كانت الفترة النبوية، في مفارقة لها ما يبرِّرها، مثيرةً دوماً لاهتمام المؤرِّخين أكثر من غيرها، وفي الآن نفسهِ موضعَ تهيُّبٍ وحذر باعتبارها فترة شائكة لامتزاج السياسي بالديني فيها، لكثرة الروايات، مذهبيَّةً وغير مذهبيَّة، ووفرة التفاسير والسِّير. ولكنَّ القليل من الدَّارسين تجرَّأ على تناول خلطة الدين والسياسة انطلاقاً من مصدر المسلمين الأهمّ تشريعاً وعقيدةً: القرآن. كما تسنَّى للنزر القليل جداً من المؤرِّخين مساءلة وضع المرأة من خلال المتن القرآني مباشرة. هذا ما سعى إليه أستاذ العلوم الاقتصاديَّة في كلِّيَّة العلوم القانونيَّة والاقتصادية والاجتماعية، التَّابعة لـ «جامعة محمد الخامس» في الرباط، المؤرخ وعالم الاجتماع المغربي محمد الناجي في كتابه الأبرز «الجسدُ المغلولُ: كيفَ يراقِبُ الإسلامُ المرأةَ» (دار ملتقى الطرق، الدار البيضاء) الذي ركَّزنا عليه في حوارنا معه، من دون إغفال القيام بجولة على بعض أعماله (كلها صادر باللغة الفرنسية)، وكامل مشروعه السوسيولوجيّ والتاريخي والإبداعيّ للكشف عن موضوعاته ومناهجه وآليات تحليله
محمد الناجي: الحركة النسوية ليست وليدة الأمس، بل بدأت باكراً مع فجر الإسلام


في تكوينكَ الأساسيّ، أنت عالِمُ اقتصاد، لكنَّك ألَّفتَ دراسات وامتهنتَ مهنة عالِم الاجتماع. في السنوات الأخيرةِ، صرتَ تؤلِّفُ دراساتٍ في التَّاريخ، تحديداً في التَّاريخ العربي-الإسلاميِّ، من خلال حِقَبه الشائكةِ. فهل لنا أن نفسِّرَ هذه المنعطفاتِ في مهنتكَ بالخيط الرَّابطِ بينها، خيطِ علم الاجتماعِ؟
ــــ سأبوح لك باعتراف: أنا لا أفكِّرُ بشكلٍ واعٍ وإراديٍّ في ممارسة هذا العلم أو ذاكَ. فقد تحوَّلت نحو دراسة التَّاريخ بشكل طبيعي تقريباً، ولْنَقُلْ: بشكلٍ فِطريٍّ. أمارس البحث داخل الحقل التاريخيِّ؛ لكنَّ التَّاريخَ — كما تعلم — هو أيضاً علمُ اجتماع، علمُ اقتصاد، بصحبةِ علوم إنسانيَّةٍ أُخرى في الآنِ نفسِه. فالمؤرِّخ يُنَبِّشُ لدى الآخرينَ، وفق حاجيَّاته، عن أدوات وآليَّات وطرائقِ تكون مثمِرةً له، وإنَّما من منظور تاريخيٍّ طويلِ الأمدِ. لكنَّ الخيطَ الرَّابط واضحٌ بِجلاء: عندما كنتُ طالباً، ذهبتُ إلى منطقةٍ من الجنوب المغربيِّ، مع معلِّم عظيم، كان عالِم اجتماع (بول باسكون (1932-1985) الذي يعتبره كثيرون الأبَ المؤسِّسَ لعلم الاجتماع في المغرب) من أجلِ بحث وتحقيقٍ سوسيو ــ اقتصاديَّين ميدانيَّينِ. عدت من رحلتي العلميَّة بيدينِ مِلؤهما أرشيفٌ تاريخيٌّ مهمٌّ. وهنا اكتملت المهمَّة ونضجَتِ المهنةُ. دخلتُ غمارَ البحث التَّاريخي من دون أن أنتبه. استغرقتُ بصبرٍ في هذا الأرشيف المتكوِّن من رسائلَ سلطانيَّة، لم يكن مستوايَ في اللُّغة العربيَّةِ جيِّداً، ولكنِّي ثابرتُ. ومن مراسلات سياسيَّة أثمرَتْ كتاباً (المخزن وسوسُ الأقصى ــــ المعهد الجامعي للبحث العلمي، باريس، 1989) عرَّجتُ نحو دراسة مشكلة العبوديَّة في الإسلام، مرَّة أخرى من خلال أرشيف الخزانة المَلَكيَّة في الرِّباط. ولم تكن زاويةُ نظري للمسألة تغترفُ مادَّتها من النصوص الكلاسيكيَّة، وإنَّما من الواقع المعيش للعبيد، من حياتهم اليوميَّة في علاقتهم بالسَّيِّد، من أجل مساءلةِ الإسلام عبر الوقائع، لكي نضع موضِع تساؤل وتشكيك تلكَ القصَّة الورديَّة حول المساواة بين المؤمنين وحول إلغاء الإسلام للعبوديَّة. ومن العبوديَّة بحدِّ ذاتها، انطلقتُ نحو دراسة العلاقة بين العبوديَّة والسُّلطةِ، ما أثمر كتاباً أظنُّه في غايةِ الأهمِّيَّة من خلال كثرةِ عرضهِ وتحليل خطوطه العريضة في مجلَّات عالميَّة متخصِّصة («العبدُ والمملوك: العبوديَّة والدين في العالم الإسلاميِّ»). وها أنت ترى: الأمور متشابكة، وسؤال يقودك نحو آخر.

