إنسان إلى كتلة هلامية لا شكل لها؟

على الرغم من كل شيء، يثق الشاعر الإسباني سيزار أنطونيو مولينا (1952) بأنّ البشرية ستعرف كيف تتغلب على التحديات التي يخبئها هذا العالم المتغير، كما فعلت في لحظات معقدة أخرى من تاريخها. كتابه «ما أجمل العيش من دون ثقافة!» (2021) الذي انتقل أخيراً إلى المكتبة العربية (منشورات تكوين ــــ ترجمة حسني مليطات) هو مديح للثقافة والقراءة والكتاب بصفتها «مضاداً لأخطار الحماقة»... الكتابة كرغبة في الاستمرارية، والقراءة كمصدر للمعرفة. كان طبيعياً أن يبدأ نصّ «ما أجل العيش من دون مكتبات!» باقتباس من رواية الفرنسي، جول فيرن «عشرون ألف فرسخ تحت سطح البحر» حيث يتعثر الراوي، بعد الكابتن نيمو، بمكتبة: «تم فتح باب مزدوج في أسفل اليسار ودخلت غرفة بنفس حجم الغرفة التي تركتها للتو. كانت مكتبة...». يذكر الشاعر والروائي الأرجنتيني، بورخيس وشغفه بالمكتبات وباللغة، وهو القائل «لياليّ مليئة بكلمات فيرجيل» (الشاعر الروماني القديم)، فالكتب أصدقاء، ولا شيء يعادل النسخ الورقية، فما إن تفتح واحداً منها حتى تتذكر، كما يفعل الباحث، جنسية كل كتاب، والمشاوير التي خاضها معهم عابراً المدن والشوارع، وما إن يلمس الصفحات حتى يحسّ بدموع كاتبيها وابتساماتهم وروائحهم، ويرى ألوان «شروق الشمس وغروبها».
وقد يسرق الكتاب الإلكتروني عالميّة الكتاب الورقي، لكنه لن يستطيع التخلص منه «من حياتنا ومن طريقة عيشنا». لا يقف سيزار أنطونيو مولينا ضد التطور ولا يُندد به، بل يرى ما هو سيء، فالسيء في نظره هو الألعاب الإلكترونية وبرامج التلفزيون الركيكة. والشاشة قد تساعد في زيادة حجم القراءة، فغوتنبرغ، مخترع الطباعة، لم يمت، بل غيّر مظهره. الناس ما زالوا يكتبون والأفكار تعبر ويتم تبادلها. طبعاً، أدخل الإنترنت تعديلاً على عادات القراءة وجمع الكتب، إذ انتهت تلك الرومانسية المصاحبة للبحث عن النصوص النادرة والطبعات الأولى. وما حدث هو التقليل من العمل البحثي واختصار بعض الصعوبات. ومن المفيد أن نعلم أنّ الأيديولوجيات الشمولية وقفت ضد حرية التعبير، أي ضد الكتاب، فضربت عليه طوقاً حتى لا تخرج حروفه عن سيطرة جهاز الدولة. وما يؤكده مولينا إن القراءة في ازدياد ولا خوف عليها في المستقبل، فأنماطها تتحول، والقراءة التي لن تكف عن الازدهار «هي القراءة النقيّة المُلخصة للحرية». نحيا اليوم في ما يسميه الكاتب «عصر الاستعمار الرقمي» الذي أنشأ فئات اجتماعية في خدمته وأهمهم «المستعمرون الرقميّون» المعترضون على المعرفة القديمة والساعون إلى التخلص من الورق، والراغبون في تغيير طريقة التعليم. لكن بحسب مولينا، لا شيء ينبئ بأن استخدام التقنيات الجديدة أدى إلى تحسين التعليم المدرسي، وفكرة الوصول السريع إلى المعلومة لا يعني بتاتاً الوصول إلى المعرفة، ومهمة المدرسة والجامعة تكوين أفراد «مثقفين وأحرار»، والوسائل الرقمية مُساعدة يجب استخدامها بطريقة حكيمة ومعقولة، والإنسان وحده هو «القادر على نقل القيم» ونشرها. يُقرّ مولينا أن القراءة مُهدّدة لأن التقنيات لا تحمي العناصر التي تقوم عليها: الصمت، الألفة، المراجع الثقافية والتركيز والقدرة على التفسير والتكامل مع النص والعمل. والوسائط الرقمية غير مُعدّة أصلاً للقراءة، بل للتسلية، والتعليم ليس تسلية، بل يقتضي الانتباه والتركيز، وعلى المدرسة، أن تقاوم «تقنيات تشتيت الانتباه».
