يستعيد الفيلسوف ناصيف نصّار (1940) التقليد الأفلاطوني، من القرن الرابع قبل الميلاد، في أحدث أعماله «كتاب عشتار ــــ في اللباس والجسد» (مركز دراسات الوحدة العربية، 2022). أعني الجدل السقراطي القائم على الحوار والسؤال والجواب. ومن المفيد أن نضع المتحاورين «عشتار» و«الحكيم» (الفيلسوف)، في الضوء، إذ يخيل إلينا أن ثمة ثقلاً تاريخياً يحملانه على أكتافهما. فالفتاة تتكنى باسم هو اسم كل النساء، «عشتار»، الأسطورة (وهي إنانا لدى السومريين، عشتروت عند الفينيقيين، أفروديت في اليونان القديمة وفينوس لدى الرومان)، إذ يقال إنّها صرّحت بلسانها: أنا الأول، وأنا الآخر/ أنا البغي، وأنا القدّيسة/ أنا الزوجة، وأنا العذراء/ أنا الأم، وأنا الابنة/ أنا العاقر، وكُثُرٌ هم أبنائي/ أنا في عرس كبير ولم أتخذ بعلاً/ أنا القابلةُ ولم أنجب أحداً/ وأنا سلوى أتعاب حَملي/ أنا العروس وأنا العريس/ وزوجي مَن أنجبني/ أنا أمّ أبي، وأخت زوجي/ وهو نسلي. وعشتار القرن الحادي والعشرين، التي أبصرت النور في بيت متوسط الحال، ابنة التعليم الحديث، دارسة المسرح والتمثيل، تستنطق الفيلسوف، المتحدّر من نسل الحكماء، القاطن في منزل قديم «تحرسه زيتونة من أيام حمورابي» الملك البابلي، صاحب الشرائع، للإشارة الى ذلك التجذر في المكان وإلى تلك الشجرة المباركة التي «يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار» المحتفى بها في القرآن.

تبدو مباشرة الحوار نابعة من رغبة لدى السائلة في فهم دور الفلسفة في الحياة اليومية، ومن استجابة الحكيم لها عبر عدة لقاءات، في لغة يُراد لها، وفقاً للمتحاورين، الابتعاد عن اللغة التجريدية الصعبة التي تميّز النص الفلسفي عموماً. وقد تركز الحوار على مسألة في غاية الأهمية هي اللباس و«التفاوت» فيه، وكما تساءل هايدغر: لماذا الوجود وليس العدم؟ كان السؤال: لماذا اللباس وليس العري؟ لماذا لسنا عراة؟ وهو موطن الإشكال في اللقاء الأول، وهذه كاشفة لتطور الوضع الإنساني، أو شرطه الاجتماعي، للنشأة الأولية حيث المساواة وغياب الطبقات، وقد قدّمت الأنتروبولوجيا جواباً يقوم على ثنائية الثقافة/ الطبيعة، والتعويل على رد فلسفي يريده الحكيم في إطار «فلسفة الحضور والظهور». ويبدو أن شرارة السؤال أشعلتها «قضية الحجاب» وما اتصل بها من آراء، وما تحمله من فهم لحرية الإنسان، لكنّ المراد هو الوصول إلى «نظرية عامة حول اللباس والعري»، أي الكشف عن الحقيقة وهذه «لا تأتي إلينا فيضاناً خالصاً من روح العالم»، كما يقول الحكيم.
