في عام 1989، عثرت الباحثة الراحلة جيرالدين كنغ على نقش صفائي فريد من نوعه في شمال الأردن أعطي الرقم KRS 2453. والنقوش الصفائية تعرض لنا لهجة عربية قديمة كتب بها البداة الرعاة على صخور الحرات والصحارى بأبجدية قديمة، لم تعد مستخدمة منذ القرن الثالث الميلادي تقريباً. وتتركز الكتلة المركزية لهذه النقوش في شمال السعودية وشمال الأردن وجنوب سوريا. وأدناه النقش مكتوباً بالحروف الإنكليزية ثم العربية مصطفّة وراء بعضها من دون أي علامة تُشير إلى كيفية تقطيعه إلى كلمات أو جمل.
النقش الصفائي في شمال الأردن حامل الرقم KRS 2453


ليست هناك، كما نعرف، طريقة مأمونة لتوقيت النقوش الصفائية. فالتوقيتات المقترحة لها تُبنى عموماً على فرضيات خارجية عامة. والاعتقاد السائد أنّ أقدمها يعود إلى القرن الميلادي الأول، وأن أحدثها يعود إلى القرن الثالث الميلادي. وهناك من يعتقد أنّ أقدم هذه النقوش قد يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وأحدثها إلى حدود الميلاد، قبيله أو بعيده. وأنا أميل إلى هذا الرأي. وإذا صح هذا، فالنقش الذي نتحدث عنه يقع في فترة ما بين 600-1000 سنة قبل الإسلام.
وأهمية هذا النقش أنه، وبناء على قراءتي، يعرض لنا قطعة رجز. وهذا يعني أنّنا مع أقدم شعر عربي يصل إلينا حتى الآن. ويرجع الفضل إلى الباحث أحمد الجلاد في إثارة الاهتمام بهذا النقش. فقد نشر ورقة حول النقش حدس فيها بأنّه أمام نص شعري (1). ولم يكن مخطئاً في حدسه. غير أنه، وللأسف، قدم قراءة مشوشة جداً، وغير مقبولة، لهذا النقش المهم. وقد عمد إلى طريقة غريبة لقراءة النقش والتغلب على إبهامه. فقد افترض أنه خليط من لهجة صفائية وحسمائية. وانطلاقاً من ذلك، فقد أعطى لثلاثة أحرف من النقش قيمةً صوتية حسمائية لا صفائية. وبهذا التلفيق توصل إلى أنّ النقش يتحدث عن الصراع بين الإلهين الكنعانيين بعل وموت.
وأدناه تقطيع الجلاد للنقش بعدما حوّلناه من الحروف الإنكليزية إلى الحروف العربية، إضافة إلى تفسيره وفهمه لهذا النقش مترجماً عن الإنكليزية:
النص:
««لَحَجّ موت واللاظّ ثَرام
فمُيَكان خَلْف ليالِيُه وأوّامُه
وها أبّعْل يُبَتّْ ولَهُو باتّ وما نام»
المعنى:
«أولم (الإله) موت وليمة، المستهزئ يأكل
مؤسس تعاقب لياليه وأيامه
هو ذا بعل يُقطَّع أرباً. إنه لمقطع حقاً، لكنه ليس ميتاً».
وأعتقد أنه من السهل الاستنتاج بأن هذا كلام غامض جداً، ويكاد يكون بلا معنى.
ويمكن لي القول إنّ خطأين مركزيين أوصلا الجلاد إلى هذه القراءة المشوشة وغير المقبولة:
الخطأ الأول: وقع في تقطيع الحروف من 12-16 في الشطر الثاني من الرجز. فقد قطعها الجلاد على النحو التالي: فـ ميكن f –mykn مفترضاً أنّ الحروف الأربعة التي تتبع الفاء تكون كلمة واحدة هي: ميكن، وأن هذه الكلمة تقرأ: «مُيْكان» وأنها من جذر كون: «م ي ك ن (مُيَكان): يُرجَّح أنها صيغة اسم المفعول من الجذر «ك-و- ن» في وزن «أفعل»، وأصله «مُؤَكان»، بمعنى «كائن، ثابت»، والصيغة غير مثبتة في المعاجم العربية» (2).
والحقيقة أنّ هذه القراءة وهم. فالحروف التي بعد حرف الاستئناف جملة شرطية مكونة من الاسم الموصول «مَنْ» ثم من الفعل «يَكُنْ»، أي أن شبه الجملة في الأصل هكذا: «فـ من يكن». لكن جرى حذف النون بالإدغام وتشديد الياء. ثم كتب الكاتب الجملة كما تنطق، أي من دون النون «ميّكن». ولم يتمكن الجلاد من الانتباه إلى هذا الإدغام. ولو أنه انتبه إليه لما كان بحاجة إلى اختراع كلمة «مُيْكان» الملفقة من الصفائية والحسمائية معاً.
