أعدّ مجموعتي الشعرية الجديدة للنشر. وهي ستكون بعنوان «تمرة الغراب»، ما لم يحصل ما يجعلني أقرّ على عنوان آخر. ورأيت أن أنشر عدداً من مقطوعات هذه المجموعة هنا. مرات قليلة نشرت مقطوعاتي في زاويتي في «كلمات». وكنت أحسّ بالذنب حين أفعل ذلك. لأنه ليس من حق الكاتب أن يمطر قارئ زاويته بقضاياه الفنية الشخصية. لكن ها أنا أفعلها مرة أخرى، وأنشر مقطوعاتي أدناه كنوع من الإعلان غير مدفوع الثمن عن مجموعتي الجديدة. لذا وجب الاعتذار.
الماء أسود، والتمر أسود. وأنا أسود مثلهما. كما أن الحقيقة أيضاً سوداء، وأسود هو الفهد الذي يحرسها.
فتعالَ يا عابر السبيل، أو تعالي أنتِ يا نسرين، كي أكشف لكِ سوادي. كي أريكِ وحمة العتمة تحت ثديي، علّك تصيرين سوداء مثلي. سنكون أسودين مثل التمر والماء، ومثل الحقيقة وفهدها، إن مشيتِ معي.
أنا آكل حجارة وأنت آكلة سنابل. وسنقطع الطريق معاً.

لي أوتس ـــــــ «فضاء انتقالي» (2015 ـــ 2016)

وحين يختم الليل بختمه سوادنا معاً سأخمش لك كفّك مثل سنّور، وآكل الحجر الذي في يدك، والتمرة التي في فمك.
وأنت تعرفين أن هذه مجرد تشابيه، وأن التشابيه داكنة مثل دم الحيض.
لو كنتُ ملِكاً لحبستُ نسرين حتى تصير سوداء، ثم أطلقتها في الفجر مثل صيحة غراب.
1-5-2021
■ ■ ■

أرجف مثل طفل تحت الحصبة.
فأنا أعرف المشبّه والمشبّه به، لكن لا أعرف وجه الشبه بينهما. هناك شبه ضعيف بين حذوة الحصان وعيني. وهناك شبه أرسخ منه بين طائر البلشون وحبة جوز في يدي.
ارم لي مفتاح العلب على الطاولة. أريد أن أفتح النهار مثل علبة سردين. أريد أن أبلع الزمان مثل حبة أسبرين.
أعرف العين الدوارة للعظاءة ولا أعرف من أيّ عابر سبيل أخذتْها.
الفكرة ونقيضها يمشيان ورائي مثل كلبين.
لا يمكن الحصول بسهولة على تشبيه، ولا يمكن الوثوق بوجه الشبه. لذا أقلّد شيرين كأنني بنتها. ولذا أغني بشفتها.
سوف أنزل بعد قليل كي أجني الكمأة. كي أنبشها بعصاي. الكمأة شهيد مكفّن بالتراب. وكل مقطوعة طائر بلشون كذّاب.
وفي ما مضى كنت أموت وجداً بين الشجرة وحجرها. بين فم الكأس وقعرها. أما اليوم فأنا أموت كأنني حذوة حصان. كأنني طبعة من طبعاتها.
أنا حبيس التشابيه.
لذا سأفتح لكم النهار مثل علبة سردين. سأكسر لكم قلب شيرين وزجاج بيتها.
11-2020
■ ■ ■

الاسم كلبشة من حديد. وحين تسمي شيئاً، فأنت تحبسه مثل حصان في الحظيرة، أو تضع قيداً على رجله في المروج. وأنا لا أحب أن أحبس أحداً. لذا أتركُ الأشياء ترعى في حقل، والأسماء ترعى في حقل آخر. لا أجمع بينهما.
ولهذا أيضاً أنسى أسماء معارفي. أنساها لأنني أحبهم. أتركهم هكذا فالتين في المرعى تحت الشمس.
لكن مريم هي الوحيدة التي لا أنسى اسمها. أضع اسمها تحت ضرسي، وأمضغه طوال اليوم. بل إنني أعلك هذا الاسم في مناماتي أيضاً.
الأسماء نسيان كامل إلا اسم مريم وحدها.
وقد تظنون أنني أفهم هذا الاسم وأعرف معناه. لا، اسم مريم لغز كبير. وأنا أتغنّى به ولا أفهمه. لهذا ضممته متعمّداً، ومتعبّداً، إلى أوائل السور. إلى سور الحواميم والطواسين.
21-4-2021
■ ■ ■

أما الزهور فلا أفلت أسماءها. وحين أعبر قرب زهرة آخذ اسمها معي. فأنا لا أعرف الزهور إلا بأسمائها. فحاسّة شمّي ضعيفة. وقد ورثت هذا عن أمي التي شمّتني حين ولدتني، ولعقتني مثل بقرة، ثم فقدت حاسّة شمّها. وأنا أمضي في طريقها ذاته: تفلت رائحة الزهور مني وتصعد في السموات. لذا فأنا ملزم أن أقبض على الزهور من أسمائها. أقبض على هذه الأسماء كما لو أنني أقبض على أيدي أطفال وأقطع بهم الشارع.
الزهور لعنتي: رأسي مليء بأسمائها، وعيناي مليئتان بتويجاتها.
21-4-2021
■ ■ ■