في أحد الحوارات الشهيرة معه، ومن خلال لعبةٍ لغوية على الألفاظِ تعطي المعرفةَ والبحثَ العلميَّ طابعاً ايروتيكياً، قال كلود ليقوي-شتراوس إنَّ حياته كانت متقاسَمة بين «ثلاثِ معلّمات/ خليلات عظيماتٍ: الجيولوجيا، التَّحليل النَّفسيُّ والماركسيَّة»، مَنْ هنَّ معلِّماتٍ/ خليلات محمَّد النَّاجي العظيماتُ؟
ـــ الماركسيَّة، التَّاريخ والجيولوجيا علومٌ مغريَّة بشكلٍ من الأشكال، بما أنَّنا لا نفعل أيَّ شيء آخر عدا الحفر والكشف عن الطَّبقات القديمة التي لا تُرى بالعين المجرَّدة! ولكنَّ لي معلِّمةً/ خليلةً سأضعها في المصافِ الثَّالث: القواميسُ!

في دراستكَ «الجسدُ المغلولُ: كيفَ يراقِبُ الإسلامُ المرأةَ» (انظر أدناه)، تقوم بتفسير سوسيو ــ تاريخيٍّ للمتن القرآنيِّ، بجعلكَ إيَّاه المتنَ الأساسيَّ للتَّحليل، مع نقدكَ الحادِّ للدِّين بوجه مكشوف؛ فأين تكمن فرادةُ وجِدَّة مقاربتك؟
ــــ لم أفكِّر في هذا الكتابِ، عند البدايةِ كمشروع؛ فمن خلال اشتغالي على المصادر الإسلاميَّة، وبالأخصِّ تفاسير القرآن، برزت لديَّ بشكل مُلِحٍّ موضوعات مختلفة عن المرأة. في ما بعد، لاحظتُ أنَّ القوائمَ البيبليوغرافيَّة حول الإسلام والمرأة — ولنأخذ كمثال فاطمة المرنيسي — تركِّزُ بشكل أساسيٍّ على دراسة الحديث النَّبوي، كما لو أنَّهم لا يجرؤون على التصدّي للنصّ التأسيسي بعينِه. بدا لي من المهمِّ جداً أنْ أبيِّنَ أنَّ الأوامر القرآنيَّة للنساءِ، وأنَّ المكانة الدُّونيَّة الَّتي يعطيها القرآن للنِّساءِ باعتباره متناً «مُذَكَّراً» وفقَ ما يوضِّحه ابن مسعود، لم يتم تلقِّيها بِفرح، وإنَّما كانت موضِعَ جدالات، وانتقادات وصلت حتَّى إلى الاحتدادِ من طرف النِّساء. فالحركة والنَّزعة النِّسويَّة لم تولد أمس، وإنِّما باكراً جداً مع فجرِ الإسلام بالذَّاتِ.

