في كتابها «البطلة بألف وجه ووجه» (2021) الذي صدرت ترجمته العربية أخيراً (دار نينوى ــــ ترجمة عدنان حسن)، تعمل الأكاديمية الأميركية ماريا تاتار على إعادة الاعتبار لبطلات تجاهلهن جوزيف كامبل في أطروحته المعروفة «البطل بألف وجه» (1949) إذ استبعدهن من «بانثيون الأبطال»، فتكشف عن الجانب المهمل لنساء صنعن تاريخاً مضاداً في حكايات لا نهائية، على غرار ما فعلته شهرزاد في «ألف ليلة وليلة»، باستدراج وقائع وأساطير وسرديات، تنسف خريطة الأبطال التي وضعها كامبل وآخرون. البطلات هنا لا يحملن سيفاً، وغالباً ما يُحرمن من القلم، لمصلحة الأعمال المنزلية فقط. كانت الفكرة الأولية للمتخصّصة في الفولكلور وأدب الأطفال والأدب الألماني، الاشتغال على تفكيك «رحلة البطل ومحنة البطلة». أبطال هرقليون، ونساء منفيات ومستبعدات، صورة ستتكرّر في المخزن الأدبي والأسطوري حيال الجنوسة، فمعظم القصص تصوّر رجالاً وآلهة ذكوراً، وستكتفي النساء برواية حكايات الأبطال، كأن الكلمات وحدها التي تقود المرأة كي تنجو من النسيان أو الموت، كما في حال شهرزاد: «إنّ براعتها في سرد القصص لا تمكّنها من البقاء على قيد الحياة فحسب، بل تمكّنها أيضاً من تغيير الثقافة التي تعيش فيها» تقول.


ستعمد كاتبات اليوم إلى زعزعة مفهوم البطل بإعادة النساء المهمّشات إلى الواجهة ومنحهن أصواتاً عالية، فرواية «بنيلوبياد» لمارغريت أتوود، على سبيل المثال، خلخلت الأرضية المستقرة لملحمتَي هوميروس (الإلياذة و الأوديسة)، بمنح «بينيلوبي» مهمةً أخرى غير انتظار عودة المحارب. البطلات، وفقاً لهذه الرؤية المضادة عملن على إصلاح «الحواف المهترئة» للنسيج الاجتماعي، إذ يوجد على الدوام جانب آخر للقصة، وإن الإسكات لا يحول دون الإمكانات لأجل الفعل البطولي، وهو ما عملت عليه توني موريسون أيضاً في روايتها «محبوبة» بتحريك شخصيات من الماضي، ليس بقصد التكرار، إنما من أجل إضفاء معنى مختلف للتاريخ النسوي، بصوغ نسختها الخاصة. لقد خلق كامبل افتتاناً جمعياً بالأساطير التي صنعت أبطاله، وتالياً صعوبة الخروج عن القواعد التي أرساها. يعترف كاتب السيناريو نيل غايمان بفضل كتاب «البطل بألف وجه» عليه، باستخدام الصدمة عند كل منعطف في الزقاق السردي لإذكاء الأطوار المختلفة من رحلة البطل، الأمر الذي تفتقده النساء، فحسب كامبل «عندما تدرك امرأة ما هي شخصيتها الرائعة، فإنها لن تشوش بفكرة كونها ذكراً زائفاً».
هكذا غامرت ماريا تاتار بتغيير اتجاه دفة السفينة والإبحار عكس التيار رغم ريح كامبل العاتية التي واكبت تحوّلات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وديستوبيا جورج أورويل، و«عوليس» جيمس جويس، لتلتقي سيمون دو بوفوار في كتابها «الجنس الآخر» الذي صدر في السنة نفسها التي احتضنت كتاب جوزيف كامبل. وإذا بكتابها يؤسّس للموجة الثانية من النسوية، بفضح فكرة «كان الرجال فاتحين، وكانت النساء أسيراتهم المستعبدات.. الرجال يخترعون، في حين أن النساء يبقين في المنزل، وينجبن».