الخطأ الثاني: وقع في تقطيع الحروف من 19- 28. فقد قطعها الجلاد هكذا: ليليه/ و أومه. وفهم أن هذه جملة تعني: لياليه وأيامه: «أما كلمة «أوّامه» فأصلها «أيْوامه»، وهي صيغة الجمع المهجورة لكلمة يوم، والجمع المتعارف عليه «أيّام» (مماثلة الياء والواو) أحدث نسبياً» (3). وإذا كان ممكناً، نظرياً، قراءة الحروف الخمسة الأولى على أنها «لياليه»، فإن قراءة بقية الحروف «و أومي» على أنها «و أوامه» وأنها تعني «أيامه» قراءة «غير مقبولة بالمرة».
والحق أنّه لا لزوم لكل هذا التمحك لفهم جملة: «ليالي هأوّمِ». إذ إن الجملة تحمل تعبيراً عربياً معروفاً جيداً في الرجز الجاهلي، وهي «الليالي الأُوَم»، أو بالتشديد «الليالي الأوّم»:
لَمَّا رأَيت آخِرَ اللَّيلِ عَتَمْ
وأَنها إحدى لَيالِيك الأُوَم
والتعبير يعني: الليالي المنكرة، أي السيئة: «اللَّيالي الأُوَّمُ: المُنْكَرَة، ولَيالٍ أُوَمٌ كذلك» (لسان العرب). والاختلاف أن النص الصفائي يستخدم الهاء بدل أل التعريف العربية: «ليالي هأوّم = ليالي الأوّم». كما أنه يمد الكسرة في «هأوّم» ويحولها إلى ياء «الأومي». ونحن نعرف أن النقوش الصفائية تستخدم الهاء أحياناً وأل التعريف أحياناً أخرى.
بالطبع، هناك حرف الواو الذي يبدو زائداً بعد الهاء «هوأوم». وليس لديّ صورة للنقش للأسف كي أتأكد من وجوده ومن صحة قراءته. لكن من المحتمل أن رغبة الكاتب في الحصول على الهمزة المضمومة هي التي جعلته يضيف هذه الواو. بالتالي، فهي واو لتأكيد ضمة الهمزة لا غير.
وجملة «الليالي الأوم» وصف لليالي المعتمة، التي لا قمر فيها، في آخر الشهر. وهي بالنسبة إلى البداة المرتحلين أصعب الليالي وأخطرها على الإطلاق. ففيها، وفي ظل عتمتها، تجري غزوات الأعداء، وهجمات السباع البرية، عليهم وعلى قطعانهم. بذا فشطرا الرجز الذي أوردناه أعلاه تكرر تقليداً ربما يكون عمره ألف سنة قبل الإسلام.
وإذا كان ما نقوله صحيحاً، فإن شطرين اثنين من قطعة الرجز يكونان قد انكشفا أمامنا وفُهما. ذلك أن الشطر الأول مكون من اسمين مع لام الملكية لا غير.
لـ حثمةٍ و لـ زضرمِ
فميّكن خلف ليالي هأُوّمِ [ليالي الأّوم]
أما «حثمة» فاسم كان شائعاً في نهايات العصر الجاهلي وفي الإسلام. وهو يعني: «أُكَيْمَةٌ صغيرة سوداء من حجار» أو «أرنبة الأنف» أو «المهر الصغير» (لسان العرب). وأما زضرم فلم يرد كاسم في المصادر العربية. كذلك ليس هناك جذر لهذا الاسم في القواميس العربية. لكن لدينا الجذر «زدرم» الذي يبدو كتنويع على «زضرم». وهذا الجذر يكاد يكون ميتاً. إذ لا نجد تحته سوى كلمة واحدة: «الازدرام: الابتلاع» (الجوهري، الصحاح في اللغة). بالتالي، فالاسم زضرم يعني: المبتلع في ما يبدو، أي الذي يبتلع كالوحش أخصامه. وأما «خلف»، فيبدو أنها تعني هنا: حبيساً. ذلك أن الخلف هو محبس الإبل: «والخَلْف: المربد يكون خلف البيت. يقال: وراء بيتك خلف جيد. وهو المربد، وهو محبس الإبل» (لسان العرب).
بناء عليه، يتبقى علينا أن نقرأ الشطر الثالث الذي يبدو الأصعب. ونحن نقطعه على الشكل التالي:
و هبعر يبتو له بتو منم
ومن الواضح بالنسبة إلينا أن هذا الشطر يجب أن يحوي جواب الشرط لجملة «من يكن». ويفترض أن يبدأ هذا الجواب بفعل مضارع لأن الشرط بدأ بـ «يكن» المضارعة. والياء الوحيدة الموجودة لدينا في هذا السطر تقع في كلمة «يبتو» التي نعتقد أنها تمثل جواب الشرط وأنها مجزومة به، أي أنها في الأصل «يبتون». بالتالي يجب كتابتها بواو الجمع في نهايتها عند كتابتها بالخط العربية الذي نستخدمه «يبتوا».
