في عام 1996، أصدر كلّ من روبرت بوفال وغراهام هانكوك كتابهما: «رسالة أبي الهول» حيث اقترحا أن أهرام الجيزة الثلاثة تمثيل لنجوم حزام الجوزاء الثلاث الواقعة في وسط برج الجوزاء (الجبار). وكان هذا، في اعتقادي، أهم اقتراح قُدم حتى الآن لفهم الديانة المصرية القديمة، أو ديانة الأهرام كما يمكن أن نسميها. وبهذا الاقتراح، لم تعد أهرام الجيزة مشروع مدافن شخصية لملوك ثلاثة هم: خوفو، خفرع ومنقرع. بل صارت مشروعاً دينياً هائلاً له علاقة بالسماء ونجومها وآلهتها. وقد تعرّفت إلى كتاب بوفال وهانكوك بعد صدوره بسنوات، وفي سياق بحثي في ديانة العرب قبل الإسلام، فساعدني على ربط ديانة مكة بالديانة المصرية القديمة، وهو ربط نتج عنه كتابي «عبادة إيزيس وأوزيريس في مكة الجاهلية» (2009). وفي هذا الكتاب الكبير الحجم، ومع كل مشاكله، أظن أنني وضعت أسس فكّ شيفرة ديانة العرب في الجاهلية. كما أنني قدّمت بعض المقترحات المفيدة بخصوص ديانة الأهرام. وكان اقتراحي المركزي في كتابي أنّ أهرام الجيزة ليست حزام الجوزاء كما اقترح بوفال بل هي حزام معاكس لحزام الجوزاء، واستناداً إلى النقاط التالية:
أولاً: إذا كانت أهرام الجيزة الثلاثة تمثيلاً لحزام الجوزاء في جنوب السماء، فقد كان عليها أن تُبنى في جنوب مصر لا في شمالها، لأن حزام الجوزاء موجود في جنوب السماء لا في شمالها، إلا إذا افترضنا أن أرض مصر سماء مقلوبة معاكسة للسماء فوقنا.
ثانياً: إذا كانت الأهرام تمثيلاً لنجوم حزام الجوزاء، فلماذا تفتح جميعاً أبوابها على شمال السماء، أي على الدب الأكبر وبنات نعش، ولا تفتحها على نجوم برج الجوزاء في جنوب السماء؟
ثالثاً: ثم لماذا تصطفّ نجوم حزام الجوزاء من الجنوب إلى الشمال بدءاً من الهرم الأكبر، في حين تصطفّ الأهرام الثلاثة بشكل معاكس، أي من الجنوب إلى الشمال؟
وانطلاقاً من هذا التعاكس البيّن والواضح، فقد توصلت إلى أن الأهرام الثلاثة ليست حزام الجوزاء، بل حزام مضاد له. أي أنها «حزام شمالي» يقف في مواجهة «الحزام الجنوبي». وما زلت متمسكاً باقتراحي القديم أعلاه. لكنّ السؤال هو: لماذا يُطرح حزام مضاد لحزام الجوزاء في شمال السماء؟ وما الهدف؟ وقد بدا لي وقتها، وانطلاقاً من بوفال، أننا في مع جدل هيغلي: فلدينا أطروحة هي حزام الجوزاء، وأطروحة مضادة هي أهرام الجيزة الثلاثة. بالتالي، بقيت لدينا أطروحة التركيب بين الأطروحتين المتعاكستين، أي المصالحة بين الأطروحة الشمالية والأطروحة الجنوبية وتجاوزهما لكي يكتمل الجدل. لذا، تبعت افتراض بوفال حول وجود توازن، أو مصالحة ما، داخل الهرم الأكبر أو حوله. وانطلاقاً من نصوص الأهرام التي تتحدث عن أن الهرم الأكبر باعتباره «ميزان الأرضين»، فقد افترضت، منطلقاً من بوفال أيضاً، أن التصميم الداخلي، المعقّد والمثير جداً للهرم الأكبر، قد يكون هو الأطروحة