الليل والحجر شيء واحد، وهما من الجذر ذاته في القاموس.
أما اليأس فيأتي من زهرة شجرة الفتنة، والجرح الكبير من الأحبة. وهذه أريحا التي زرعت فيها نخلة وأضأت قنديلاً. جبل الأربعين قدامي: هذاك مصعده وهذاك مهبطه.
تعالوا إذاً عندي. سنشعل ناراً ونجلس حولها صامتين. لا أحد منا سيفتح فمه. كل واحد سيقبض على عصاه ثم يضع ذقنه على يده التي تمسك بالمقبض، ويتأمل النار.
النار هي النصّ الوحيد الذي لم تفتح مغاليقه يد بعد. وأريحا جارية تغتسل من حيضها في العتمة تحت شجرة الدوم.
تعالوا كي تمنحوني خيطاً أمسك به. كي تعطوني مطلعاً أصعد به. أريد أن آكل الليل وحجارته، وأن أهيمن على الزمن.
لقد حبست لكم النار في الموقد. حبستها بالأثافي الثلاث، بالكلمات الموجعة الثلاث، وستظل محبوسة طوال الليل. وسوف نحاول معاً تفسير نصها المبهم العظيم.
جبل الأربعين على يميني. وأنا سأسقطكم تحت أقدامه بالخمرة. سأسقطكم بسحر نجمة الزهرة.
عقدتُ عقدة حبل. زرعتُ فسيلة نخل. وهناك جراح لا أمل في شفائها.
12-7-2020
■ ■ ■

أيلول في أواخره. عجلاً يمشي ويضرب جبينه بكفه كأنه نسي شيئاً. يظن أنه نسيني وراءه مثل صرّة على الرصيف.
اسمع يا أيلول، يا من ترتدي سترتك بالمقلوب، أنا لا أُنسى. الحجر في قبضتي يذكّر بي، والنجمة تحت لساني تذكّر بي أيضاً.
وأنا أعرف ألاعيبك، وأعرف الخرافة عن إكليلك الأصفر الذي كأنه: «ذهب مشغول». لكن ذهبك لا يهمني، فالفضة مذهبي. الفضة التي تسيل من أعين المحبين، والتي تقطر كالندى بين الوعي واللاوعي.
لقد احتملتك فقط من أجل أسراب طيور السمّان التي تعبر البحر المتوسط فيك. واحتملتك من أجل عود العنصل. ولولاهما كنت أطلقت النار على إكليلك الذهبي.
أيلول في أواخره. نسي أمه، ونسي ذاته، وأخلف عهده معي.
لكنني لا أهتم. فهمّي هو عود العنصل. وعود العنصل يصعد أمامي في السماء وتتفتّح فيه ألف زهرة.
وكل هذا ملكي أنا لا ملك أيلول.
27-9-2021
■ ■ ■

كشف لي الحبيب عن معنى اسمي ذاته. لم أكن منتبهاً لذلك. قال لي: أنت تنادي أحداً ما يا زكريا. ألست ترى ياء النداء في آخر اسمك؟ ناد يا زكريا، ناد. فالإنسان حرف نداء لا غير.
لذا أجعلُ ياء النداء في أول المقطوعة. أضعها هناك مثل عصا من خشب الجوز. مثل صخرة في بدء الطريق. على البدء أن يكون بالنداء. وعلى النهاية أن تكون حرف نداء.
أضع شظية مرآة على الصخرة، وأقول لها: اعكسي الشمس يا مرآة، اعكسيها يا امرأة. وهي تعكس الشمس، وتعكس الكون في دماغي.
آه يا أمهاتنا، الحبيب له قطعة من لحمنا، والمبغض له قطعتان. والمستقبل يتحسس طريقه في العتمة.
26-12-2021
■ ■ ■

أنا واحد من القردة العليا التي أمسكتْ، عبر صدفة ما، بشعلة الوعي، وسارت بها في ليل الغابات وليل السافانا.
وطوال الوقت أفكر بهذه الشعلة وفائدتها، ولا أصل إلى نتيجة حاسمة. أقول لنفسي أحياناً: هذه الشعلة هي روح الكون وشرفه. لكن في أحيان أخرى أصل إلى أنها كانت في الحقيقة شعلة للموت تركها لنا إله ما على صخرة فالتقطناها. لذا فنحن نحمل في الحقيقة موتنا - لا وعينا - مثل قنديل ونسير وراءه.
لماذا خلق الله السموات والأرض هكذا يا مريم؟ لماذا جعل الموت أجمل طفل فيها؟


