إلى زمن قريب، كان اسم الروائي العراقي الراحل غائب طعمة فرمان (1927 ـــ 1990) ممنوعاً من التداول العلني. ويبدو أنّه لم يكن محبوباً على مدى عقود من قبل مختلف الأنظمة التي كانت وما زالت تتعاقب على كعكة البلد. لكن الالتفات إليه في السنوات الأخيرة، كشف التأثير المفصلي الذي تركه كمؤسس للسرد العراقي بهويته المحلية، وامتداد هذا التأثير نحو المسرح والسينما واللهجة المحكية أيضاً. توزعت محطات حياته ـــ هو المولود في أحد أحياء بغداد القديمة ـــ بين تنقلات عدة شكّلت عجينته الخاصة كإنسان منطو على نفسه، وكسارد خاص طرح أفكاره الأدبية والاجتماعية بطريقة مغايرة. وربما كانت لنقلاته بين بيروت ودمشق والقاهرة بالغ الأثر في بلورة الكثير من أفكاره، وتبنيه أسلوباً مجدداً في السرد الروائي. كان للقائه بنجيب محفوظ، ومناقشاته في لجنة «الأدب الجديد» الذي رعاه «مؤتمر الأدباء العرب» في بلودان السورية وما تمخض عن ذلك من بيان حول التقريب بين المحكية والفصحى (بحدود 1955)، منعطفاً في مسيرته الأدبية، وصياغة أسلوبه المبتكر في السرد العراقي آنذاك. ومن الملاحظ لقارئه أنّ مراحل نضجه كقاصّ وروائي، كانت واضحة المعالم بعد كل مرحلة من مراحل حياته المضطربة بالنفي وحرمان حق المواطنة (سُحبت منه الجنسية العراقية مرّتين متعاقبتين) وانتقاله إلى الصين الشعبية لفترة سبقت استقراره في موسكو لثلاثين عاماً حتى وفاته هناك. مراحل أصدر خلالها أشهر أعماله الروائية وأكثرها تأثيراً، بالإضافة إلى ترجماته للأعمال الأدبية الروسية الرائدة. اللغة الآسرة والبسيطة التي يستخدمها، تشي بملكة لغوية لم تضمر بسبب عوامل الغربة الثقافية التي ناهزت الأربعين عاماً. لغة تتصف بالمرونة وبخيال يشبه كثيراً، في توصيف مشهدياته وبيئاته، عين الكاميرا بكل مؤثراتها وموسيقاها الخلفية. لذا كانت أعماله الروائية مادةً خصبةً ومنهلاً جاهزاً للمسرحيين والسينمائيين على محدودية التجربة السينمائية العراقية المبكرة وقتذاك. على أنّ المحتوى اللغوي الجديد في حوارات أبطاله وهوامش المدينة التي استخدم فيها للمرة الأولى، واقعيةً رائعة بلهجة محكية شديدة التلامس مع المناخات السيكولوجية لشخصياته، أضفت قوة وسحراً على الطبيعة المبتكرة لأسلوبه كسارد منفرد. تغيير «الكيبورد» العربي لصالح اللهجة العراقية المحكية، العصية الفهم والمشحونة بقوّة الصورة والعاطفة والمشهدية التي تقترب من عين كاميرا السينما من حيث حواشيها الدرامية ومؤثراتها، لم تكن مهمة تمتاز بالجرأة فحسب، بل أيضاً بالمغامرة وبلوغ مرحلة من الدرس والتأمل، قادرة على منح الثقة للهجة عامية لأن تكون بديلة عن لغة فصحى مقدسة وذات ثقل ثقافي مضن. ورغم وسطية اللهجة العراقية ووضوح مطلبها أحياناً، لكنك سوف «تستعين بصديق» في بعض الأحيان بالضرورة. هذه اللهجة الممزوجة بكلمات من تركات لغات بابلية وسومرية وآشورية أبت أن تندمج كلياً أو تذوب في فصحى المدن الجديدة الكبرى والثقافات المتعاقبة. يبقى غائب طعمة فرمان عتبةً حتميةً لدراسة تطور السرد العراقي في العصر الحديث، ناهيك بفهم تحولات المجتمع ومناخاته النفسية وقاعه الأكثر تركيباً وعتمة. كتب عنه عبد الرحمن منيف: «لا أعتقد أن كاتباً عراقياً كتب عن بغداد كما كتب غائب، كتب عنها من الداخل في جميع الفصول وفي كل الأوقات، وربما إذا أردنا أن نعود للتعرف إلى أواخر الأربعينيات والخمسينيات لا بد أن نعود إلى ما كتبه غائب».في هذا الملفّ، جمعنا شهادات لأدباء وباحثين ونقاد ومسرحيين عراقيين ممن جايلوا غائب أو تأثروا بتركته الكبيرة لاحقاً، ليبسطوا الحديث حول تجربته كل بحسب وجهة نظره وطبيعة تأثراته وقراءته.

