يعرف الجميع تقريباً الجملة الشهيرة والمخيفة «اقتلوا نعثلا» في التاريخ العربي- الإسلامي. ويفترض أنّ السيدة عائشة هي التي فاهت بها محرّضة على قتل الخليفة عثمان. فـ «نعثل»، أو «نعثله»، كان هذه بحسب الفرضية لقب تشهير للخليفة، أطلقه عليه معارضوه. بالتالي، فصرخة: «اقتلوا نعثلا» كانت تعني: اقتلوا عثمان بن عفان. ويُقال، في أغلب الروايات، إنّ المتمردين لقّبوا عثمان بهذا اللقب لأنه كان يشبه رجلاً مصرياً يدعى «نعثل» كانت له لحية طويلة مثل لحية الخليفة عثمان.
ولحسن الحظ فلدينا الآن نقش عُثر عليه في تيماء، يذكر في ما يبدو، ولأول مرة، اسم «نعثل». عليه، فلهذا النقش أهمية تاريخية كبيرة. ويبدو أن هذا النقش كتب عقب مقتل عثمان مباشرة، أو أن تاريخ كتابته لا يبعد كثيراً عن مقتل عثمان، الذي حدث في 35 للهجرة.
لكن الغريب، بل المدهش، أن النقش يسير عكس السائد في هذه القضية. بل إنه يقلب الأمور رأساً على عقب في ما يخص نعثلاً. فهو يؤكد وجود نعثل الذي تتحدث عنه الروايات، لكنه يجعل هذا الشخص قاتلاً لا قتيلاً. نعم، «نعثل» هو لقب القاتل لا القتيل عثمان بن عفان.

نقش قيس الكاتب. والصورة من مايكل ماكدونالد

النقش معروف تماماً عند المختصين، ويدعى باسم «نقش قيس الكاتب». ذلك أنّ كاتبه يخبرنا أن اسمه هو «قيس الكاتب أبو كبير». لكن هناك من قرأ الكلمة الأخيرة «كثير» بدل «كبير». والنقش مكون من سبعة أسطر، تحوي 16 كلمة لا غير. وقد قدمت أكثر من قراءة له. فقد قرأ أحدهم النقش هكذا:
«أنا قيس الكاتب أبو كبير. لعن الله من قتل عثمان ابن عفان ومن أحثّ قتله تقتلا».
بذا فالسطران الأخيران الملغزان يُقرءان هكذا: «ومن أحثّ قتله تقتلا». وهذه، كما نرى، جملة غامضة، ولا تعطي معنى متماسكاً. لكن يمكن الاستخلاص منها أن السطرين يتحدثان عن المحرّض على قتل الخليفة عثمان. فالفعل «أحثّ» يعني التحضيض والتحريض. لكن الأمور لا تستقيم لغوياً في هذه القراءة لثلاثة أسباب:
أولاً: أنه لا يقال في العربية: «أحثّ قتله»، أو «حثّ قتله»، بل يقال أحثّه، أو حثّه، أو استحثه، على القتل. فالشخص هو الذي يُستحثّ على القتل. أما القتل كفعل فلا يُحثّ ولا يستحثّ. بالتالي، فقد كان عليه أن يقرأ «قاتله» بدل «قتله» إن أراد التوافق مع اللغة.
ثانياً: أن الكلمة الأخيرة «تقتلا» لا تتوافق مع «أحثّ». فالضمير المستتر في «أحثّ» مذكر، في حين أن التاء في «تقتلا» تشير إلى ضمير مؤنث. بذا، فمن حثّ على القتل مذكر، ومن يفترض أن يقتل مؤنث.
ثالثاً: من الواضح أن جملة: «ومن أحثّ قتله تقتلا» شرطية. وبما أنها شرطية، فإن الفعل «تقتلا» هو جواب الشرط. وجواب الشرط يجب أن يكون مجزوماً لا منصوباً، أي «تقتلْ» بدل «تقتلا». ومن الصعب أن يكون الكاتب قد وقع في خطأ نصب المجزوم. فهو يصف نفسه بأنه «قيس الكاتب». وهو ما يشير إلى أن الكتابة كانت مهنته. أي أنه كان كاتباً محترفاً. وكاتب محترف لن يفوته أن جواب الشرط مجزوم.
ولدينا قراءة أخرى قرأت السطرين الأخيرين هكذا: «ومن أحب قتله يقتلا». أي أنها تضع «أحب» بدل «أحث» في القراءة السابقة. لكن نصب «تقتلا»، ومدّ فتحتها لتصبح ألفاً كما لو أننا مع شعر مقفى، هو مقتل هذه القراءة. فالجملة حسب هذه القراءة أيضاً شرطية، عليه فجواب الشرط يجب أن يكون مجزوماً (تقتلْ). أي: من أحبّ قتله يقتل. وهو ما يجعل الألف الأخيرة الواضحة زائدة.
بناء عليه، نعتقد أن الكلمة الأخيرة ظلت بلا حل، مع أن اللغز كله يكمن في هذه الكلمة. إنها لب النقش وجوهره. وما لم تقرأ بشكل سليم ومتوافق مع القواعد العربية، فإن اللغز لن يحل، أي أنّ معنى النقش لن ينكشف لنا.