أراد اللقاء الثاني الغوص في «اللباس ووظائفه»، فما سعى له الجسد البشري هو «التغطية»، ومعه تنشأ وضعية جديدة وجودية تحكمها «ثقافة اللباس»، صنعاً وموادَّ وأشكالاً. مهمة اللباس الرئيسة عند الحكيم «العزل» بمعنى فصل الجسد العاري عن المحيط الخارجي. ومن هذه اللحظة، تمسي للثياب وظائف في مجرى الحياة اليومية، تنحصر في ثلاث: الصحيّة (الحماية من أخطار البيئة الخارجية، وهذه ترتقي من مستوى الحفاظ على أسباب الحياة الى مستوى التمتع بأسباب الحياة) والتشكيلية (الهندام، أي ملاءمة اللباس مع القوام، ويقترن بها ما يجب كشفه وما يجب حجبه من الجسد) والأخلاقية، ويربط الحكيم هذه الوظيفة بالكرامة الشخصية (خصوصية الذات قبالة الذوات الأخرى). وهنا يستعيد نصّار مقولة الفيلسوف أمانويل لفيناس في عدّه الوجه أساساً للتعارف «لأن الوجه المكشوف بكامل أجزائه هو الطريق الإجبارية للتواصل المباشر بين الذوات الاجتماعية». ويتحفّظ الحكيم على «الجسد العاري أمام الآخرين بلا قصد محدّد أو مسوّغ»، لأنه يضع الشعور بالكرامة الإنسانية في حال من الالتباس والاضطراب، إذ ثمة ضوابط أخلاقية توضع في الحسبان تأخذ اسم «الحشمة»، وهذا المفهوم واشتغاله هو مدار اللقاء الثالث، ويعني به الفيلسوف «ارتداء الثياب وفقاً لما يليق بين الناس في بيئة اجتماعية معينة». ويملي ذلك «الذوق» ولا سيّما العام، ويميّز نصّار بين الحياء والخجل اللاحق للفعل، ويحدّد موقفه من الفعل الإخلاقي، ويبغيه أن يكون صحيحاً، تحدده الفضيلة القائمة على التوسط، اتباعاً لمقولة أرسطو، بين الإفراط والتفريط، بين كشف الجسد وتغطيته، وفي سياق النقاش يحلو للحكيم ابتداع مصطلحات جديدة منها «الليبرالية الشهوانية» المتحدّرة من الرأسمالية الاستهلاكية التي توحي لنا بما يجب ارتداؤه من الثياب، ويطالبنا بنقدها، وإبقاء مفهوم الحشمة حاضراً كي يقينا كثيراً من النزعات.
وللقانون دوره في ما يسمى الآداب العامة. يفصّل نصّار القول في المجالين العام والخاص، وهذا الأخير ينتج مستويات ثلاثة: الخصوصية الخالصة والمحجوبة والمكشوفة. أما الأول فهو أوسع لأنه يتصل بعالم الجماعات ويتصل بالدولة والبشرية والجماعة المحلية، والمحصّلة أن مسألة الثياب كاشفة لـ «فلسفة السلطة وفلسفة التكيّف مع حقول النشاط الإنساني في المجال العمومي». لكنّ ثمة تساؤلات: من الذي يحدد «الذوق العام»؟ أي من يحدد ما يجب كشفه أو ستره من الجسد؟ وما دور الرواية الدينية في هذا التحديد؟.
شاءت عشتار في اللقاء الرابع أن تمتحن شعار النسويّة الشهير «جسدي يخصني»، وكان على الحكيم أن يقلب وجوه المسألة، والبداية من فحص مفهوم الامتلاك وما يحوطه من إشكالات، وهل هو حقيقي، ويريد الانتقال من شيئية الجسد الى اعتباره «أنا»: «جسدي هو أنا متجسّدة»، فمن «أنا أفكر» الديكارتية إلى «الأنا الجسد» النصّارية، ويشدّد الحكيم كثيراً على مفهوم الكرامة وعلى اجتماعية الجسد كجزء لا ينفصل عن اجتماعية الإنسان، ما يفضي إلى أن يكون «التفكير حول الجسد» وخصوصيته وأحواله واستخدامه محور اللقاء الخامس. ويريد الحكيم للنظر فيه أن يكون عقلانياً، حيث يتدخل العقل في سياسة الجسد «على مستوى الغايات والمعايير». وكثيراً ما يؤخذ حجة على عظم الفوارق بين الرجل والمرأة، ما يقتضي الاستطراد والبحث «في المساواة بين الجنسين»، عنواناً لاستكمال النقاش في اللقاء السادس، ولا سيّما مقولة «جسدي يخصّني» المرفوعة شعاراً من طرف الحركات النسويّة، وحدود التدخل في ما صنعته الطبيعة. ويشدّد الحكيم دوماً على المجال الاجتماعي والتفاعل بين الذوات، وعلى النظرة التكافلية ضداً من النظرة الأنانية، إذ إنها ذات أثر كبير في المساواة وفي الحرية، ويحتكم الفيلسوف إلى شعار المساواة في الكرامة وفي الحقوق الأساسية بين الناس. ويرى مسألة المساواة، مع وجود الاختلافات والتفاوتات، عمليةً مجتمعيّة طويلة، ويميل في العلاقة بين الجنسين إلى رغبة أن تكون «مطبوعة بالتشارك والاتحاد» والتكامل مع احتفاظ كل طرف بشخصيته واستقلاليته. وهنا يكون على الفلسفة مهمة «تجديد الدفاع عن مبدأ التكامل بين الرجل والمرأة مع التمسك بمبدأ المساواة الجوهرية بينهما، من أجل ثقافة جديدة تنصر التكافليّة المتنوّرة والعادلة على الأنانية المتقوقعة والظالمة، بصورة علنيّة وحاسمة».
