بين عبارة آرتور رامبو «نقرة على الطبلة من إصبعك تطلق الأصوات كلها ويبدأ النغم الجديد» التي افتتح بها الروائي الفرنسي المخضرم فيليب سولرس (1936) روايته «رغبة» الصادرة عن «دار غاليمار» في عام 2020 والصادرة حديثاً عن «دار الرافدين» (بغداد - بيروت) بترجمة الشاعر اللبناني عيسى مخلوف، والجملة الختامية للرواية: «قد يتوقف القلب، لكن الفكر سوف يحيا»، يدخل فيليب سولرس الذي يبدو مختنقاً من روح العصر ومرحلة ما بعد الحداثة في لعبة مرايا مذهلة، تتقاطع فيها الظلال والملامح في لعبة تقديم وترجيع سريعة بين شخصيات متعددة، فيبتعد سولرس إلى الزمن الذي واكب انطلاقة الثورة الفرنسية ليستقصي عن فيلسوف غريب الأطوار سيتقمّصه الراوي في لعبة المرايا تلك: لويس كلود دو سان مارتن، المعروف باسم «الفيلسوف المجهول» الذي وُلِد عام 1743 وتوفي عام 1803، ونشر عام 1790 كتاب «رجل الرغبة» الذي اعتبره سولسرس بمثابة مانيفستو لحركة التنوير، إذ نقرأ في مقدمته: «لتكن مباركاً، أيها النور الساطع، الإشراق المرئي للنور الأبدي الذي استمدَّ منه فكري وجوده.

وما كنت لأمتلك القدرة على مشاهدتك مليّاً لولا أن فكري لم يكن شرارة من شرارك». لكن سرعان ما سنكتشف أنّ هذا القبس من أفكار الفيلسوف المجهول وآرائه حول قضايا إشكالية مثل مجتمع الاستعراض والفرجة والمال والقضايا النسوية، لم يكن إلا قناعاً أو جزءاً من لعبة المخاتلة التي يلعبها سولرس ليطرح رأيه هو في هذه القضايا، في القضايا ذاتها ولا سيما الجنس والرغبة و«الرغبة المضادة» والعنف غير المحدود والعبثية في عالمنا المعاصر. يدخل سولرس مثلاً في ثنا السرد واقعة استلهمها ليثير زوابعه في المقاطع اللاحقة: «ثمة إعلامية تقدم شكوى في المحكمة، بعد عشرين سنة من تعرّضها لاعتداء جنسي من رجل مشهور، كان قد وضع يده على فخذها أثناء مقابلة معه. مفهوم الفخذ يتردد صداه في كل مكان». لكن كما يقول الناقد ماثيو ليندون حول «رغبة» في مقالة في جريدة «ليبيراسيون»: «علينا ألّا نصدق أبداً في هذا العالم الروائي حيث كلمة «فخذ» صارت أفهوماً، أن الحرب الجندرية في عالم سولرس الساخر، تضع الأخيار في مقابل الأشرار». إذ سرعان ما يصوغ سولرس مفهوم «الرغبة المضادة» الذي سيشترك فيه الطرفان على حد سواء: «انظروا إلى رجُل الرغبة المضادة: إنه قلِق للغاية. محوره الوحيد هو العمل الذي يشغله. وهو يريد أن يرتقي، أكثر فأكثر في السلّم الاجتماعي. رأسه مليء بالأرقام. إنه مدير دائماً وأبداً. وهكذا هي امرأة الرغبة المضادّة أيضاً. مثله هي، بل تتفوق عليه في ما يتعلّق بعملية التسويق. وإذا ما التقيا في علاقة واحدة، بطريقة أو بأخرى، فذلك ليتأكد كل منهما من النفور الذي يوحيه أحدهما للآخَر».
الرغبة والرغبة المضادة كلمتان مفتاحيتان في عصر يريد الروائي أن يقارن «ثوريته» بالعصر الذي نشر فيه الفيلسوف المجهول نصه الرئيسي. لكنها ثورة يضيق سولرس ذرعاً بها، إذ نراه يبدي خوفه من عالم الرغبة المضادة الذي يعززه صعود الحركات النسوية في الغرب وتمكُّنها من تسديد ضربات موجعة للهيمنة الذكورية، وهو ما يشير إليه مخلوف مقدمة الترجمة: «بالنسبة إليه، ما يحصل في الواقع هو جزء من تاريخ العلاقة بين المرأة والرجل، وكأنّ على المرأة أن تتقبله، وإذا فعلَت عكس ذلك، فهي وفق ما جاء في كتابه تخضع لمشيئة «المثل النسوية الصاعدة» وتقف ضد الرغبة وتعمل على إخصاء الذكور»، فنقرأ بتهكم في مقطع بعنوان «شفافية»: «في الباب المجاور للجحيم، يهيم الآن ظلّ ناشطة في حركة «فيمن» كشفت عن ثدييها مئات المرات أمام رجال شرطة مذهولين. لكنها في نهاية الأمر، تركت منظمتها الثورية وانكبّت على إنجاز رسومات شبه دينية ثم شنقت نفسها. يبدو أن هاوي مجموعات فنية من المملكة العربية السعودية، لم يشترِ اللوحات القبيحة جداً للفتاة المسكينة، وإنما دفع مليون دولار للحبل الذي أرسلها إلى الشيطان». ليست القنبلة الأولى التي يرميها سولرس في وجه القراء والمجتمع، إذ سبق عام 1977 أن وقّع على بيان في صحيفتي «لوموند» و«ليبيرسايون» كتبه غابرييل ماتزنوف إلى جانب عدد من المثقفين والكتّاب المعروفين، يدافع عن العلاقات الجنسية بين البالغين والأطفال.