قراءتي للنص
أما أنا، فبعد تقليب الأمور على أوجهها، فقد توصلت إلى أنه لا مناص من قراءة الكلمة الأخيرة في على أنها «نعثلا» وليس «يقتلا». وهذا يعني أن الحرف الثاني في هذه الكلمة عين وليس قافاً. كما أن الحرف الأول نون. وانطلاقاً من هذه القراءة، يجب أن نقرأ الكلمة السابقة «قتله» على أنها «قاتلَه». أي يجب أن نضيف إليها الألف التي لم تكتب. وحرف العلة الطويل كان لا يكتب في كثير من الأحيان في الكتابة القديمة، وكما رأينا في النقش الذي نتحدث عنه. فالألف في كلمات: «عثمن» و«عفن» و«الكتب» لم تكتب، بذا فقد قرئت: عثمان، عفان، الكاتب. وكذا علينا أن نفعل مع كلمة (يقتله). إذ يجب قراءتها على أنها (قاتلَه). عليه، فالنقش كله يقرأ هكذا:
«أنا قيس الكاتب، أبو كبير (؟). لعن الله من قتل عثمان بن عفان، ومن أحب قاتله نعثلا»

تتبعي لحروف نقش قيس الكاتب

وهذا يعني أنّ «نعثلاً» نصبت لأنها بدل من «قاتله» التي هي مفعول به. والبدل يتبع المبدل منه في حركته الإعرابية. بذا فقيس الكاتب يلعن من قتل عثمان، ومن أحب قتله نعثلاً. وهذا يعني أنّ «نعثلاً» هو من قتل عثمان، وأن عثمان ليس نعثلاً، بل قتيل هذا النعثل. وبهذه القراءة يكون لدينا نقش يتوافق مع نفسه، ويتوافق مع قواعد اللغة، ويعطي معنى متماسكاً. هذه هي القنبلة الكبيرة في «نقش قيس الكاتب».
في كل حال، فإن عدم تمكن قراء النقش الآخرين من قراءة الكلمة الأخيرة على أنها «نعثلاً»، وفهمها على أنها اسم القاتل، لا يعود إلى أنهم لم يتمكنوا من رؤية حروف الكلمة جيداً، بل يعود، في أغلب الظن، إلى أنهم لم يصدقوا ما رأته أعينهم. فقد رأت أعينهم الحروف كما رأيتها أنا، لكنهم لم يكونوا قادرين على قراءة الكلمة «نعثلاً»، لأنّ «نعثلاً» عندهم هو لقب الخليفة عثمان. وكيف يمكن أن يكون عثمان القتيل هو القاتل ذاته؟ هذا من أثار التشوش والاضطراب عندهم حين قرؤوا النقش.
أما أنا، فلم أخضع لابتزاز التراث. فحين وجدت أن الكلمة تبدو «نعثلاً»، فقد قرأتها هكذا، بغض النظر عن مخالفتها لما أعرف. وباختصار فإن العقل هو الذي يقرأ في الأساس لا العين. وحين يكون العقل مقيداً، تصبح العين ذاتها مقيدة أيضاً.