ومن ثم يتشعّب الكلام ويقود إلى لقاء سابع فيه بيان لموقف الرأسمالية من اللباس والجسد، وتعلو نبرة الحكيم النقديّة إزاءَها، وخصوصاً مراميها لا في جعل اللباس سلعة تجارية فحسب، بل تسليع العالم وهو «روح الرأسمالية» والترويج والتسويق عبر الإعلان الذي لا يفارقنا في معيشنا اليومي ليجعلنا أسرى «لعبة الاستهلاك». لا يقف الحكيم ضد التمتع بالحياة والاستهلاك «المشروع»، لكنه يريده «على مقتضى الكرامة والعدل، وسائر القيم المؤلفة للخير». وإذ يطاول التسليع كلّ مناحي الحياة، أي عالم الطبيعة والحضارة والإنسان، يدعونا نصّار إلى «تفعيل التفكير النقدي الجريء» وإدراك الأخطار المترتبة عن هذا التسليع المتعاظم على الحياة الإنسانية. وفي ما خصّ اللباس، فإن الآلة الرأسمالية تضيف إلى وظائفه الرئيسة وظيفةً تشكيليةً باللعب على الألوان والتصاميم، واستخدام ما يسمّى الموضة للترويج لما قد لا يستسيغه الذوق السليم لكل الفئات العمرية وللجنسين معاً، تحت مسمى «الصرعة» (أو آخر صيحة في عالم الأزياء كما يقال). وذكاء الرأسمال وأولياته يجعلانه لا يصطدم بالمرجعيات الأخرى (خصوصاً الأديان) صاحبة التأثير أيضاً في تحديد نمط الملابس، بل هو يضغط ويتكيّف، ومرجعيته الوحيدة هي «أخلاقية السلعة» حتى لا يظهر بصورة المنازع والمعادي لها، لكنّ الثابت عند الحكيم وجود «تعارض مسرحه الأخلاق، وخلفيته إرادة السيطرة الناعمة على الجسد» بين الرأسمال والدين. وهنا يدلي نصّار بدلوه في مسألة اللباس، كما تحض عليه المعتقدات الدينية بما يكسبه صفة الشرعية، ويرى أنها بنسخها الكثيرة، ترى في اللباس ستاراً، ما يعكس موقفها من الجسد عموماً، حيث ترى فيه غرائز وشهوات ومجال فتنة، يجب حجبه عن الناظرين. وفي حين تنظر المعتقدات إلى اللباس على أنه إعلان هوية، ترى فيه الرأسمالية سلعة تنافس فيها في السوق «المستند النظري لسياسة الدين في شأن اللباس». وهنا يقول الحكيم: «تتحول السلعة من مجرد مفهوم اقتصادي له ما يبرره إلى طابع ميتافيزيقي رهيب».