الرواية التي ستبقى أمد الدهر

خضير فليح الزيدي *
قبل عشر سنين أو أكثر قليلاً، لم تول مراكز البحث الثقافي في العراق – على قلّتها- والمهتمون بالتراث الأدبي، اهتماماً موسعاً بأصحاب الريادة كما يحصل في مصر أو لبنان أو البلدان التي تحترم أدباءها الراحلين، ولم تؤشر على نطاق واسع عبقرية الكاتب العراقي والروائي الفذ غائب طعمة فرمان إلا ما ندر.
غائب العراقي الذي ولد في بغداد، وتوفي في صقيع موسكو، أحب بغداد الأزقة والدرابين والحارات، بل شغف بها حدّ الوله والهيام، مما انعكس على معظم سردياته. لكني ككاتب عراقي كنت أبحث عما كان مخفياً من حياته الاجتماعية وتمثلات ثقافته الأولى في معظم رواياته، من رواية «النخلة والجيران» حتى «خمسة أصوات» أو «القربان» أو «آلام السيد معروف» وغيرها. أجزم هنا أن فرمان كان يعرف تماماً أنه يكتب الرواية الطليعية، التي ستبقى إلى أمد الدهر، كعلامة عظيمة ورائدة في مجمل النتاج العراقي والعربي في الآداب الخالدة. تلك المعرفة جعلته يشق طريقاً مختلفاً عن مجايليه كفؤاد التكرلي، وعبد الملك نوري. كذلك مما يؤشر إلى حياته الاجتماعية أنه من عائلة فقيرة وكادحة تنحدر من حي المربعة البغدادي الذي تشكّل على نسيج مجتمعي متنوع. كذلك، يعرف عنه أنه كان قليل الاختلاط، لكنه يهتم كثيراً بظاهرة الرصد الميداني للظواهر المجتمعية، ولم يكن متمرداً على الواقع أو السلطة في حياته لكنه يرفض الظلم، وقد انغمس في حركة اليسار العراقي. وعندما ضاقت حلقة المضايقات السلطوية، هاجر وفي رصيده أكثر من رواية عراقية.