استخلاصات
إذن، فما الذي نفعله بهذه المعلومة التي يعطينا إياها النقش، والتي تخالف كل ما نعرف؟
نحن أمام خيارين: إما أن لا نقبل كلام قيس الكاتب، وأن نشكك فيه. وهذا أمر ليس سهلاً أبداً. فليس بين يدينا من إشارة واحدة تجعلنا نشك في أنه كاذب أو مهلوس. وإما أن نعيد قراءة التاريخ بناء على المعلومة التي قدمها لنا. وهذا ما أعتقد أنه الطريق الذي يجب أن نسلكه. وانطلاقاً من هذا، يمكن وضع بعض الاستخلاصات والملاحظات التي تقوم على أن نعثلاً هو قاتل عثمان بن عفان:
أولاً: لدينا هذا السؤال: هل هناك من دبر تعمية الأمر في قصة «نعثل» بهذه الطريقة من أجل مصالحه الخاصة؟ أي هل هناك من «تآمر»، بشكل ما، لقلب الأمور بهذا الشكل الغريب، وتضليل الناس، من أجل مصلحته الخاصة؟ أم أن الأمر كله كان نابعاً من خطأ واضطراب؟
ثانياً: وجواباً على هذا السؤال، فأنا أعتقد أن الأمر نبع من خطأ واضطراب غير مقصود، في غالب الظن. لا أستطيع بالطبع نفي الاحتمال الآخر نهائياً، لكنني ميال بشدة إلى احتمال الخطأ والتشوش. ولو صح هذا الاحتمال، فإنه يفترض أن جميع الأخبار عن صيحة عائشة المفترضة «اقتلوا نعثلا» انطلقت من خبر واحد أسيء فهمه. وفي هذا الحال يكون هذا الخبر الأقدم قد قال شيئاً مثل هذا:
«وكانت عائشة تقول: اقتلوا نعثلا، تعني قاتل عثمان».
لكن ناقل الخبر سقطت منه سهواً كلمة «قاتل» فصرنا مع جملة تقول العكس:
«وكانت عائشة تقول: اقتلوا نعثلا، تعني عثمان».
هذا الخطأ تعمم وتكرر، فانقلبت الحقيقة رأساً على عقب.
ثالثاً: وإذا صح هذا تكون السيدة عائشة قد قالت جملتها «اقتلوا نعثلا» بعد عودتها من العراق. أي بعد أن قتل عثمان وبويع علي بن أبي طالب خلفاً له. ففي هذه اللحظات، غيّرت موقفها من عثمان، وصارت من المطالبين بمعاقبة قاتليه. بالتالي، فحين صرخت: اقتلوا نعثلا، فإنما أرادت: اقتلوا قاتل الخليفة عثمان الذي يدعى «نعثلا»، وليس اقتلوا الخليفة عثمان.
وهذا يعني أيضاً أنه جرى لاحقاً الخلط بين زمنين اثنين: زمن معارضتها لعثمان قبل ذهابها للعراق، ثم زمن وقوع الجريمة، ومطالبتها بقتل القاتل، بعد عودتها من العراق. فهي كانت معارضة لعثمان وهي في المدينة، لكنها نطقت الجملة الشهيرة «اقتلوا نعثلا» بعدما عادت من العراق، وكانت بذلك تطالب بالاقتصاص من قاتله. ثالثاً: ومن المحتمل، بناء على ذلك، أن تقدّم السيدة عائشة لصياغة شعار «اقتلوا نعثلا»، أي اقتلوا قاتل الخليفة، حصل لأنها كانت محرجة من تحريضها السابق على الخليفة. لقد كانت بحاجة إلى التشدد في مواجهة القاتل «نعثل» كي تبرئ ذمتها من دمه، وكي تعتذر، بشكل ما، عن موقفها القديم المعارض لعثمان، الذي ربما ساهم في تشجيع المتمردين على تمردهم، الذي انتهى إلى حدث القتل الشنيع.
خامساً: وبناء على كل ذلك، فإن نقش «قيس الكاتب» يمثل في الواقع صك براءة لعائشة من التحريض المباشر على قتل عثمان، ومن المشاركة في سفك دمه. بالتالي، فهو يغلق هذا الملف. لقد كانت عائشة معارضة لعثمان، مثلها مثل كثير من الصحابة، لكنها لم تحرض على قتله.

