مع التطور الهائل تكنولوجياً واتصالياً، ما عاد الإعلام حكراً على السلطة الحاكمة أو المتحكّمة بقناة الاتصال... بل إن الاتصال صار أكثر جماهيرية وبات بمقدوره عرض القضايا الاجتماعية بمعزل عن «رؤية السلطة». من هنا تتجلى تساؤلات حول دور التقنيات، «هل بتنا نعطيها سلطة أكثر ممّا تستحق؟ أم أنها مجرد أدوات؟ وهل تتحكم أيضاً بمفاتيح الحوكمة، مستقبلاً؟».هذه التساؤلات تُشكِّلُ موضوع كتاب «الاتصال بين الالتزام والإلزام»، الذي يحاول تبيان «مدى نجاعة الاتصال الملتزم لناحية الفضاءات البديلة، والمهنة الإعلامية، والفهم والتفسير، والسياقات الاجتماعية والثقافية، والاستخدامات والرهانات، وعمليات التعبئة والتفسير، والتوجهات السياسية، وفي النهاية المجموعات المنظّمة».


صدر الكتاب عن «دار النهضة العربية» وقد حرّره وقدّم له الأستاذ في الجامعة اللبنانية غسان مراد. الكتاب نتاج 11 ورقة بحثية عُرِضَت في المؤتمر الأوّل لمركز الأبحاث في كلية الإعلام - الجامعة اللبنانية بعنوان «الاتصال الملتزم / الملزم في ضوء التطورات التكنولوجية والاتصالية الراهنة - إشكالياته، آفاقه» في بيروت عام 2018، بمشاركة أكاديميّين عرب من لبنان ومصر والجزائر وقطر. وإذ تنوّعت الأوراق في زواياها ومقارباتها، من جدلية الضبط والاستقطاب إلى السياسة والسوسيولوجيا وغيرها... فإنّها تمحورت بمجملها حول التقنيات الرقمية عموماً، واشتركت بانطلاقها من «الإعلام/ الاتصال الملتزم».
والإعلام الملتزم، بحسب ورقة أستاذ علوم الإعلام في جامعة قطر عبدالله الزين الحيدري، هو «فعل لا يخلو من نزعة احتجاجية واسعة النطاق على واقع الاستبعاد الذي يمارسه الإعلام الجماهيري الممأسس»، وهو أيضاً «فعل يرمي إلى تحقيق غاية اجتماعية مشتركة، وهذا ما يجعله مكتسباً لصفة الفعل الاجتماعي».
في سياق غير بعيد، تستنتج الأستاذة المساعدة في الجامعة اللبنانية كلية الإعلام لمى كحّال أن «الاتصال الملتزم عبر الفضاء الرقمي لعب دوراً فاعلاً في التقدم في قضايا النساء، وفي تفعيلها وإيصالها إلى الأطراف المعنية». في دراستها، تَتبّع إدارة المادة الإعلامية والاتصالية وتحديداً الرقمية لجمعيّتَي «كفى» و«أبعاد» في «قضيّة المادة 522». هذه المادة تعفو المغتصب من العقوبة إذا تزوّج المعتدى عليها، وقد ألغاها مجلس النواب اللبناني في آب 2017. تصل الباحثة إلى أنّ المجتمع المدني، في «قضية المادة 522»، هو من وضع «إطار الالتزام وحدّده وعرّفه موظفاً قنوات ومنصات الفضاء الرقمي»، رغم أن النتيجة «جاءت مجتزأة»، لأنّ مفاعيل المادة 522 الملغاة بقيت من خلال مواد أخرى في القانون نفسه.
عند هذه «الحركات الاجتماعية الجديدة»، توقّفت الأستاذة في الجامعة اللبنانية، كلية الإعلام نهوند القادري عيسى، متّخذةً من «المفكرة القانونية، كفى، أبعاد، مواطنون ومواطنات في دولة، طلعت ريحتكم، وينية الدولة» عيّنةً تمدّها بمؤشرات إضافية حول سمات هذه الحركات وصعوباتها وإشكالياتها وآفاقها.
هذه المجموعات، وفقاً لخلاصة الباحثة، اتسمت باللامركزية وضعف التراتبية وتمحورت حول إشكاليات محلية وشعبية. وواجهت تحدّيات منها الاستقلالية والمواجهة السياسية وشكل التنظيم الذاتي والانتقال من المشاركة البسيطة في النت إلى الالتزام الحقيقي على أرض الواقع وغيرها... مشيرةً إلى اختلاف تجربة مثل هذه الحركات باختلاف أنظمة البلدان السياسية والناشطين وثقافتهم ومهاراتهم، وهو ما أدّى في لبنان إلى «التشتت والإخفاق في ابتكار مساحات للنقاش قادرة على التحول إلى مختبرات سياسية حية وفعالة».
من البوّابة السوسيولوجية، تلفت الأستاذة في كلية علوم الإعلام والاتصال في جامعة الجزائر فتحية معتوق، إلى أن الإعلام التقليدي والجديد لا يساعد على التغيير السلوكي. «فلا يمكن للإعلام الذي يركز على الحدث أكثر من الظاهرة، والمتميز بالاستعجالية والسطحية والرسمية وأحادية المصدر تقديم معالجة تفسيرية ذات مداخل إقناعية مناسبة ترسخ منهجية الاتصال الملتزم الهادف إلى إحداث تغيير سلوكي إرادي يتوفر في الضبط والالتزام».
سياسيّاً، ترصد الأستاذة المساعدة في الجامعة اللبنانية، كلية الإعلام زينب خليل مواقع الأحزاب اللبنانية، لتنتهي إلى أن السبب الأساس لإطلاق موقع إلكتروني هو امتلاك وسيلة إعلامية جديدة تخدم عقيدة الحزب، ومجاراة الممارسات الجديدة للمستخدمين ولا سيما فئة الشباب. غير أن أشكال الممارسات التبادلية والتشاركية غابت لمصلحة الاتصال الأحادي الذي يعبر عن الحزب وتوجهاته اليومية.
لعب الاتصال الملتزم دوراً فاعلاً في التقدّم في قضايا النساء


بينما غاب الخطاب السياسي وكلّ ما يتعلق بالمواقف السياسية عن الإعلام الجديد لدى مراجع الطوائف الدينية في لبنان، بحسب دراسة الأستاذ في الجامعة اللبنانية، كلية الإعلام جمال نون، اقتصر دور المواقع «على الجانب الإرشادي، التبليغي، وعلى النشاطات التقليدية». ومن استنتاجات الباحث، أن انتقال إعلام الطوائف من التقليدي إلى الحديث لم يؤثر في الدور الوظيفي، علماً أنّه بات حاضراً في مختلف الوسائط، وأن الرسائل الإعلامية انحصرت بالوظيفة الدينية، مع نسبة تفاعل ضعيفة جداً من قبل المؤمنين.
في الأوراق البحثية الأخرى، يغوص الأكاديميّون في مواضيع مختلفة، منها: المنصات الشبابية في الوطن العربي، السياقات الاجتماعية والثقافية المحيطة بالاتصال الملزم، الاستراتيجيات الخطابية والقوة التأثيرية في الاتصال الملتزم انطلاقاً من مقاربة لسانية تداولية، الإعلام الملتزم والإرهاب بين السبق الخبري والمسؤولية الاجتماعية وغيرها، لتُشكِّل «مادّة دسمة» للمهتمّين بالإعلام الملتزم في ضوء التغيرات الكبيرة التي أحدثتها التقنيات.