أما الكلمة الأولى في البيت «هأبعر» فمعطوفة بالواو على «ليالي الأوم». ونفترض أن أبعر هذه جمع بعير، وأنها منونة (أبعرٍ). وقد تكون الهاء فيها اسم إشارة (هذه الأبعر) أو أنها هاء التعريف، التي تلعب دور أل التعريف.
لكننا لسنا متأكدين تماماً من معنى جملة «يبتوا له بتوَ». غير أن من الواضح أننا مع فعل ومصدره، وهو ما يشير إلى أن «بتوَ» مفعول مطلق مضاف إلى الكلمة الأخيرة: «بتوَ منمِ». وسوف نأتي إلى كلمة «منم» لاحقاً. لكن يبدو أنّ «بتوا، بتوَ» من الجذر «بتا». والغالبية على أن هذا الجذر تنويع على الجذر «بتأ» بمعنى أقام: «بَتَأَ بالمكان يَبْتَأُ بُتُوءاً: أَقامَ. وقيل هذه لغة، والفصيح بَتَا بُتُوّاً» (لسان العرب). يضيف ابن دريد: «والبَتْو فعل ممات، ثم قالوا: بتا يبتو بَتْواً، فلم يهمزوا؛ وهمز قوم فقالوا: بَتأ يبتَأ بُتوءاً، إذا أقام بالمكان، وليس بالثَّبْت» (ابن دريد، جمهرة اللغة). بذا فليس لنا مفر سوى القبول، بشكل ما، بأن هذا الجذر يعني: أقام، رغم أن هذا مؤكداً.
انطلاقاً من هذا، يبدو أن الرجاز يقول:
ومن يقضي وقته حبيس الليالي الأوم المنكرة، وهذه الأباعر، فإنه سينتهي إلى أن يبتون له بتوَ (منمِ). أي سيقيمون له، أو ينشئون له، مكان إقامة يوصف بأنه «منم». لكن يمكن قراءة كلمة خلف على أنها «خِلْف» وبمعنى ما تخلفه الليالي الأوم والبعران. ولسنا ندري بالضبط ما تعنيه كلمة «منم» ولا كيف علينا تشكيلها. لكن السياق ربما يعطي معنى أنهم يحفرون له «قبراً». أي أن مكان الإقامة هنا هو القبر. وإذا صح هذا، فإن «منم» هنا تبدو على صلة بـ «مُنِيم» بمعنى: مهلك، في بيت شعر للبيد. «قَبائِلُ جُعْفيّ بنِ سَعْدٍ، كأَنما/ سَقى جَمْعَهم ماءُ الزُّعافِ مُنِيم. قوله: منيم: أَي مُهْلِك، جعل الموت نوماً» (لسان العرب). لكن كي ينضبط الإيقاع في الرجز، يبدو أنّ علينا أن نقرأ الكلمة الأخيرة بتشديد الياء (مُنَيّمِ):
يبتوا له بتوَ مُنَيَّمِ
أي بتواً للموت والهلاك، أي مقراً للموت والهلاك. بناء عليه، يبدو أن الراجز يصف وضعه. فهو حبيس الليالي الأوّم، وحبيس أباعره في الصحراء، وأن هذا ما سيهلكه ويودي بحياته. وبناء على هذا، فإنني أقترح أن اللام قبل اسمي حثمة وزضرم (لـِ حَثْمَةٍ و لـِ زَضْرَمِ) لا تشير إلى أن النقش من كتابة حثمة وزضرم معاً، بل إلى أن الراجز يكتب لهما، أو يستشهد بما كتبه غيره، كي يوضح لهما وضعه. وهذا يعني أنهما رفيقاه أو أخواه. كما أنه يعني أنه يرسل لهما رسالة يشرح لهما فيه وضعه. ولعله بذلك يرسل لهما رسالة استغاثة. فهو سيهلك وحيداً إن لم يسعفوه.
«لحثمة و لزضرم
فمن يكن خلف لياليٍ هأوّم
بتّوا له بتوَ منيّم»
إن صح كل هذا، يبدو أننا مع أقدم شعر عربي نصل إليه حتى الآن. أكثر من ذلك، يبدو أن هذا النقش يدعم بالفعل اقتراح أن الرجز هو أقدم شكل للكتابة الشعرية العربية وأنه أقدم بكثير من التقصيد، أي من الشكل الذي يتكون فيه كل بيت من شطرين ونسميه قصيدة.

* شاعر وباحث فلسطيني

1- Al-Jallad, Ahmad, (Echoes of the Baal Cycle in a Safaito-Hismaic Inscription, Journal of ancient near eastern religions 15 (2015) 5–19 ).
2- حكمت درباس، ما قبل القصيدة الجاهلية: دراسة في الشعر العربي القديم، ضفة ثالثة، 15 مارس 2018.
3- حكمت درباس، المصدر السابق.