كتابكم الأخير «الأميرُ والرَّسولُ: جَسَدَا النَّبي» (2021) امتدادٌ لنفسِ مقاربةِ سابِقه، فيما خلا أنَّكم تركِّزون اهتمامكم على الملك وحاشيته، على ما يسمِّيه الأخباريون العرب والمسلمُون «مجتمَع الرَّسول»، مع تركيز أشدَّ على شخصيَّته المركزيَّة ذات الوجهين: محمَّد كسلطة دينيَّة وسياسيَّة؛ فهل لكم أن تقدِّموا للقارئ الخطوط العريضة لمقاربتهم ولآليات تحليلكم؟
ـــ حاولتُ أنْ أبيِّن أنَّ القطيعة لم تكن مع الأمويِّين، أن نظامَ المُلكِ لم يبدأ مع هذه الأسرة المالكة، فالدِّيانة الإسلاميَّة أسَّست العلاقة مع ما هو إلهيٌّ على العبوديَّة، أي أنَّها أعادت إنتاج — ولكن بطريقة مطلَقَة — علاقة الملك بِالرَّعيِّ من داخل علاقة الله بالمؤمنين على قاعدة العبوديَّة. وبالتَّالي فالأسس السِّياسيَّة للدَّولة أُرْسِيَتْ منذ بزوغ الإسلام مع المتن القرآنيِّ. في «جَسَدَا النَّبيِّ»، ما نقوم بتحليله هو شخص النَّبيِّ وتمظهرات الوحي، لتبيان أنَّ المَلك لم يكن ينتظر معاوية ابن أبي سفيان ليتأسَّس عن طريقه نظام المُلك، بل كان معشِّشاً في المقدَّس عند ولادته.



منذ مدَّة وجيزة توفيت الملكة إليزابيث، عاهلة ورمز سيادة المملكة المتحدة وكبيرةُ كهنة كنيسة إنكلترا.. قبل ذلك بقليل، حاول شابٌّ تطبيق فتوى الخميني على سلمان رشدي. من وجهة نظرك، هل عرف تواشج اللاهوت والسياسة، في الحقبة الحديثة، تغيراً ما أو ما زال يحتفظ بالجوهر نفسه؟
من الأكيد أنَّ وطأة الدينيِّ، في المجتمعات، بدأت تخِفُّ؛ وفي الممارسات الاجتماعيَّة، بدأ النَّاس يبتعدون، شيئاً فشيئاً، عن التَّعاليم الإسلاميَّة؛ وهو أمر طبيعيٌّ، فالمجتمعات تتغيَّر بسرعة شديدة أحياناً، ولننظر إلى حالة المغرب. وبالتالي ثمَّة تناقض يتقوَّى بين تطوُّر المجتمع والخطاب الإسلاميِّ الذي يتصلَّبُ كما لو أنَّ المقاومة كامنةٌ فيه بحيث لا يجدُ له حلولاً إلَّا في النُّزوع نحو التَّصلُّب. زمن الفتاوى العنيفةِ لم يأفُل بعد.