أسقطتْ شجرةُ الدّلب ثمرتَها الشائكة، فانفجرت، وتساقطت بذورها. وهذا هو وعي شجرة الدلب. هذا هو قنديلها. أما نحن فقناديلنا مقاطع شعرية قصيرة لا فائدة منها.
وليس هناك من سبيل إلى شجرة الدّلب. أردت أن أغنّي لها، لكنني لا أعرف لغتها. أردت أن أغني للذئبة تحت البدر، لكنها لا تفهم مقاطعي. لقد عزلتنا اللغة. عزَلَنا وعيُنا. نورنا كان عزلتنا.
القرود العليا تغني، ولا أحد يفهم غناءها. القرود العليا تبكي ولا أحد يمسح دموعها. فأين تذهب هذه القرود بعدما خلّفت سهول السافانا وراءها؟
أعطني كسرة خبز، وأنا أعطيك مقطعاً قصيراً. أعطني تمرة، وأنا أعطيك شعلة موت تقطع بها سهول السافانا، وتقطع بها وريدك في معصمك.
10-12-2021

■ ■ ■

اسمعي يا سيرين، لقد صنعتُ من أسمائك الكثيرة مسبحة من تسع وتسعين حبة، وطقطقتُ بها تحت أبواب السماوات. في آناء الليل وأطراف النهار ألعب بها بإبهامي، أسقطها حبة حبة، ثم تصعد لي ثانية كي أعدها من جديد. الحبة الأولى هي الاسم الكبير: سيرين. الحبة الثانية شيرين. والثالثة إيزيس. أما الرابعة فشجرة السرّيس، وهكذا.
وفي منتصف الليل حين ينهكني عدّي وتسبيحي أغني، ثم أضع ذراعي على الطاولة، وأرمي رأسي عليها، وأنام.
السيوف معلقة على الجدار، والحروف مصفوفة على الكيبورد، والأسماء في المسبحة. وأنا أعدّ بإبهامي، وأكتب بسبابتي. وسوف أعدّ وأكتب حتى يوم القيامة.
أعظم الأشياء أن تكون بلا صلة. أن تتدلّى وحدك مثل عنكبوت بخيط رفيع ينزل من السقف. أعظم الأشياء أن تجعل فراشك نقطة ولحافك نقطة أخرى فوقها، وأن تعدّ بإبهامك لحبيب لم تره قط، ولن تراه أبداً. وفي الساعة الثانية عشرة حين ينهكك العد، تضع مثل رجل عصابات يدك على المسدس، ثم تطفئ النور، وتطلق النار.
هذا هو الليل الذي تُسلخ منه النهارات يا سيرين. وهذه هي النجوم التي تتساقط مثل حبات مسبحة. وهذا هو الكيبورد الذي أطقطق به كي تنفتح لي في لحظة ما ثغرة في الأرض أو في السماء.
5-12-2021
■ ■ ■

لقطت اليوم بيدي آخر تمرة على النخلة. علكتها ماشياً في فمي. وبذا أكون قد أقفلت بيدي وضرسي باب الصيف، وافتتحت بوابة الخريف. ويفترض أن يسقط مطر عما قريب. لكنني لست متشوقاً للمطر. المطر عالة علينا وعلى طفولتنا. إنه طفل يمخط أنفه بكمه ويبكي في الطرقات.
وفي كل حال، فالفصول كلها باطلة. كما أن التمرة باطلة. كل ما تلقطه اليدان باطل، وكل ما تمسك به العينان باطل أيضاً.
من أجل هذا، من الأفضل أن تجعل الغبار عائلتك، وأن تعبد ما تجده من الحجارة في طريقك، وأن تحب الدمية التي أتى بها بريدك، وألا تسمح لأحد بأن يعتادك.
اليوم هو السبت، أما غداً فهو الأحد الذي تبشّر بالموت نواقيسه. وأما بعد غد فسوف أنام مثل رغيف على الحصى الساخن.
أوه، شققتُ بالسبابة والإبهام آخر تمرة على النخلة. وآخر تمرة هي الخريف. وأول عاشقة خائنة هي النخلة.
2020
■ ■ ■

مرة عبرتُ حقل الشوفان البرّي والعيدان تتصايح حولي. كنت أبحث عن زر قميص مريم الذي سقط من غير أن تدري.
الحقيقة مولود بلا اسم، لذا فكرت في أن أعطيها اسمي. كما أن الزهرة بلا أب، لذا طوّبتها ابنة لي. فأنا كريم حدّ الموت. كريم حدّ أن الحجر ذاته يخجل من وجودي. فاذكري هذا جيداً يا مريم.
في الصباح أكون قادراً على ابتلاع الكون كله. وفي المساء يستطيع «أبو بريص» على الجدار أن يمد لسانه ويبتلعني. فاذكري هذا يا مريم أيضاً، فأنا أذكر زر قميصك، وأذكر عيدان الشوفان البري وهي تتصايح عند خصرك.
لماذا خلق الله السموات والأرض هكذا يا مريم؟
لماذا جعل الموت أجمل طفل فيها؟
أنت عود شوفان يا رب، ومريم قبيلة سكوت ونسيان. وهي قد أقفلت بسبابتها فمي، فلم أعد قادراً حتى على أن آتي بمقطوعة قصيرة واحدة.
هذا آخر يوم في السنة يا رب.
هذا أجمل طفل على وجه الأرض.
30-12-2021

* شاعر فلسطيني