التركيبية الثالثة. ولأن هذا التصميم مكوّن من ثلاث غرف، فقد افترضت أنه يتوافق مبدئياً مع الفكرة الثلاثية في الأهرام وحزام الجوزاء. بذا، فالغرف الثلاث هي مبدئياً حزام جوزاء داخل الهرم الأكبر. لكنّ ترتيب الغرف الثلاث في الهرم الأكبر مختلف عن ترتيب الأهرام الثلاثة ونجوم حزام الجوزاء، كما لاحظ بوفال. فالغرفة الثانية، أي غرفة الملكة كما تُسمى، تنحرف عن محور الغرفة الأولى، غرفة الملك. ولأن نجمتَي النطاق والنيلام هما النجمتان المسؤولتان عن حركة الماء السفلي في الكون، بالتالي، افترضت أن الغرفة الوسطى قد أزيحت بهدف إحداث توازن جديد يمنع الطوفان. والمصادر العربية تصر بشكل مدهش على أن الأهرام بُنيت لدرء الطوفان.
لكنني الآن أتخلى عن هذه الفرضية. فقد كان يجدر بي أن أحلّ اللغز عبر ما توصلت إليه بشأن ديانة العرب قبل الإسلام. وفي هذه الديانة، فإن لأوزيريس والآلهة التي تناظره عند العرب وجهين وليس وجهاً واحداً، أو وجودين وليس وجوداً واحداً. الوجود الأول، وهو وجود جنوبي، يمثله سهيل اليماني، المقيم على طرف برج الجوزاء. لكنه يتمثل أيضاً بنجم النطاق في حزام الجوزاء (النطاق، النيلام والجوزاء). أما الوجود الآخر، فهو وجود شمالي يقع في بنات نعش، وبشكل أدقّ قرب نجم عناق في وسط نجوم ذيل بنات نعش المكوّن من ثلاث نجوم. فهناك قرب عناق يوجد نجم السها الشهير جداً، والذي ما يكاد يرى بالعين المجردة. وسهيل والسها هما أوزيرس- النيل في فيضه وفي تراجعه، في قمته وقراره. والتشابه بين الاسمين يؤيد ذلك. فسهيل اسم مركب من: «سه + إل»، أي الإله سه، أو ساه. وهذا متوافق من اسم السها (سها). وليس هناك فارق جدي بين «سها» و«سه».
والحال، أن أوزيريس في النقوش المصرية يملك وجودين اثنين أيضاً:
الأول: وجوده حين يكون اسمه: سوكر Soker. وأغلب الظن أن «سوكر، سكر» على علاقة بكلمة «سقر» في عربية القرآن، وهي تشير إلى الجحيم، أي إلى العالم السفلي. واعتقادي أن وجوده هذا يمثله نجم السها في بنات نعش.
الثاني: وجوده حين يكون اسمه: ساهو Sahu، وهو يُسمى بهذا الاسم في قمة فيضان النيل في الخريف. ذلك أن أوزيريس هو النيل. وفي هذا الوجود، هو يتمثل بسهيل اليماني وبنجمة النطاق. بذا فأوزيريس حين يكون اسمه «ساهو» هو سهيل اليماني العربي، وقرينته هي الشعرى اليمانية، فهو قرينته إيزيس. وحين يكون اسمه «سكر» هو نجم السها، وقرينته عناق، التي هي النظير الشمالي للشعرى اليمانية. وليس مصادفة أن يكون هناك توافق لفظي بين الاسم «ساهو» المصري وبين الاسمين «سهيل» و«سها» في العربية.
وإذا كانت أهرام الجيزة حزاماً شمالياً مضاداً لحزام الجوزاء، فلا بد لها أن تعطينا الوجود الشمالي لأوزيريس، أي وجوده باسم «السها» قرب نجم عناق في بنات نعش. ويبدو بالفعل أن تصميم الهرم الأكبر الداخلي يعرض لنا نجمة عناق ونجم السها قربها.