لا يخفى انحياز فرمان للطبقات المسحوقة المتبناة ضمن وعيه الفكري والسياسي

فرمان هو نجيب محفوظ العراق. كتب عنه مرة جبرا إبراهيم جبرا في إحدى إشاراته النقدية المهمة بأن فرمان يركّب الواقع تركيباً مدهشاً كما في رواية «النخلة والجيران»، ولم يقل عنه أنّه ينتمي لتيار الواقعية الاشتراكية كما كان شائعاً آنذاك.
ما زلت أعمل على رواية عراقية بطلها غائب طعمة فرمان، رواية تقترب في أسلوبها من معظم سردياته لشغفي بعبقريته وبريادته التي أذهلت المتتبعين لمسيرة الرواية العراقية المتعثرة من بعده.
رغم ميوله اليسارية، إلا أنّنا لا نعثر على إشارة إلى شغفه بالحركة الشيوعية في أعماله التسعة، لكنه في المقابل كان متحرّراً من ثقل الأيديولوجيا أثناء الكتابة، مع العلم أن بعضها ينعكس بظلاله على ما ذكرت. ومما يُذكر من مجايليه أنّه كان شديد الاكتئاب ولا يقيم علاقات إلا مع قلّة من الكتاب. وحين يجلس في مقهى «البرازيلي» ذائع الصيت في بغداد، كانت مائدته تختصر على القاص عبد الملك نوري، وفؤاد التكرلي وإدمون صبري. كانت المائدة عامرة كل يوم، وفيها الوقت المخصّص لمراجعة الصفحات الثقافية للصحف اليومية، ومن ثم يتم تداول القصة والرواية وطرق الكتابة الشائعة آنذاك. هو قرأ نجيب محفوظ، لكن الأخير لم يقرأ روايات غائب طعمة فرمان.
في أحد الأيام، زرت الهيكل المتداعي لمنزل فرمان، وقمت بتصويره ونشره على صفحتي الشخصية، وقد وجدت تجاوباً هائلاً من المتابعين للمنزل الذي ألهم الرجل هذا الإبداع في روايته «النخلة والجيران» وتحت عنوان لافت في حينها «بيت فرمان_ لا نخلة ولا جيران»، إذ هاجر معظم سكان حي المربعة خارج المنطقة وتحولت إلى منطقة صناعية وتجارية ومخازن للأدوات الاحتياطية, وبذلك فقد الحي الملهم الأول للكاتب، نكهة المنزل/ الأيقونة. لكن ما حصل أن المستثمر هدم كامل البيت كي يتخلص من هاجسه من أن السلطة ستحوّله بيتاً تراثياً، وإن كان ذلك لن يحصل إلا في الأحلام. لكن جذر النخلة بقي في مكانه مع جهود آلة «البلدوزر» العملاقة التي سوّت البيت بالأرض.
* روائي عراقي