من هو نعثل؟
لكن من هو نعثل هذا قاتل الخليفة عثمان؟ أهو قاتل عادي من بين المتمردين الذين شاركوا في عملية القتل؟ أم أنه محرض كبير وذو شأن يقف وراء القتلة ويوجههم؟
جوابي الأولي هو: أنّ نعثلاً كان في ما يبدو واحداً من جماعة المتمردين، التي تشكلت من ثلاث مجموعات: مجموعة مصرية، ويقدر عددها بـ 600 شخص، ومجموعة عراقية، إضافة إلى المعارضين من أهل المدينة وسكانها، وهم يمثلون مجموعة كبيرة. ويبدو لي أن تهمة قتل الخليفة كانت توجه إلى شخص محدد من المجموعة المصرية، كان هو في ما يبدو من وجه الضربة القاتلة له. ولهذا اعتبر القاتل الفعلي. ذلك أن من دخل بيت الخليفة عثمان وساهم في مقتله هم مجموعة لا يقل عدد أعضائها عن أربعة.
والحقيقة أن خبر وجود شخص مصري باسم «نعثل»، شُبّه به الخليفة عثمان كما تقول الروايات، يوحي بالفعل أنّ نعثلا هذا كان واحداً من المجموعة المصرية. إذ يقال لنا أن عثمان أعطي لقب «نعثل» لأن لحيته الطويلة تشبه لحية «نعثل» المصري. وهكذا صار عندنا نعثلان لا نعثلاً واحداً. اللحية الطويلة المتشابهة كانت اختراعاً لفض التشوش الذي حصل بشأن من هو نعثل.
لكن الحقيقة أنه كان هناك «نعثل» واحد فقط، هو قاتل الخليفة عثمان. أما الخليفة، فقد حصل على هذا اللقب بسب اضطراب في الرواية لا غير. ونعتقد أنّ «نعثل» كان لقب المتمرد المصري لا اسمه. والنعثل هو الضبع. بذا فلقبه كان في ما يبدو يعني: الضبع. وهو لقب كاشف. فهو يعطي الانطباع بأنه رجل شرس.
تصديقاً لهذا، فإنّ عدداً لا بأس به من المصادر العربية يحدثنا عن أنّ شخصاً مصرياً هو الذي ضرب الخليفة الضربة القاتلة بالفعل. لكنّ هناك خلافاً على اسمه. فكنانة مولي صفية يخبرنا أن اسمه جبلة: «فقلت لكنانة: مَنْ قتَلَه؟ قال: رجل من أهل مصر يقال له جَبَلة بن الأيْهَم، ثم طاف بالمدينة ثلاثاً يقول: أنا قَاتِلُ نَعْثَل» (ابن شبة، تاريخ المدينة المنورة). لكن هناك من يقول أن اسمه «جبلة بن الأهتم». ويبدو لي أن هذا هو الأدق إن كان هذا هو اسمه حقاً. فجبلة بن الأيهم كان آخر ملوك الغساسنة، وقد التحق بالروم من أيام الخليفة عمر بن الخطاب. غير أنّ هناك خبراً آخر يقول إنّ القاتل المصري كان من قبيلة تجيب، وأن اسمه كنانة: «فرفع كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي عموداً من حديد كان معه فضرب به جبهته فوقع» (البلاذري، أنساب الأشراف). يضيف ابن سعد: «ورفع كنانة بن بشر بن عتاب مشاقص كانت في يده فوجئ بها في أصل أذن عثمان، فمضت حتى دخلت في حلقه، ثم علاه بالسيف حتى قتله» (ابن سعد، الطبقات الكبرى).
وأياً كان اسم القاتل، فإنه هو، في ما يبدو، من حمل لقب «نعثل». بذا أفترض أن صرخة هذا الرجل لم تكن في الأصل «أنا قاتل نعثل»، بل كانت في الخبر الأصلي: «أنا نعثل قاتل عثمان». لكنه جرى قلب الجملة، تشوشاً واضطراباً، في ما بعد.
بناء على كل هذا، فنقش «قيس الكاتب» يؤكد لنا أن شخصاً محدداً ومعروفاً، كان وقت كتابة النقش يتهم بقتل الخليفة عثمان، وأنه كان يدعى «نعثلاً». لقد كان معروفاً، وكان له محبون ومؤيدون حسب قيس الكاتب. فهو يقول في نقشه، لعن الله: «من أحب قاتله نعثل». وبهذا، يكون نقش قيس الكاتب المكون من 16 كلمة، أو قل من 11 كلمة إذا استثنينا اسم الكاتب، قد محا آلاف الصفحات التي تحدثت عن أن نعثلة كان لقب الخليفة عثمان بن عفان، وأن السيدة عائشة طالبت بقتله.

* شاعر وباحث فلسطيني