في كتابي «سنة الحية: روزنامات العصور الحجرية» الذي صدر قبل شهور، بيّنت أن سنة العصور الحجرية تقوم على حركة الماء السفلي الكوني، وتنقسم إلى ثلاث فترات:فترة تتكوّن من 243 يوماً، وهي فترة بيات الماء السفلي في الأعماق.
فترة تتكوّن من 81 يوماً، وهي فترة خروج هذا الماء من بياته في الأعماق إلى السطح.
فترة مشتركة بينهما مكوّنة من 40.5 يوماً.
وقد رسمت دورة الماء هذه على شكل دائرة، كما تظهر الصورة أدناه.



لكنّ هذه الأقسام الثلاثة كانت تتبدّى أحياناً كشجرة مكوّنة من ثلاثة أفرع في أذهان القدماء أحياناً كي تمثل الفترات الثلاث. هذه الشجرة هي أصل شجرة الحياة الأسطورية. ذلك أن الماء أصل الحياة وواهبها. وأقدم تمثيل نملكه لهذه الشجرة هو رسم بالمَغَرة الحمراء في كهف إلكاستيللو في إسبانيا من العصر الحجري القديم الأعلى. الفرع الأطول من هذه الشجرة يمقل، فترى بيات الماء السفلي، والفرع المتوسط الحجم يمثل فترة الخروج من البيات. أما الفرع الأقصر فهو يمثل الفترة المشتركة بين البيات والنشاط.



لكن لدينا صورة أوضح لهذه الشجرة في داخل دائرة على صخرة في المغرب. وظنّي أنّ هذه الشجرة تعود إلى ما قبل العصر الحجري الحديث، أو ربما إلى بداياته. وكما نرى، فالشجرة داخل الدائرة تملك ثلاثة أفرع. ورغم أنّ تلفاً ما أصاب الأفرع، فإن فرضيتي تقول إنّ فروعها مقسومة إلى: كبير، متوسط وصغير. يؤيد هذا أنّ الدائرة ذاتها مقسومة عبر الشجرة إلى ثلاثة أقسام: كبير إلى اليسار، وهو يمثل فترة البيات، ومتوسط إلى اليمين، وهو يمثل فترة النشاط والخروج من البيات، ثم قسم ثالث صغير في الأعلى مقسوم إلى قسمين بالفرع الأوسط لأنه شركة بين فترة البيات والنشاط



بالتالي، يمكن ترقيم الشجرة المغربية بالأرقام التي تحدّثنا عنها.



لكن الأكثر إثارةً في الدائرة المغربية وجود ما يبدو ثقب في المنطقة التي تمثل فترة النشاط، ووجود خرزة مستديرة سوداء اللون يبدو أنها سدّادة الثقب.



وإذا صحّ ذلك، فقد فتح الثقب لسبب طقسي في ما يبدو. فحين تحل فترة الخروج من البيات يخرج الماء السفلي من الأعماق، وتنساب على السطح، كما تنساب الحيات عند انتهاء فترة بياتها الشتوي. ولكي يجري تمثيل خروج الماء فتح الثقب في القسم اليمن، قسم الخروج من البيات. وهذا يعني أن الخرزة السوداء وضعت لكي تسدّ الثقب بعد انتهاء فترة النشاط. وإذا صح ما أقول، فإن الخرزة ظلت في مكانها لأكثر من عشرة آلاف، أو ربما عشرين ألف سنة.
عليه، فالدائرة- الشجرة التي رسمناها لم تكن اختراعاً منا، بل كانت موجودة في عقول القدماء وتصوراتهم، كما تؤكد الشجرة المغربية. ومن هذه الشجرة انبثقت في ما يبدو لي فكرة شجرة الحياة الشهيرة في الثقافات القديمة. ذلك أن هذه الشجرة تمثل حركة الماء الكوني، والسفلي منه على الأخص كما سنرى لاحقاً. فالحيات هي الماء في نومه ويقظته. كذلك يبدو أنه من هذه الشجرة أيضاً انبثق في ما يبدو علامة السلام في العالم الحديث. أصول هذا الشعار تكمن في الشجرة التي نتحدث عنها.

(علامة السلام في العالم اليوم)


والتغير الوحيد الذي جرى هو تحويل الشكل إلى سيميتري منتظم. أي جعل فترة البيات وفترة الانسياب متساويتين.
وفي العادة، فإن فترة البيات تُصور على شكل حية متطوّية، وفترة النشاط تُصور على هيئة حية منسابة. لكنّ تغيراً طرأ على هذا في العصر الحجري الحديث، كما تبين شجرة ثلاثية عُثر عليها في غوبكلي تبي في الأناضول، وتعود إلى العصر الحجري الحديث.



وكما نرى، فهناك شجرة مثل شجرة إلكاستيللو فيها ثلاثة أفرع، واحد طويل وواحد متوسط وواحد صغير. وإلى يسارنا توجد حيّة، وإلى يميننا يوجد طائر. الطائر حل محل الحيّة المنسابة. ذلك أن الحية المنسابة تصعد من الأسفل إلى الأعلى. والطائر يحلق في الأعلى. أما الحيّة فصارت، مهما كان شكلها، تمثيلاً لفترة البيات من دون لزوم أن تكون متطوّية. تغيرت الأشكال، لكن المفاهيم الأساسية ظلت كما هي. كما أن الأرقام ظلت كما هي.



والحيّة والطائر يذكّران بالتقليد البابلي، تقليد شجرة أنانا. فعلى الشجرة كان يقيم طائر، وفي أسفلها كانت تقيم حيّة. الطائر هو فترة الصعود والانسياب، والحية هي فترة الهبوط والتطوّي، والصراع يجري بينهما.
لكن الأهم، وهو ما كُتبت هذه المادة من أجله، فهو أن الشجرة المثلّثة تشبه نهر النيل مع فروعه في الدلتا. بالطبع يملك النيل سبعة فروع أساسية حسب التقليد الشائع، لكن يمكن القول إن هناك فروعاً ثلاثة أساسية تتفرّع منها الفروع الأخرى. ولو وضعنا صورة النيل مع فروعه في الدلتا مع صورة الشجرة الغربية لاتّضح لنا الشبه بقوة.



هذا الشبه يدفعني دفعاً إلى افتراض أن شجرة التوقيت في العصور الحجرية، أُخذت من صورة النيل. وإذا صحّ هذا، يكون توقيت العصر الحجري القديم الأعلى (40 ألف سنة) قد انبثق من مصر، وكان مثاله نهر النيل، لكنه صار توقيتاً كونياً. وهذا ليس غريباً، فالحركة النموذجية لفكرة بيات الماء ثم خروجه من البيات موجودة في النيل فقط. فماء النيل ينام ساكناً في الأعماق طوال شهور، ثم ينبثق من الأعماق من جديد مع طلوع نجمة الشعرى، ويتموّج على سطح الأرض كما تتموّج الأفاعي المنسابة. بذا فالنيل حية متطوّية في بياتها الشتوي في جزء كبير من السنة، ثم هو حية منسابة في الصيف وبدايات الخريف.
وأظن أنه إذا ثبتت هذه الفكرة، هذا الفرضية، فإن تاريخ البشرية كله سيتغير.
مرّت هذه الفرضية في بالي وأنا أعمل على كتابي «سنة الحية»، لكنها لم تكن متبلورة وقتها، لذلك لم أتحدث عنها في كتابي، رغم أن نهر النيل موجود على مدى صفحات الكتاب.

* شاعر فلسطيني