يُوضح المترجم، حيدر عبد الواحد راشد، بداية السيّاق الذي ألّف فيه الفيلسوف الألماني يوهان غوته (1832 - 1749) هذا العمل الفريد في بابه المسمى «نظرية الألوان» (1810)، والذي أتى في إطار نقاشه لقصور نظرية العالم الإنكليزي، اسحق نيوتن (1727 - 1643) للألوان، القائمة على تصوّر فيزيائي اختزالي، في حين أنه كفنان يتعامل معها كعنصر جمالي. يتكوّن النص الألماني الأصلي من أبواب ثلاثة: تعليمي وجدلي وتاريخي. واكتفت الترجمة العربية بالباب الأول مع مقتطفات من البابين الآخرين، استناداً إلى طبعة إنكليزية له. والغرض من نقل الكتاب إلى لغة الضاد (دار الرافدين ـــ 2023) كونه «يُسلط الضوء على زاوية غير مكتشفة في تاريخ العلم وتطور المنهج العلمي».

يُعرّف صاحب «آلام فرتر» الألوان بأنّها «أفعال الضوء وتعديلاته الإيجابية والسلبية»، وهما، أي الضوء والألوان «جزء من الطبيعة» كما تتبدى لحاسة البصر. والى حين نشر بحثه لم يكن قد تعرض لوصف وتصنيف الألوان، بحسب زعمه، إلا الفيلسوف اليوناني القديم ثيوفراستوس، ثم المخترع والفيزيائي الإنكليزي روبرت بويل (1691 - 1627) في العصور الحديثة، وبالتالي، يأتي هو في المرتبة الثالثة في تناول هذا الموضوع.
والصلة مباشرة وواضحة بين النور والعين، ونقلاً عن قول صوفي: «إذا لم تكن العين مشرقة، فكيف لنا أن ندرك النور؟ وإذا كانت قوة الله لا تعيش فينا، فكيف لنا أن نبتهج بالأشياء الإلهية؟». وهذا يقود إلى النتيجة التالية: اللون ظاهرة أولية في الطبيعة تتكيّف مع حاسة الإبصار، ظاهرة تظهر نفسها، مثلها مثل غيرها، عبر الانفصال والتباين، وعبر الاختلاط والاتحاد، وعبر الزيادة والتحييد وعبر الاتصال والانحلال.
يتناول غوته أنواع الألوان الثلاثة: الألوان الفسيولوجية المنتمية كلياً إلى الفاعل، أي العين نفسها، والألوان الفيزيائية، نتاج الوسائط المادية، وهي تنعكس في العين، والألوان الكيميائية، التي يمكن إنتاجها ووضعها وتثبيتها في أجسام محددة. ويُطالب الفيلسوف أن يكون مُطلعاً على الأبحاث الطبيعية، ملتفتاً إلى النتائج القارئة للوقائع المعزولة. ولهذا يريد تقريب نظرية الألوان إلى فهمه، ووضعها في إطار الدرس بعيداً من علم البصريات وفي استقلال عن علم الرياضيات. ويريد غوته لنظريته في الألوان أن تكون عملية، فيستفيد منها أهل الصباغة في مهنتهم، وهو رأى أنّ هناك صلة بين اللون واللحن الموسيقي، كأنهما نهران ينبعان من الجبل نفسه، لكنهما يشقّان طريقهما في ظروف مختلفة تماماً، ويتصرفان «وفق القانون العام للانفصال والميل نحو الاتحاد، للتذبذب والترجح».
يرتبط اللون، كظاهرة أولية، في نظر غوته، بالمشاعر ويخضع كذلك لأسمى المقاصد الجمالية. إذ يُشيع البهجة، وتكفي الإشارة إلى ضوء الشمس، وما نشعر به حين تسطع أمامنا ولا سيّما في يوم غائم، كما أن ثمة اعتقاداً بقدرة الأحجار الملوّنة على الشفاء. وتنتج الألوان تأثيرات في العقل، فألوان معينة تثير حالات معينة في الشعور.