نخلة وارفة الظلال

عبد الرزاق الربيعي *
شاهدت رواية الكاتب غائب طعمة فرمان «النخلة والجيران» (1966)، مجسّدة على المسرح عندما أعدّها وأخرجها الراحل قاسم محمد، قبل أن أقرأها. أمر تكرّر مع روايته «خمسة أصوات» (1967) التي تحولت إلى فيلم باسم «المنعطف» أخرجه الراحل جعفر علي، وعرض 1975 ومثّله: يوسف العاني، وسامي عبد الحميد، وزكية خليفة، وعبد الجبار عباس، وعبد الجبار كاظم، وسمر محمد، وطعمة التميمي، وسميرة أسعد. ورغم أن الكثير من جماليات وعناصر الفن الروائي تضيع في الطريق إلى السينما والمسرح حين ينتقل النص الروائي من بيئته الورقية القائمة على الكلمات، والمجازات، إلى بيئة بصرية، تتشارك فيها الصورة، والموسيقى، والصوت في رسم المشهد، وقد يجيز المخرج والمعدّ لنفسه حذف شخصية من الشخصيات أو مزج شخصيتين في شخصية واحدة، أو إضافة شخصية يجدها المخرج ضرورية، لكن تبقى الروح والخطوط العامة، والشخصيات التي تتحرك على خشبة المسرح أو الشاشة، تلك الروح هي ما ميّز أعمال غائب طعمة فرمان.
بقيت شخصيات «النخلة والجيران» الهامشية التي كثيراً ما كانت تعيش بيننا، محفورةً في ذاكرتنا، بكلّ إحباطاتها التي صنعت صراعات من واقع أليم أفرزتها، رغم أنها تتحدث عن فترة الأربعينيات إبان الحرب العالمية الثانية وما رافقتها من إفرازات انعكست على المجتمع الذي كان يرزح تحت وطأة الوصاية الإنكليزية. وقد رمز بكل ذلك لموت النخلة الوحيدة، في البيت، التي تحيط بها المياه القذرة «التي تلقى في حوضها ويمر الصيف والشتاء من دون أن تحمل طلعاً»، فبدت مخيفة رغم ارتباطها بماضي «سليمة الخبازة» الجميل، لكنها تجد فيها معادلاً لنفسها الحزينة، البائسة. وبهذا المدخل، يسلّط الكاتب الضوء على شريحة تعيش واقعاً مرّاً، فهي شخصيات يائسة، فاقدة للأمل، تتحرك ضمن دوائر مغلقة، تتجسد في شريحة من المجتمع تتأرجح بين واقعين: واقع يزول تدريجاً، بعد انتشار خبر بيع ولدها حسين للبيت، وتوقّع قطع النخلة العاقر، ليتمّ اجتثاث الماضي، الذي تلوذ به شخصيات الرواية، لتقع فريسة لخوف من التغيرات التي تعصف بالمجتمع البغدادي، وواقع غامض.
ولأن الرواية كتبت باللهجة المحلية الدراجة، كان تحويلها إلى عمل مسرحي شعبي، أكثر يسراً، وطغت الكوميديا التي يمكن أن تندرج ضمن الكوميديا السوداء، على العرض الذي قدمته «فرقة المسرح الفني الحديث»، بعد اطلاع الكاتب غائب طعمة فرمان على النص الذي أعده المخرج قاسم محمد العائد يومها من موسكو، محمّلاً بالكثير من الأحلام والمشاريع، فوجد ضالته في رواية «النخلة والجيران». بل إنّ المخرج عرض على المؤلف صور أبطال المسرحية لإبداء الرأي، كأنه يسعى إلى مطابقة أشكال أبطال المسرحية لشخصيات الرواية المرسومة في مخيلة المؤلف.
أدى الفنان الراحل يوسف العاني، أحد أبطال المسرحية، دور «العربنجي» إلى جانب: سامي عبد الحميد، وخليل شوقي، وناهدة الرماح، وزينب، وكريم عواد وفاضل السوداني، وسليمة خضير، ومقداد عبد الرضا، وزكية خليفة، وعبد الجبار عباس، وأزدوهي صومئيل، وتماضر عبد الوهاب، في أول مشاركة لها مع الوجه الجديد آنذاك الفنان فاضل خليل، إلى جانب عدد من الفنانين. وفي مقال له حول هذه التجربة، يقول العاني إنّ المؤلف أجرى تعديلات طفيفة على النص «حرصاً على إبقاء النكهة العراقية الصميمة في كل مشهد من مشاهد المسرحية، وتأكيداً على أهمية البناء الدرامي الذي لا بد من أن يظل على نموه، وصعوده في المسرح».
وقد نجحت نجاحاً باهراً على المسرح، حين عرضت في كرادة مريم في بغداد عام 1969، وقام بتصميم ديكورات العرض الفنان كاظم حيدر. حتى إنّ العرض استمر لأكثر من ثلاثة شهور، فزاد من شهرة الرواية التي عدّت ضمن أهم الروايات العربية.
* شاعر عراقي