تظهر المحطات الأهم في حياة سولرس كأنها رواية أقحمت في الرواية، فهو «المؤلف الشاب» القادم «لقراءة كتب نادرة جداً» مع جان بولهان، المدير السابق للمجلة الفرنسية الجديدة، وأجواء تلك الفترة التي تميزت بالصمت الخلاق بحسب سولرس الذي سبق عاصفة 1968، حيث يستشرف مع بولهان في تعاليم الطاوية الصينية المنبعثة من سباتها وكتابات رينيه غينون ثورةً عقلانيةً مجردةً من الديماغوجية العقائدية شبيهة بثورة دو سان مارتان: «عندما أعلن هايدغر، في نهاية حياته، أن إلهاً فحسب يستطيع أن ينقذنا اليوم، كان كأنه يفكر في الفيلسوف المجهول. كذلك الأمر بالنسبة إلى نيتشه، في مقاطع عدة من «نقيض المسيح». لقد فشل هؤلاء الرجال لأنهم لم يعرفوا كيف يصمتون، بينما تجربة الفيلسوف المجهول بأكملها كانت تقوم على الصمت. يبقى أن نتخيل الهدف الذي كان يصبو إليه، هو الذي لم يكن صوفياً، بل عقلاني التوجه». كما يخيّل إلينا أحياناً أن سولرس هو الفيلسوف المجهول ذاته، ثم يقول لنا في مكان آخر بأنّ هذا الأخير يظهر في أحلامه ليخبره أنه «السليل المباشر». إنه «الجنرال المجهول» الذي أطلق سراح الفيلسوف المجهول إبان الحرب الجزائرية حين كان على شفا الموت في المستشفيات العسكرية، فشكر الفيلسوف أندريه مالرو الذي أجابه قائلاً: «أنا من يشكرك، أيها السيد، لأنك استطعت مرة واحدة على الأقل، أن تجعل الكون أقل غباء». كما تبدو روح رامبو حاضرة بقوة في «رغبة»، في مقاطع عديدة من إشراقاته أجاد مخلوف في ترجمتها، والرواية ككل يتقاطع فيها مع رؤية الفيلسوف المجهول: «تفتحون إشراقات رامبو وتلحظون بصمة التنوير. فيرلين، القليل الموهبة حيال هذا البعد المترامي، دارَ حول هذا النثر الرائع من دون أن يفهم شيئاً. رامبو هو الثوري وليس فيرلين». وهكذا سنعثر عبر الرجوع إلى الماضي على آراء ثاقبة لسولرس في تناول الأساطير اليونانية بلغة هي أقرب إلى الشعر «تعيش بيرسيفوني تحت الأرض في فصلَي الخريف والشتاء. هذه السمراء الفاتنة تعاود الظهور، مع حلول الربيع، على مرجها الكبير المتناثر فيه نباتات من فصيلة الزنبق. انظروا إليها وهي برفقة أزهارها البِيض، بينما تغني بصوت خفيض نشيدها المرفوع إلى حياة النهار».
تنبع أهمّيتها من المشكلات التي تفتعلها مع إنسان ما بعد الحداثة

كما لا تخلو الرواية من استحضار سمفونيات موزارت وهايدن وغيرهما، وإشارات نقدية لتراث دانتي والماركي دوساد وكازانوفا وقفزات إلى المستقبل لتناول قضايا الساعة مثل البث المباشر، والعولمة، والذكاء الاصطناعي وغيرها. كما يخصص مقاطع كاملة للعملاق الصيني الضارب في التاريخ بثقافته الكونفوشيوسية، مروراً بثورة ماو تسي تونغ، وصولاً إلى تموضع الصين القوي في قلب العالم الرقمي اليوم.
إنها رواية قوية جديدة من سولرس تنبع أهميتها من انطلاقها من الماضي لتتحدث عن الحاضر وتستشرف المستقبل، ومن المشاكل التي تفتعلها مع إنسان ما بعد الحداثة الذي «ذَكَراً كان أو أنثى، معاصراً للذكاء الاصطناعي والانغماس في العالم الرقمي، أصبح يتكوّن داخل المستشفى، ويولد في المستشفى، ويعمل في المستشفى، ويموت في المستشفى، وتحرق جثته في المستشفى. هذه المستجدات تتركه في حالة من عدم التأثر. لم يعد ثمة ما يفاجئه في تقدم الجنون المذهل. لقد فهم بسرعة العنف اللامحدود والمضحك للرغبة المضادة».