ويضع الفيلسوف الألماني تصنيفاً للألوان: فمنها الإيجابي، وهو الأصفر والأحمر المصفر (البرتقالي)، والأصفر المحمر (مينيوم وزنجفر)، وهي تحدث مشاعر سريعة وحيوية، فالأصفر يتمتع بطابع هادئ ومبهج ومثير، وينتمي في الرسم إلى الجانب المضيء. هذا، في حال النقاء، وإذا تعرض للتلطيخ ينتج عنه تأثير سلبي: «ولعل القبّعات الصفراء للمفلسين والدوائر الصفراء على عباءات اليهود تدين بأصلها لهذا الانطباع». أما اللون الأحمر المصفر، فيوحي بالدفء والبهجة «لأنه يمثل درجة توهج النار الأكثر كثافة، والإشراق الأشد اعتدالاً لغروب الشمس»، وهو ينتمي إلى الجانب النشط. أما الأصفر المحمر، فهو لون قوي نشط يحبّه الرجل المتهور وغير المتعلم، ويقول غوته إن الميل إليه ظهر لدى الأمم البدائية، وهذا اللون موضوعاً على قطعة قماش يثير الحيوانات ويزعجها.
أما الألوان على الجانب السلبي، فهي الأزرق والأحمر المزرق والأزرق المحمر، وهذه تنتج انطباعاً مضطرباً وحساساً وقلقاً. والأزرق مرتبط بمبدأ الظلام، يوحي بنوع من التناقض بين الإثارة والراحة، مثلما تظهر لنا السماء والجبال البعيدة باللون الأزرق، إذ تبدو كأنها تَفر منا وتبتعد. ويُذكرنا الأزرق بالظل، وهو يتقارب كثيراً مع اللون الأسود، ولذلك تبدو الغرف المطليّة بالأزرق باردة وخالية، أما الأحمر المزرق، فيكتسب طابعاً نشطاً، واللون في حالة الضعف الشديد يأخذ اسم الأرجواني، وفي هذه الدرجة «فإنه يتمتع بحالة تنبض بالحيوية من دون سعادة»، ولا يطيق البصر حتى سجادة ملونة بالأزرق المحمر، وإذا استخدم في الملابس فعلى نحو خفيف. لذا، يقول غوته إن كبار الشخصيات في الكنيسة قد خصصوا هذا اللون المزعج لأنفسهم.
أما اللون الأحمر، «فيثير انطباعاً عن الجاذبية والكرامة، وفي الوقت نفسه عن النعمة والجاذبية»، أما ما يصاحبه ويحيط به، فيملك تأثيراً خطيراً. وفي الاستخدام الكيميائي، يمكن دفع اللون إلى الجانب الإيجابي أو السلبي، وبالمعالجة والإضافة يمكن الحصول على اللون القرمزي، الذي يملك الفرنسيون تحيّزات ضده، فيقولون: «أحمق يرتدي القرمز» و«شرير يرتدي القرمز»، ما يشير إلى السخف والبغض.
رأى أنّ هناك صلة بين اللون واللحن الموسيقي كأنهما نهران ينبعان من الجبل نفسه


أما الأخضر، فناتج اتحاد الأصفر والأزرق، وترتاح العين والعقل له. ويرى غوته إن العين لا ترتاح إلى اللون الواحد، لأنها تتأثر مرضياً إلى حد ما بذلك، بل إنها تريح نفسها بإنتاج لون آخر في الحال. فكل لون له ما يجاوره، على سبيل المثال، الأصفر يتطلب الأحمر والأزرق، والأزرق يتطلب الأحمر والأصفر، والأحمر يتطلب الأخضر، والعكس بالعكس.
تفيد الخبرة والتاريخ إن البشر في حال الطبيعة والأمم البدائية، وكذلك الأطفال، يحبون الألوان في أقصى درجة سطوعها، كما يستعمل سكان جنوب أوروبا الألوان في أزيائهم. وتعبّر الألوان كذلك عن الأطر الذهنية للشعوب: فالشعب الفرنسي، الموصوف بالأمة المفعمة حيويةً، يحب الألوان الفاقعة، أما الدول المعتدلة، مثل الإنكليز والألمان فترتدي لون القش أو الأصفر الجلدي مصحوباً باللون الأزرق الداكن. أما الدول التي تهتم بسمو المظهر مثل الإسبان والطليان، فتفضل أن يميل اللون الأحمر في لباسهم إلى الجانب السلبي. ويذكر غوته إن الأباطرة الرومان كانوا يفضلون لون الأرجوان الملكي، ورداء الإمبراطور الصيني برتقالي مطرز بالأحمر. أما الحاشية ورجال الدين فيرتدون الأصفر الأترجي. وقد اعتبر بعض الباحثين أن عمل غوته العلمي هذا قد أسس لعلم نفس الألوان.