الذاكرة الشعبية

ريسان الخزعلي *
أصدر غائب طعمة فرمان ثماني روايات هي: «النخلة والجيران»، و«المخاض»، و«القربان»، و«آلام السيد معروف»، و«المركب»، و«المرتجى والمؤمل»، و«ظلال على النافذة»، و«خمسة أصوات». وأصدر أيضاً مجموعتين قصصيتين هما: «مولود آخر» و«حصاد الرحى». وصفت «النخلة والجيران» بأنها الرواية التجديدية في مشهد السرد الروائي العراقي تبعاً لرصدها الواقع العراقي بواقعية اجتماعية فنية. ومما أثار الانتباه إلى هذه الرواية، الحوارات التي استخدمت اللهجة الشعبية العراقية، وكذلك الشخصيات الشعبية، مما جعلها أن تكون مهيأة لعمل درامي كبير، تابعه الشعب العراقي بكل إنصات، وما زال يستعيده حتى يومنا هذا. كما أنّ روايته «خمسة أصوات» هي الأخرى قد تحوّلت إلى فيلم سينمائي بعنوان «المنعطف» لما احتوته من كشف للحياة اليومية الشعبية لمثقفين عراقيين.
إنَّ استخدام اللهجة الشعبية في رواية «النخلة والجيران» كان الأوسع مقارنةً بالروايات الأخرى. ومثل هذا الاستخدام جاء لضروراته الفنية/ الجمالية/ الاجتماعية. فالروائي يكتب عن الحياة الاجتماعية المتراكمة في قاع المجتمع، بخاصة حياة الطبقات المسحوقة. من هنا كانت انتباهته للهجة الشعبية انتباهةً بارعةً، إذ ليس من المنطقي أن يجعل شخوصه الشعبيين يتحدثون بالفصحى، ولو جعلهم هكذا لفقدت الرواية مناخها الشعبي العام المخطط له بإتقان ودراية. ولا يخفى كذلك انحياز فرمان للطبقات الشعبية المسحوقة المتبناة ضمن وعيه الفكري/ السياسي. هكذا حقق تواشجاً طبقياً/ فكرياً/ لغويّاً في هذه الرواية باستحضاره الذاكرة الشعبية من خلال لغتها/ لهجتها/ مكاناتها/ دلالتها/ إيقاعها النفسي وتعارضات ناسها الحياتية. وبذلك منح الرواية وقعاً شعبياً طاغياً يستهوي العامة والمتعلمين على السواء. كما أثبت أنَّ اللهجة الشعبية هي الاشتباك الحقيقي مع أعصاب الناس، لما تحمله من دلالات إيحائية قد لا تتوافر عليها الفصحى عندما يكون الحديث عن طبقات قاع المجتمع المسحوقة. ولا يخفى كذلك، إنّ التصعيد الدرامي في الرواية جاء نتيجةً للحوارات الشعبية، وإن توافرت على كل مقوّمات العمل الروائي الريادي. كما يُحسب للروائي استذكاره اللهجة الشعبية وهو بعيد عن مواطنها، مما يُدلل على قوّة تفاعله معها وانبهاره بطاقتها على التوصيل. وبذلك يصح القول بأنّ فرمان، روائي بذاكرة شعبية يقظة.
* شاعر عراقي وباحث في الأدب الشعبي

تحوّلات المسرح العراقي

كاظم نصار *
كقراءة شخصية ومن دون الاستناد إلى مصادر، أظنّ أن هناك ثلاثة تحولات مفصلية في مسيرة المسرح العراقي المعاصر وما عداها تحولات بينية وتيار أسلوبي. التحول الأول عندما سادت ثقافة الأداء المسرحي التي كان معلمها الأول الراحل حقي الشبلي وقد كانت من دون منهجية صارمة. وهنا جاء الراحل جاسم العبودي ومعه منهجية ستانسلافسكي في تدريب الممثل ومنهجية الأداء وأشاع ودرّس وعلّم التقمص والعمل مع النص وعمل الممثل على نفسه ومع الدور المسند إليه. وهو في جوهره صراع مدارس، فمرجعية حقي الشبلي مستقاة من مصر ثم فرنسا. أما العبودي فهو نتاج الـ «غودمان ثياتر» في أميركا، فأحدث العبودي هذا التحول في نمط الأداء ومن ثم في نمط العروض وشكلها ومضمونها وأنساقها.
لكن التحول المفصلي الأهمّ هو في عام 1969 عندما استلّ المخرج قاسم محمد رواية «النخلة والجيران» لمؤلفها غائب طعمة فرمان، وهي رواية مُلهمة اعتُبرت من بين أفضل الروايات العربية التي تستعرض حياة الناس في الأحياء الشعبية، فقدمها مسرحياً. وبهذا، فتح الباب أمام المدرسة الروسية لتنافس هيمنة المدرستين البريطانية والأميركية، فنقل أيضاً الشخصيات من عطيل ولير ولوباخن وفاريا إلى سليمة الخبازة وعبود البايسكلجي والحفافة وأبو قنبورة وهكذا في تحول فريد أضفى على هذه الرواية علامةً تحوليةً في نسق النصوص الأجنبية والعروض العراقية، وظلّ هذا سائداً حتى وقت طويل. أما التحول الثالث، فهو في منتصف الثمانينيات حين عاد من أوروبا الشرقية أساتذة أمثال صلاح القصب، وفاضل خليل، وعقيل مهدي، فأحدثوا تحولاً جديداً باتجاه ثقافة عرض جديد يتحدث عن منظومة جمالية سمعية وبصرية، وعن وعي إخراجي مبتكر وجديد، فراح صلاح القصب يشكل عروض وبيانات مسرح الصورة، وشكّل فاضل خليل الأسطورة والشعرية، وعقيل مهدي مسرح السيرة، وعوني كرومي القادم من ألمانيا أشاع عروضاً متنوعة. وأظنّ أنّ بقية التحولات بينية وتبارٍ أسلوبي وتتدرج ضمن هذه المدارس التي شكلت هذا الوعي الإخراجي والعرضي العراقي.
* مخرج مسرحي عراقي