والحال، ما العمل؟ والجواب عند نصّار يكون في وعي «ضرورة التخلص من أخلاقية الستار، ومن أحابيل أخلاقية السلعة، ارتكازاً على مبدأ الكرامة الإنسانية». ويشدد الحكيم على الكرامة أولاً وأساساً، ويوجه السلام «على من اتبع الهدى»؟ وبذلك يوسع هذا التعبير ويجعله مرادفاً لمن يتبع سبيل الرشاد أو الحس السليم في إطار العدل والكرامة الإنسانية. ويحلو لنصّار متابعة نقد الرأسمالية، لكن هذه المرة من باب مفهومها للسعادة أو ما تعد به أتباعها ومناصريها، فيكون اللقاء الثامن موضوعاً لها، ويتشعب الحديث عما يعتبره البعض فرحاً بالحياة وفي الحياة، وفي ما يضادها أي الموت، والذي يراه نصّار «ظاهرة من ظواهر الحياة» أو كما يقول الفيلسوف الألماني، هايدغر، «كينونة من أجل الموت». ومن مظاهر الحياة أو أحد أطوارها الشيخوخة، التي تجعلها الرأسمالية فرصة للربح من خلال تطوير العناية الطبية ومستلزماتها أو ما يسمى «سياسة الشيخوخة« ووعودها بالسعادة لكل الناس من خلال تأمين الأدوات المساعدة على رفاه العيش. ويقارع الحكيم النظرة الرأسمالية وإن كانت لا تعلن صراحةً احتكارها مفهوم السعادة في عالم الإنسان، فثمة مرجعيات أخرى أجدى وأجدر. وهو يريد للتفكير النقدي أن يبقى حاضراً ولا سيّما في مسألة السعادة والرفاه، وبأي ثمن يتحقق ذلك. ويقدم تعريفه الخاص للسعادة، فيراها: «فرح الفاعل فرحاً داخلياً عميقاً بما يفعله ويحب أن يفعله، تحقيقاً لإمكاناته العليا وفقاً لروح العدل في الكرامة». كما يشدد الحكيم على البعد الأخلاقي في مسألة السعادة، فهي لا تقف على إشباع الحاجات المادية والنفسية فحسب، بل يجب النظر والتحلي بأخلاقية العدل والكرامة، وهذا يخص كل الناس.
مصطلحات جديدة منها «الليبرالية الشهوانية» المتحدّرة من الرأسمالية الاستهلاكية

ويدعونا نصّار الى توسيع النظرة إلى العدل «حتى يصبح العدل الكوني بعداً من أبعاد العدل الإنساني»، وهذا يشمل عالم الطبيعة والحيوان بالتأكيد.
يأتي عنوان اللقاء الأخير «في الإنسان العاري، عود على بدء» ــ وهو أصعب الفصول وأكثرها كثافة في المفاهيم والمصطلحات ــــ في محاولة للإجابة عن حال العري الإنساني، منذ الولادة وهو أمر طبيعي وإلى كونه اختياراً. يرى الحكيم أنّ العري يجمع عنصرَي «الانكشاف والغطاء»، وكل جسم يعرف العري «بحسب مادته الخاصة وعلى طريقته الخاصة». والعري المقصود هو اختبار في العلاقة مع العالم، بمعنى أنّه «فعل قصدي تواصلي» يعبّر عن موقف ويندرج في سياق. وإذ يحلو لمحاورته عشتار رؤية عري الولادة تجسيداً أو رمزاً للمساواة بين البشر، يخالفها الحكيم الزعم ويعتبره «رمزاً للمساواة في التجرد من الملكية». وعلينا لاحقاً نحن البشر أن نحدّد موقفنا منها في خضم الصراع الاجتماعي الطويل. وكما ميّز سابقاً بين الجسم وبين الجسد، يميّز نصّار بين الجسد وبين الذات المفكّرة، فهذه الأخيرة لها خصيصة الانشغال بالحقيقة، مع ما يستتبعه ذلك من شكوك وظنون، وهي أحوال لصيقة بها لا بالجسد، وهذه الذات العارفة تشعر بنفسها أكثر حين تختبر «الشعور بالواجب».
ونصّار الشغوف بالتدبر في المفاهيم الفلسفية، وفي تكثيف الدلالات، يربط بين الجسد العاري وبين الحقيقة، فالإنسان يسعى ليتعرى من الجهالات بنزع حجبها، حتى إنّ تاريخ الذات العارفة إنما هو «تاريخ كفاح لنزع حجاب الجهل واكتساب نور المعرفة»، ما يفيد بانكشاف الحقيقة أمامها لتغدو صانعة للمعرفة، وهي تقارع الوهم، أي الاعتقاد الخاطئ من جهة، والكذب الذي يقيم حقيقة مصطنعة، بمثابة «اعتداء مقصود على الحقيقة». ويدعو الحكيم بإخلاص إلى الانحياز إلى نور الحقيقة والصدق والشفافية، بعيداً من النفاق ولبس الأقنعة، كما يدعو إلى التخلص من إرادة السيطرة خدمة لإرادة الحقيقة.

* كاتب لبناني