يُدرك مولينا جيداً طغيان الرقمية على مناحي الحياة، وآية ذلك شبكة الإنترنت، الشبكة العنكبوتية، التي اعتدنا عليها، وباتت جزءاً من وجودنا ومن معيشنا اليومي، وهي تنقل لنا المعلومات بوفرة. لكن هذه المعلومة في حاجة إلى أن تكون مقروءة، إذ إن فعل القراءة «ملازم للوجود الإنساني»، أي بتركيز وانتباه وصمت لا توفره الوسائط الإلكترونية. يُعلي الكاتب الإسباني من شأن الثقافة المدوّنة والمنقولة في الكتب، والمتراصفة في المكتبات. إنّها بمثابة ذاكرة العالم. لا يترك مناسبة إلا ويحتفي بها، فيتحدث عن زيارته المغرب ومشاهداته المكتبات الملكية وما تحويه من كنوز عربية وإسلامية في شكل مخطوطات وتصاوير، ويعبّر عن انبهاره بمكتبة القيروان في فاس، المنشأة في القرن التاسع.
الوصول السريع إلى المعلومة لا يعني بتاتاً الوصول إلى المعرفة


يجد مولينا نفسه مدفوعاً إلى استذكار العالم الكندي، مارشال ماكلوهان (1980 - 1911)، مُنظر الاتصال، صاحب مقولة «الوسيلة هي الرسالة» و«العالم قرية كونية صغيرة»، والوسيط هو من يحدث التغيير لا الرسالة المحمولة، إذ اعتبر أنّ وسائل الاتصال امتداد لحواس الإنسان، فالناس يتكيفون مع ظروف البيئة في كل عصر من خلال استخدام حواس معينة ذات صلة بنوع الوسيلة وطريقة عرضها. ويعني في مقولته «الوسيلة هي الرسالة» أنّ طبيعة كل وسيلة وليس مضمونها، هو الأساس في تشكيل المجتمعات. وهو كان قد تنبأ بأثر التلفزيون الكبير في حياة الناس وفي تبديل سلوكهم، لكنه اعتبر أن الوسائل القديمة تتعايش مع الوسائل الجديدة، كما فعل الراديو. بيد أنّ مولينا لا يوافق على أفكار كاتب «مجرّة غوتنبرغ» ويعتبره من الذين شجعوا «نهاية ثقافة الكتاب»، بتفضيله الأدوات الحديثة للاتصال ودفاعه عن دمقرطة الثقافة من خلال وسائط الاتصال الجماهيري المرئي والمسموع. يدعونا المثقف الإسباني إلى عدم الهزيمة أمام الآلة، وإيكالنا المهام لها، يعني أننا فقدنا جزءاً من حريتنا. فالكتاب الورقي لا يحتاج بطاريات ولا وصلات، وهو «جمال قائم في ذاته». يشير المؤلف إلى العالم الجديد المحيط بنا، الذي تحكمه شبكات التواصل الاجتماعي وما تومئ إليه: على سبيل المثال، تويتر هو «عبارة عن إيمان بالحياة»، ومن لا يمتلك حساباً فيه كأنه غير موجود، فيما تشجّع المدوّنات والفايسبوك نزعة الظهور والنرجسيّة. وما يخشاه مولينا هو اختفاء الخصوصيّة وتمدد السيطرة على البيانات الشخصية من خلال الهاتف المحمول والبطاقة البنكية وكاميرات المراقبة، فالأخ الأكبر، كما عند جورج أورويل، حاضر في انتظارك. والوجود الأهم هو الوجود الافتراضي، ويسلم الشباب أنفسهم طواعية لشبكات التواصل الاجتماعي، منقادين لها، ما يعني فقدان حسّ المبادرة. بهذا المعنى، تكون شبكة الإنترنت «شكلاً من أشكال مبيدات الحرية». خشية مولينا من التقنيات والتطبيقات الجديدة أنها تطيح بالحرية الفردية، وهي المهددة أصلاً من طرف الشركات متعددة الجنسيات، الحاكم الفعلي للعالم.