«الشِّعر (تأخذ الكلمةُ، في السِّياق الأرسطي، معنى أرحب) أمرٌ أكثرُ فلسفيَّةً ورِفعةً من التَّاريخ. الشِّعر يتحدَّث عن عموميَّات، والتَّاريخ عن تفاصيلَ خاصَّة» (أرسطو: كتاب «الشِّعريَّة»). كتبتَ أيضاً نصوصاً سرديَّة، فبعدَ دراسة وجيزة عن زيد بن حارثة (ضمن كتاب «اقتحاماتٌ دنيويَّةٌ»)، يبدو أنَّكم طورتموها في قالب روائيٍّ لتصير بعنوان: «ابنُ النَّبيِّ» (صدرت ترجمتها العربيَّة عن منشورات الجمل ـ 2017). فهل هي إرادة صنع عمل تخييلي من خلال مادَّة تاريخيَّة أم هي فقط غوايةٌ ضمن موجة «عصر الرِّواية»؟
أبداً، هي إرادة بناء نقد تاريخيٍّ، إعادةُ قراءة وقائع، بفضل التَّخييل لسببين: السَّرد التَّخييلي سهل الذُّيوع والانتشار أكثر من الدراسة (التَّاريخيَّة). وكانت تنقصني المادة التَّاريخيَّة لكتابة دراسة تتطلَّب وقتاً أكثر. وقد وضعت الرِّواية رهنَ إشارة القرَّاء وتمَّت ترجمتها إلى العربيَّة، لكن تمَّ استقبالها بصمت مرعِب، ربَّما لأنها تنطق بالمكتومِ حتَّى لدى كتاب عرب حديثين كالجابري أو غيره. تقول الرِّواية ما كان يقوله معاصرو النَّبيِّ، ولكنَّ التَّفاسير أعادت النَّظر في قصة زيد وصَوَّبتها، وبالتَّالي تم إغلاق أي سبيل نحو مُساءلَتها.

تُوْلُونَ، في تحاليلكم، أهمِّية قصوى للديناميَّة السوسيو ــ تاريخيَّة للمعجمَيْن الدينيِّ والسِّياسيِّ. هل يرى محمد النَّاجي نفسَه فقيهَ لغة (فيلولوجِياً)؟
ـــ لستُ أبداً فقيه لغة، ولكن اللُّجوءَ إلى اللُّغة فرض نفسه كمصدر تاريخيٍّ وتحليليٍّ جوهريٍّ عندما تصابُ المصادر الكلاسيكيَّة بِالخَرَس. خلال إعدادي كتاب «العبدُ والمملوك»، تنبَّهتُ لأهمِّية المعجم. فقد تمَّ لومي بالاشتغال على العبوديَّة، من دونَ تحليل دورها السِّياسيِّ في العالم الإسلاميِّ. وبما أنِّي لستُ عالِم سياسة، لم أتناول المسألة انطلاقاً من مصادر كلاسيكيَّة. وإنَّما قمتُ بأمر قد يبدو غريباً، لكن تبيَّن أنه مثمِر. فقد تناولت قاموس «لسان العرب» لابن منظور، وقرأته من بدايته حتَّى نهايته وأنا أدوِّنُ ملحوظاتٍ منه في شكل جذاذات.
القوائم البيبليوغرافيَّة حول الإسلام والمرأة ــ ولنأخذ كمثال فاطمة المرنيسي ــ تركّز بشكل أساسي على دراسة الحديث النبوي

