في أوائل هذا الشَّهرِ، وقّعت أرملة المفكِّرِ الرَّاحل محمد أركون (1928-2010) اتفاقية مع وزارة الثقافة المغربية تضع بموجبها مكتبتَه رهن إشارة الطلبة والباحثين كَهِبَة ترعاها المكتبة الوطنية المغربية. فرصة لنستعيد الخطوط الأساسيَّة التي شكَّلت مشروع الراحل الفكري بدايةً من ينابيع تكوينه الشخصي والأكاديمي، خصوصاً مع إصدار «دار الساقي» أخيراً الطبعة الثانية من كتابه «التشكيل الإنساني للإسلام» (ترجمة هاشم صالح ـــ تقديم إدغار موران ـــ راجع مقال الزميل عفيف عثمان).لأركون من فضل كبير على الثقافة العربية ــ الإسلاميَّة، وبالتالي الثقافة الكونيَّة. مع مشاريع فكريَّة أخرى، سعى أركون إلى إخراج الإسلام من مأزقه التاريخي، ليكون ندّاً للغرب، بحيث اقترح تعريفاً جديداً للاجتهاد، يتوافق مع سياقه المعاصر ومهامه: هدم أنساق التفكير الديني القديم وأيديولوجيات الاحتراب التي تغذِّيها، رغم أنَّها عملية ستواجَه بشكل مزدوج من خصمين يبدوان على طرفَي النقيض في حين أنهما يتشابهان في الجوهر: الرقابة الرسمية للدولة ورقابة الحركات المتأسلمة. وفي الحالتين معاً، قد يكون مآل هذه الخطى التحديثية والعلمية هو الرفض والتهميش، خصوصاً في ميدانَي التعليم والمؤسسات الروحية.


ولد أركون لأسرة فقيرة من قبيلة آيْتْ يِنِّي في بلدة تاورِيرت مِيمون، التابعة لمدينة تِيزِي أوزو، في قلب منطقة لقبائل الجزائرية، وتلقَّى تعليمه الابتدائي في بلدته، ثمَّ اضطرَّ للانتقال إلى وهران حيث استكمل المرحلة الثانوية في مدارس التبشير المسيحي التابعة لرهبان أخويَّة «الآباء البيض»، وهي تنظيم كنسي كاثوليكي تبشيري وتعليمي، تأسس في عام 1868 وانتشر في سائر أفريقيا. في كتابه الحواري الأخير «التشكيل الإنسانيُّ للإسلام» الذي يشبه سيرةً أو وصيَّة فكرية، وربَّما خلاصة لمشروعه، خصوصاً أنه صدر بعد وفاته، يقول أركون بكلِّ نزاهة وتجرّد فكريَّين: «درَستُ في مدارس الرُّهبان، وخلال تتلمذي على أيديهم، لم أشعر للحظةٍ واحدة أنهم كانوا يحاولون استمالتي إلى عقيدتهم». بدأ مساره الجامعي بالدراسة في شعبة الفلسفة التابعة لكليَّة الآداب في الجزائر العاصمة، واستكمَلها بالسوربون في باريس، ليتخرَّج في عام 1956 أستاذاً في اللغة والآداب العربيَّة، ويتوَّج في عام 1968 بدكتوراه في تخصّص الفلسفة. صار عضواً في هيئة التدريس في جامعة ستراسبورغ (1956-1959)، ليترقى إلى درجة أستاذ مساعد (1969-1969) في السوربون، ثم أستاذاً مشاركاً في «جامعة ليون 2» (1969-1972)، ثم أستاذاً جامعياً في «باريس 8» و«باريس 3» (السوربون الجديدة) بين عامَي 1972 و1992. اشتغل بعدها أستاذاً زائراً أو عضواً استشارياً في جامعات برلين، برنستون، نيوجرسي، كاليفورنيا، لوفان، روما، أمستردام، «أكاديمية المملكة المغربية للعلوم والفنون»، و«مؤسسة الدراسات الإسماعيلية».
طيلة مشواره في البحث العلمي وفي كلِّ إنتاجه الأكاديمي والتأليف الشخصي، كان خيطه النَّاظم هو اللامفكّر فيه في الإسلامَيْن الكلاسيكي (الإسلامان المبكِّر والوسيط) والمعاصِر، بانفتاح إنساني على جميع آليات ومناهج القراءة الحديثة، ودفاع مستميت عن العلمانية، مع تحريض تنويري على الحوار بين الأديان والثقافات، في محاولة لصوغ علمٍ مقارن للأديان، لا تحيُّز فيه لعقيدة سماويَّة أو وضعيَّة. رغم أن المتن الذي كان يشتغل عليه عربيُّ اللِّسان، فقد جمع في لغة التأليف بين الاستناد إلى اللغة الفرنسية أو إلى الإنكليزية في أحيان قليلة، خصوصاً في المؤلَّفات الجَماعيَّة.