التصميم الداخلي للهرم الأكبر


ولاحظ أن هناك 4 حجرات في الهرم الأكبر- كما في الصورة أعلاه- وليس 3 حجرات كما هو الشائع. وهذا هو الذي لم أنتبه له في كتابي المذكور. فالجميع كان يتحدث عن ثلاث حجرات. لكننا في الحقيقة مع أربع حجرات، إحداها صغيرة جداً:
الحجرة الرقم 1 وهي الأعلى والأكبر، وتسمى «حجرة الملك».
ثم الحجرة الرقم 2 الصغيرة جداً قربها، وتُعتبر تابعاً لها عند الباحثين، وتُسمى «حجرة الانتظار».
الحجرة الرقم 3 وتُسمى «حجرة الملكة».
وهناك الحجرة الرقم 4، وهي الحجرة التحت أرضية. والتسميات كلها بالطبع خاطئة وناتجة عن وهم أن الأهرام مدافن ملكية.
ولو أبعدنا الحجرة التحت أرضية، وهي حجرة موجودة داخل الأهرام الثلاثة جميعاً، فإنه يكون لدينا داخل الهرم حجرة زائدة عن فرضية بوفال هي «حجرة الانتظار». فلا مثيل لهذه الحجرة لا في حزام الجوزاء ولا في الأهرام الثلاثة.

التصميم الداخلي للهرم الأكبر بعد إبعاد الحجرة التحت أرضية


لكن هذا التصميم، بغرفته الزائدة، يتوافق تماماً مع المنطقة التي تقع فيها نجمة عناق الوسطى في ذيل بنات نعش في السماء. فهناك ثلاث نجوم في هذه المنطقة:
1- نجمة عناق الضخمة، وتُدعى Mizar في التقليد الغربي.
2- نجم السها أسفلها ويُدعى Alcore في التقليد الغربي.
3- نجم ثالث ضئيل جداً بينهما هو الذي يُدعى «المئزر» بالعربية، ويُدعى Zeta Ursae Majoris في التقليد الغربي.

التصميم الداخلي للهرم الأكبر بعد إبعاد الحجرة التحت أرضية


وهذه النجوم الثلاث هي التي يمثلها تصميم الهرم الأكبر الداخلي. فالنجمة الكبيرة، أي نجمة عناق، تمثلها غرفة الملك، ونجم السها في الأسفل تمثله غرفة الملكة. أما النجم الصغير بينهما فتمثله «حجرة الانتظار»، أي المئزر. وإذا صحّ هذا، فغرفة الملك هي التي يجب أن تكون في الحقيقة «غرفة الملكة». ذلك أن نجمة «عناق» هي الملكة فهي تمثل إيزيس في وجودها الشمالي، في حين أن ما يسمى «غرفة الملكة» تمثل نجم السها، أي أنها «غرفة الملك» في الحقيقة. فالسها هو أوزيريس القار، النائم، غير الفيضي. أما نجم المئزر الصغير فيقع بين الملكة والملك، ولست أدري أيّ كيان إلهي يمثل. فهل يمثل الابن، ابن عناق والسها؟