وبفضل هذا «الاقتحام» لكتاب لغويٍّ، عثرتُ على مفاتيحِ مَداخِلي، التي فتحت لي مسارات في موضوع «العبوديَّة والسُّلطة». وبحقٍّ تم تصميم الكتاب وإعطاؤه هيكلاً عاماً من خلال هذه المفاتيح التي كانت أيضاً مفاتيحَ لقراءة التَّفاسير القرآنيَّة وكتب التَّاريخ والأدبِ. مُذَّاكَ، صارت القواميس العربيَّة رفيقاً يفتحُ سُبُل التَّفكير. وإليك المثال التَّالي: اشتغلتُ في الأرشيفِ على كلمة «مُحِبّ»، الَّتي كان يستعملها السَّلاطين في مراسلاتهم. وكانت تُتَرجَم، في البداية بمرادفات لكلمة «صديق»، لأكتشف في ما بعد في القاموس أنَّ «المُحِبَّ» تعني أيضاً البعيرُ المُشْرِفَ على الموت مِن شدّة المَرض فَيَبْرُكَ، ولا يَقدِرَ أَن يَنْبَعِثَ، بعبارة أُخرى: هو الخادم المهيمَن عليه، الرَّاكِع أمام السَّيِّد، كان هذا المعنى كفيلاً بتغيير مقاربتي للرسائل السُّلطانيَّة وللعلاقة الَّتي قصد السَّلاطينُ فرضَها.

هل من جديد ضمن مشاريعك القريبةِ الصُّدور؟
نعم، ودائماً في الحقل الدِّينيِّ، وتحديداً حول المتن القرآنيِّ، جمعِ مصاحفه المختلِفة، ولكن طبعاً من زاوية نظر نقديَّة.



أبرز أعماله
1985: فلّاحون بدون أرض (دراسة سوسيولوجيّة).
1989: المخزن وسوس الأقصى: المراسلات السّياسيّة لبيت إيليغ (بالاشتراك مع بول باسكون، دراسة سوسيو-سياسيّة).
1994: جنود، خدم وسراري: العبوديّة في مغرب القرن 19 (دراسة سوسيو ــ تاريخيّة)، قدّم إرنست كلنر للطبعة الأميركيّة.
1996: التوسّع الأوروبي والتغيّر الاجتماعي في المغرب بين القرنين 16 و18 (دراسة سوسيو-تاريخيّة).
2005: صداقة الأمير (دراسات في الإناسة).
2007: العبد والمملوك: العبوديّة والدين في العالم الإسلاميّ. قدّم ريجيس دوبري للطّبعة الفرنسية، وپّول لوفجوي للطّبعة الإنكليزيّة.
2010: شظايا أصوات (مقالات في السّياسة والمجتمع)؛ اقتحامات دنيويّة (مقالات في تداخل السّياسة والدّين).
2013: المغرب في حراك (يوميّات)؛ أسماء الله الحسنى (نثر فنّيّ مرافق للوحات وتخطيطات الحسين الميلودي).
2014: ابن النّبيّ (رواية تاريخيّة)؛ متوالية العطور (نثر فنّيّ).
2015: صفحتي على فيسبوك: بحث هويّاتي (يوميّات).
2016: مسلّة الخليفة (رواية).
2018: الجسد المغلول: كيف يراقب الإسلام المرأة (دراسة سوسيو ــ تاريخيّة).
2020: سرّ الحرف (رواية سيريّة).
2021: الأمير والرّسول: جسدا النبي (دراسة سوسيو ــ تاريخيّة).

■ ■ ■


الجسد المغلول: كيف يراقب الإسلام المرأة (*)
(مقتطف من الكتاب)