تأسيس مشروع الحداثة السردية

فاضل ثامر *
يعد الروائي الراحل غائب طعمة فرمان أحد الرموز الثقافية الكبيرة التي دشّنت مشروع الحداثة الروائية من خلال روايته الرائدة «النخلة والجيران» التي أعقبها برواية «خمسة أصوات». صدرت الرواية الأولى عام 1966، والثانية عام 1967. وليس معنى هذا أنّ الرواية الحديثة لم تدخل العراق قبل هذا التاريخ، فقد عرفت الثقافة العراقية الرواية الحديثة منذ مطلع القرن العشرين وبالذات منذ مطلع العشرينيات من خلال رواية «جلال خالد» للروائي العراقي محمود أحمد السيد. أعقبتها مجموعة تجارب لذنون أيوب، وعبد الحق فاضل، وعبد المجيد لطفي، وجعفر الخليلي، لكنها لم تتجاوز عتبة البدايات البسيطة في العمل الروائي. يمكن أن نقول إنّ التجديدات التي دخلت الكتابة القصصية والسردية التي دشنتها تجربة التكرلي وعبد الملك نوري في نهاية عقد الأربعينيات، قد شكلت عنصراً مهماً وأساسياً في خلق حساسية ثقافية وفنية جديدة تعتمد كثيراً على أسلوب الكتابة الحديثة، منها توظيف المونولوج الداخلي ومحاولة أسلبة حوار الشخصيات من خلال اعتماد الكلام المحكي في هذا المجال. وهكذا استطاع غائب طعمة أن يؤسس على هذه الأرضية العراقية إذا جاز التعبير، بالإضافة إلى إفادته إلى حد ما من الروائي نجيب محفوظ. إذ قدم فرمان تجارب تتضح فيها هذه الأرضية وهذه التأثرات. لكنّ هذا لا يعني أنّه كان مستلباً بهذه التأثرات، بل بالعكس، فأنا اعتبره مجدداً بدءاً من روايته «ظلال على النافذة» وهي عمل يتمتع بخصوصية واضحة. أما رواياته اللاحقة التي كتبها تحت إيقاع المنفى المؤلم، فكانت فعلاً مؤثرة. استطاع غائب تطوير لغة سردية وقصصية مناسبة لحركة الأحداث والشخصيات تبتعد عن اللغة الصحافية والأسلوب البلاغي التقليدي في الوقت نفسه، لأنّها أصبحت لغة حداثية ويومية أيضاً. بنيات الروائي غائب طعمة هي بنيات درامية وصراعية وبنيات مسرحية متكاملة، بحيث أنّ عملية التحويل للصياغة المسرحية ميسرة مثلما وجدنا كيف تحولت «النخلة والجيران» إلى عمل مسرحي ناجح وموفق من خلال عرض قدمته «فرقة المسرح الفني الحديث» في العراق. لنقل إنّ غائب طعمة فرمان تجربة خصبة ومهمة في مسار التطور الروائي، وضع اللبنات الأساسية التي ساعدت لاحقاً على إنضاج تجارب كبيرة مثل تجربة فؤاد التكرلي في رواية «الرجع البعيد». تجارب غائب اتسمت في وقت باكر باحتوائها على تعدد صوتي أي بنية بوليفونية، أي أنّ الشخصيات تحاول أن تعبّر عن منظوراتها الفكرية والحياتية والرؤيوية والسياسية دونما تدخل من قبل المؤلف أو من قبل ذات المؤلف الثانية، فكانت إيذاناً مهماً بهذا التأثير المباشر للرواية البوليفونية، وابتعدت عن أحادية الصوت أو المونولوجية. غائب شخص ملتزم اجتماعياً، لكنه لا يقحم تصوراته ولا يفرضها على شخصياته، بل يمنحها حرية أن تفكّر وتعبّر عن وجهات نظرها ورغباتها. ففي روايته «المخاض»، هناك محاولة للترميز العميق أو ما يمكن أن نسمّيه الترميز المتوازي حيث البطل الذي عاد إلى العراق بعد غربة طويلة يبحث عن أسرته التي انتقلت إلى مكان مجهول وفقد الاتصال بها. هذا في واقع أعقب أحداث ثورة 14 تموز مباشرة وسط حالة من القلق السياسي الذي تسيد المشهد، فضلاً عن الصراع السياسي المعروف بين اليسار واليمين ووسط حالات التذبذب والتمرد. إذ برز بحث عن حلّ آخر ربما مثلته الشخصية الثانوية في الرواية (عبد الصمد) للخروج من هذا المأزق الذي أعقب الثورة ولم يستطع أن يواصل مشروع التغيير الثوري والاجتماعي حينذاك حيث انتهى الأمر بانقلاب اليمين وسيطرته على البلاد. كانت عملية البحث في الرواية، تتوازى والقلق الناجم عن عدم وضوح الرؤية لإيجاد بديل التغيير. لذلك مثلما عجز البطل عن العثور على أسرته في نهاية المطاف، بقي مشهد الصراع مفتوحاً على تأويلات كثيرة في المجال. كان غائب نقطة شروع في تحديث الرواية وإدخالها في مشروع العصر الحداثي الذي وجد ضالته لاحقاً في تجارب السبعينيات والثمانينيات ومطلع الألفية الثالثة عندما ظهر جيل كبير من الروائيين العراقيين ممن أصبحوا ينافسون الروائيين العرب وروائيي المنطقة في تحقيق إنجازات على مستوى الرؤية والأسلوب والسرد والبنيات الداخلية.