إن صحّ هذا، فهو يثبت أن الهرم الأكبر يعرض لنا في داخله شمال السماء لا جنوبها. بذا يمكن القول إنّ حورس- وكل ملك مصري هو حورس- فرض حزام الجوزاء على شمال مصر على شكل أهرام ثلاثة. وهذا يعني أنه فرض سيطرته على شمال مصر. لكن هذا حدث مع نغمة مصالحة ما، إذ إنه قلب الأهرام وجعلها شمالية. كما أنه وضع شمال السماء، أي عناق والسها، داخل الهرم الأكبر كدليل على هذه المصالحة. وهكذا صار الهرم الكبر ميزان الأرضين، أي شمال مصر وجنوبها معاً. لم يعد يمثل الجنوب فقط، بل الشمال والجنوب معاً، لكن تحت هيمنة الجنوب. وأعتقد أن هذا على علاقة بثيولوجا حجر شابكا. ففي نص هذا الحجر أن حورس وسيث اقتسما مصر بجنوبها وشمالها. ثم قرّر الإله جيا أن حصة حورس قليلة، فأعطاه شمال مصر وجنوبها، أما سيث فرفعه إلى شمال السماء. بالتالي، فقد صار حورس ملكاً لمصر كلها. لهذا جرى نقل صورة نجوم حزام الجوزاء، الذي هو حزام حورس، إلى شمال مصر، وطرحها بالحجر هناك. وهكذا صارت الأهرام بوجهيها المتعاكسين ممثلة لجنوب مصر وشمالها. ويعتقد باحثون غربيون أن نجمة عناق قد سميت في التقليد الغربي ميزار Mizar خطأ باسم المئزر، وعلى افتراض أن المئزر هو نجم السها. وهذا غير صحيح. فالمئزر هو النجم الصغير بين عناق والسهاـ وتمثله «حجرة الانتظار» كما تسمى. أكثر من ذلك، فأنا أعتقد أنه لا توجد أي علاقة بين «ميزار» و«المئزر»، وأن ما يبدو من علاقة مجرد مصادفة. واعتقادي أن نجمة ميزار هي النجمة التي تدعى ميزوري، أو ميسوري، في المصادر القديمة. وهي إلهة مرتبطة بإله يدعى صودُق. وقد ورد الاسمان معاً في تاريخ فيلو الجبيلي: (ميسور Misor وصودوق Suduk). كما وردا في نصوص أوغاريت من القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وبتوافق مع ما ذكره فيلو. ولدينا زوجان بابليان هما ميسارو Mesaru وكيتو Kittu. وهناك دلائل ما على وجود بقايا لميزار في سفر إشعيا: «بل يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض» (الكتاب المقدّس، إشعيا 11:4). وكلمتا بالعدل وبالإنصاف هما في الأصل العبري «بصدق» و«بميسار». وهناك احتمال بأن هذه الجملة تعني فعلياً: «بل يحكم بالصودق وبميزار»، أي يحكم بحكم هذين الإلهين.
وأخيراً، ما أخبرنا به أبيفانوس، هو أن المصريين يسمّون شهر تشرين باسم ميزوري Mesori: «رأس السنة، الذي يقع في الخريف، أي بعد شهر تشرين، الذي يسمّى أوغست عند الرومان، لكنه يسمّى ميزوري Mesori عند المصريين، وغورفبانوس عند المقدونيين، وأبيليوس عن الإغريق. وهم يبدأون سنتهم الجديدة في تلك النقطة» (Epiphanius of Salamis, The Panarion, 2009, page 37-38). ونعتقد أن شهر ميزوري المصري أخذ اسمه من ميزار هذه. وكل هذا يدفعنا للاعتقاد أن صودق هو «الصيدق» عند العرب. والصيدق هو اسم آخر لنجم السها، أو صفة له. أما ميسارو أو ميسور فهي ميزار. أي أن الاسم «ميزار» ليس تحريفاً لاسم «مئزر» العربي. على أي حال، يبدو لي أن الإله السها (أي أوزيريس وما يشبهه من آلهة) يكون في الأصل داخل مربع بنات نعش، الذي يُسمى «النعش». وهو يُسمى بهذا الاسم لأنه «نعش» الإله في موته وقراره. ولأن أوزيريس الميت- النائم موجود في النعش لذلك ليس هناك حجرة دفن، أو تابوت في الحجرة التحت أرضية في الهرم الأكبر. التابوت موجود في هرم خفرع ومنقرع، لكن ليس في الهرم الأكبر. في كل حال، يبدو أن الإله الميت يخرج من نعشه، أي مربع بنات نعش، في شهر ميزوري المصري ويذهب إلى «غرفة الملكة» قرب نجمة عناق. وهناك تنعشه عناق، إي إيزيس الشمالية، وتخرجه بشكل ما من موته. لهذا يدعى السها عند العرب أيضاً باسم «نعيش»، أي الذي يُنْعش: «يقال: هو أَخفَى منْ نُعَيْشٍ في بنات نَعْش، وهُوَ السُّهَا أَوْسَط البَنَات» (الزبيدي، تاج العروس).
هذا هو الأمر باختصار شديد ومجحف جداً. وعرض الأمر بوضوح كافٍ كان سيحتاج إلى ثلاثة أو أربعة أضعاف هذه المساحة.

* شاعر فلسطيني