ترجمة: رشيد وحتي

1. الجسد المشيطن
يتمّ تعيين الفراش في اللّغة العربيّة بكلمة: السّرير، وهو في الآن نفسه — يا للغرابة! — الدّيوان [الأريكة] الّذي يتربّع فوقه السّلطان، ما يؤكّد على وظيفته المزدوجة كفضاء للمتعة والسّلطة، بترميزه إلى العلاقة الوثيقة بين الاثنين. فهو يحوي في ذاته سرّ المداعبات التي يستقبلها ويتماها معها من خلال اسم ينتمي للأسرة الاشتقاقيّة نفسها: السّرّ؛ الّذي يسمّي، في الحقيقة، الفعل الجنسيّ، إذ يلزمه سرير كأداة، ولكن لأنّه أيضاً مخبّأ، أي إن شئنا البحث عن مرادف: في السرّ. فلعالم المضجع، بالتّأكيد، الكثير ممّا يمكن أن يبوح لنا به، ممّا يمكن أن يفشيه من أسرار. فالسريّة، في قرابة اشتقاقيّة ودلاليّة مع السرّ، هي المرأة الحرّة — سواء كانت زوجة أو فاجرة — التي تتمّ مواقعتها. الجوهريّ في التسميّة، هنا، هو حجاب الحشمة، وفق التّشدد الموجب للحالة. فالمواقعة تتمّ في الغالب الأعمّ ليلاً، وبذلك تحيل الكلمة، عن طريق إحدى مشتقّاتها: السّرار، على الليلة الأخيرة من الشّهر، حيث يستسرّ فيها القمر.
ولكنّ الأمور لا تقف عند هذا الحدّ، فالسّرير يفيض أسراراً بتنوّع المشاهد التي تقع فيه، كما بتعدّد الفاعلين الّذين يقومون بأدوارها. فمقابل الزّوجة، السريّة، هناك السرية، التي لا تعدو عن كونها محضيّة؛ وقد اشتقّ اسمها من السّرور، الّذي توفّره لعاشقها. فهنا يباح الرّفث، بصوت عال، مع الشّريكة الملائمة لملاعبات الهوى. ورغم الجناس اللّفظيّ (سرّيّة/سرّيّة)، فإنّ مسألة الاختلاف تطرح على مستوى آخر، حيث لجسد الأنثيين المعنيّتين وظيفتان تختلفان جذريّاً: الإنجاب والمتعة، قطبا ثنائيّة الجسد الأنثويّ. فجسد اللّذّة، رغم أنّه يحويه، غريب عن الزّوجة، عن الحرّة، التي تجد نفسها، بالتّدريج بعيدة عن هذه اللّذّة، إلى أن تزاح جانباً بشكل نهائيّ. وبإبعادها عن فضاء اللّذّة، فإنّها رغم ذلك تجد نفسها في مواجهته بلا انقطاع، إذ تعكسه كمرآة ضرائرها، والمحظيّات، دون الحديث عن الحوريّات.
يبدو أنّ الكلمات من نفس الأسرة الاشتقاقيّة للسرير، والتي توزّع الملكات النّسائيّة، تبنين أيضاً الجسد وتحدّدان معالمه. فالسّرّة تعني الرّوضة وخير ثمارها وأفضلها، وهي أيضاً التجويفة في وسط البطن. فإذا تمثّلنا الجسد الأنثويّ كجامع للزوجات الحرائر والمحظيّات، كوحدة كاملة، فإنّ السرية، محظيّة السّرير، ستشكّل قطباً مركزيّاً مع هذه الإحالة على السّرّة، التي تمثّل بداية إفصاح عن الأعضاء التّناسليّة وتشكّل، من جهة أخرى، واحدة من الحدود التي يتوجّب على الأمة إخفاؤها عن النّظر، إبقاؤها في السرّ، خصوصاً مع شعيرة الصّلاة. مركّباً، متشظّياً، لا وجود لهذا الجسد، كوحدة مجتمعة، إلّا بين يدي السّيّد، زوجاً وعشيقاً في الآن ذاته.
وصل الأجساد وهي مسرورة في فعل التعشّق، وهي تلوح أحياناً بصخب في ثنايا كلمات المتن القرآنيّ كما لو كانت تخلع مداخله، أبعد ما يكون عن زعم قرب المودّة العاشقة كما يتمّ تصويرها في الشّعر. المرأة، في جسدها، مبعدة كغريبة عنه إن لم يتمّ عزلها، جسدها ليس لها. وإذا سايرنا، من جهة أخرى، الحديث النبويّ، كناطق في غالب الأحيان باسم التمثّلات الاجتماعيّة، فقد يكون جسد المرأة حاملاً للعنة.