والتفتت إلى الحكايات الخرافية التي كانت جزءاً من طفولتها، لتجد حقائق قاسية للتقسيم الجنوسي: حسناء نائمة، سندريلا، بياض الثلج، فيما يقوم الذكور بأفعال خارقة خارج المنزل، في تناص مع «أوديسيوس في رحلة، وبينيلوبي في البيت». في البحث عن اسم أوديسيوس في محرك البحث غوغل، ستجد الباحثة مرادفات تخييلية من طراز: شجاع، مخلص، ذكي، متغطرس أحياناً، حكيم، قوي، داهية، مهيب. وعلى المنوال نفسه، سيحصل أبطال هوميروس الآخرون على أعلى درجات الشجاعة والنبل والبسالة، فيما توصف بينيلوبي بأنها «زوجة أوديسيوس»، وكذلك «البراعة في النول»! أما «هيلين»، فهي فاتنة ومغوية وساحرة. المفارقة أن هذه الإجابات تخص كاتبات وباحثات في المقام الأول. من هذا الباب، تحاول ماريا تاتار تصحيح الصورة التي راكمها الأسلاف واستثمرها كامبل، بفتح قوس مشع ينطوي على رؤية مختلفة لتاريخ النساء الثقافي، بعيداً من التصورات الذكورية التي أطاحت بالمنجز الأنثوي بشراهة، بإعلاء شأن المحاربين والآلهة والذئاب المنفردة في الميثولوجيا، والأفلام، والأدب.
اقترحت أليس ووكر خطاباً مضاداً للسرديات التي تدور حول إخراس النساء


سنتتبع نصوصاً تُعيد للمرأة صوتها، فهي ليست نسّاجة خيوط فقط، وإنما حائكة حكايات، من شهرزاد التي وضعت الرجال والنساء في حالة حرب حقيقية، ثم انتقالها من دور الضحية إلى استعادة موقعها في الحق بالكلام، مروراً بأليس ووكر التي تقترح خطاباً مضاداً للسرديات التي تدور حول إخراس النساء وإسكاتهن، لكن القصة لا تنتهي هنا، فاستراتيجيات إسكات النساء ما زالت تعمل بفاعلية لمحو فضائح الاغتصاب والتحرّش والإقصاء بتسويات واتفاقيات سريّة، سبق وكشفت عنها جودي كانتور في روايتها «كيف تُسكت ضحية». وسوف تزداد جرعة البوح العلني أو التكلّم جهاراً على مراحل، من الاسم المستعار إلى الاسم الصريح كنوع من التمرين على إعادة تكوين الهوية. تقول تشانل ميلر «لا مزيد من التشظّي، كل قطعي متراصفة. لقد أعدت وضع صوتي داخل جسدي». في استعادة شخصيات روائية مثل «آنّا كارنينا» لتولستوي، و«إيما بوفاري» لفلوبير، تُشير ماريا تاتار إلى أنّ هذه الشخصيات حبيسات زيجاتهن، وتوقهن إلى شيء خارج قيود المنزل. في المقابل، فإن الأبطال غالباً ما يكونون مغامرين شجعاناً، متهورين، لا يعرفون الخوف. لكن «خربشات النساء» سترتحل من الشفاهي والخرافي إلى المكتوب وقد بلغت سن الرشد، بمغادرة المساحات الداخلية نحو الفضاء العام بقوة فضول الاستكشاف. سنتعرّف إلى آن فرانك كبطلة من خلال مفكرتها أثناء فترة الحرب والتخفّي والنازية، لكن عبقريتها الأدبية ستُهمل نقدياً، وهو حال كثيرات. تستدرك بما يشبه النبوءة: «أريد أن أستمر في العيش حتى بعد موتي». هذه الاندفاعات الأنثوية في الكتابة أبطلت عملياً فكرة «البطلة ربة المنزل السعيدة» بصعود التخييل الذاتي، و«معالجة مدّ وجزر الحياة اليومية».
البطلات بألف وجه ووجه، كما تختتم ماريا تاتار، يكشفن عن جوانب جديدة من قصص قديمة. لا تسود بطلة واحدة أو تدوم. بدلاً من ذلك، تظل البطلات يتطورن، يتحدين السلطة والشرعية، يتمردن، يقاومن، ويطالبن بالتحولات، وتالياً، فإن الهرميات التقليدية للبطولة تعاد «لخبطتها»، ويعاد ترتيبها إلى الأبد كقيم ثقافية وتعاد موازنتها. أبطال وبطلات يعيدون اختراع أنفسهم إلى ما لانهاية، تماماً كما يوحي العدد 1001 في اللغة العربية.