دخل أركون عالَم النشر بكتابه «الفكر العربي» (1975)، لتليه مؤلفات تشكل تفريعات لهذا الكتاب: «قراءات في القرآن» (1982)، و«التفكير في الإسلام اليوم» (1993)، محاضرات كرسي Gifford، تحت عنوان: «تأسيسٌ لنقد العقل الإسلامي» (2002) في جامعة إدنبره الإسكتلندية، «اللَّامفكَّرُ فيه في الفكر الإسلامي المعاصِر» (2001).
ذاع صيت أركون في الأوساط الجامعيَّة في عام 1969، مع نشره لدراساته حول المفكِّر والمؤرِّخ الفارسي مسكويه (القرنان 10 و11م)، باعتباره رائداً لتيارٍ إنساني في الفكر الإسلامي الوسيط، ولم يكتف أركون بمقالات بحثيَّة ومؤلَّفات عنه، بل نقل أيضاً إلى الفرنسيَّة كتابه «تهذيبُ الأخلاق وتطهيرُ الأعراقِ» تحت عنوان Traité d›éthique. منذ عام 1980 حتَّى وفاتِه، تولى مهام التحرير العلمي لدوريَّة Arabica الرصينة والمتخصّصة في الدراسات الإسلامية، الصادرة عن «دار برايل» التَّابعة لجامعة ليدن (تقف وراء إصدار موسوعة «دائرة المعارف الإسلامية»، بكل اللُّغات، وقد أسهم أركون في مداخل معجميَّة كثيرة فيها، إضافة إلى باحثين عرب ومستشرقين).
من دون أي نزعة دعَوِيَّة، أسهم أركون في نشر الثقافة العربية ــ الإسلامية في الغرب وفي التعريف بها أكاديمياً، من خلال مُساءلتِه إمكانيَّة وطرائق إعادة التفكير في الإسلام، داخل سياق العالَم المعاصر، في تآليف مزدوجة الغرض: التعريف بثقافتنا، وتفنيد الطروحات التحقيرية الغربية، المبنيَّة على أيديولوجيا التفوّق العرقي والمهمة الحضاريَّة للغرب في تمدين الشرق وإخراجه من البداوة والتوحّش. طروحات لا يعزوها أركون إلى الاستشراق بكامله، ذلك أن نظرته إلى الخطاب الغربي الدارس للشرق ليست سلبية بالمطلق، إذ قام بتنزيه الاستشراقين الألماني والسلافي عن هذه الكليشيهات (ربما بسبب عدم وجود أي احتكاك استعماري بيننا من جهة وبين الألمان والسلافيين من جهة أخرى). كما أنَّ أركون جرّم القراءات التأويلية المغرضة للاستشراق، من دونَ جهود الأخير المحمودة في تحقيق النصوص التراثية العربية-الإسلامية وتصنيف مخطوطاتها وحفظها وترميمها في المكتبات الغربية، ثمَّ ترجمتِها إلى اللغات الأوروبية وتحشيتها بالشروحات المعجمية. يقول في محاضرة ألقاها في «معهد العالم العربي» تحت عنوان: «المهامّ النظرية والعملية للإسلاميات التطبيقية» (بتاريخ 13.05.2007): «ليس الغرب أبداً تجسيداً للشيطان المادي، اللاأخلاقي، الملحد، كما أن الإسلام غير قابل للاختزال في السلفية المتطرفة، ولا يمكن اعتباره متنافراً مع الديموقراطية والحداثة».
تصدَّى أركون أيضاً لتفنيد طروحات دارسين روحانيين غربيين أمثال رونيه غينون وفريتجوف شوان، اللذَيْن حاولا بناء صورة أسطورية ورومانسية عن الإسلام، على حساب الاهتمام بدراسة مشكلات الواقع اليومي وأشكال التفكير العقلاني في العالم الإسلامي.
لأركون أيضاً نظرة خاصة إلى العلمانية تستوجب أخذ خصوصيات العالم العربي-الإسلامي (يبدو هنا قريباً من المفكر التونسي الراحل هشام جعيط الذي يرفض الأخذ بالعلمانية الفرنسية بحذافيرها). في دفاعه عن قيم العلمانية، يشرع أركون في نقدها، نظراً إلى الأشكال الفريدة التي اتخذتها عبر التاريخ والتناقضات التي انتهت بها، والتي ينبغي تجاوزها، وهي متجلية في الأساس في عدم فهم ثقافة الآخر. يقول في كتابه «انفتاحات على الإسلام» (1989) موضحاً فكرتَه: «أسعى جاهداً، منذ سنين، من خلال النموذج المشنَّع به، المُساء فهمه وتأويله للإسلام، أن افتح السُّبُل لفكر يتأسس على المقاربة المقارنة من أجل تجاوز كل أنساق إنتاج المعنى ــــ عقائديَّةً أو علمانية كانت — التي تحاول تصوير المحلِّي، التاريخي، العارض، أو أي تجربة خاصة في شكل قيمة كونية، متعالية، مقدَّسة بشكل مطلق، ما يستوجب مسافة نقدية متساوية إزاء كل «القيم» الموروثة عن كل التقاليد الفكرية، بما في ذلك عقلانية الأنوار الفرنسية، والتجربة العلمانية التي انحرفت في شكل نزعة علمانية مناضلة وحزبية».