* ناقد عراقي


مقتطف من رواية «النخلة والجيران»
كانت مسترسلة في حلمها، حين خُيّل اليها أنّها تسمع طرقاً على الباب. فتحت عينيها وحملقت في سحابة من الظلمة نحوالباب البعيد على يسارها. انصتت وهي مسترخية لمّا تزل. كان الباب يُطرق فعلاً. ودهشت. من النادر أن يطرق انسان بابها في الليل. وكان الطرق واضحاً ردّ عليه قلبها بدقات سريعة. فنهضت وحملت الفانوس الى الباب. وتريثت حتى سمعت الطرق مرة أخرى، ونداء غريباً.
-سليمة خاتون!
فتحت فمها خلف الباب، استغراباً وخوفاً، وارتبكت لا تعرف ماذا تقول له. من الذي ينعم عليها بهذا اللقب، وياتيها في مثل هذا الوقت؟ كان القادم الجديد عنوداً واصل الطرق ومناداتها حتى خافت ان يسمع الجيران، قالت بصوت ضعيف:
-عيني.. منو انت؟
-سليمة خاتون.. آني مصطفى!
مصطفى؟ حاولت ان تتذكر، بدا الاسم مألوفاً، لكنها لم تستطع أن تعرفه بالضبط. والآن لا محيص من فتح الباب. ورأت ازاءها شبح رجل طويل القامة بادرها بالقول:
-الله يمسّيج بالخير
-هلا عيني هلا
رفعت الفانوس قليلاً فكشف الضوء النحاسي عن هيأة الرجل كلها. افندي نحيل فوق رأسه الصغير سدارة، وفي يده مسبحة. لم يتركها تفكر، بل عاجلها بالسؤال عن صحتها في ملاطفة، وكأنما يعرفها منذ زمن بعيد. ثم قال معتذراً:
-سليمة خاتون.. ترى آني مقصّر!
-مقصّر؟ قالت في صوت هامس
-إي والله مقصر، لكن متعرفين شكد متألم. واحد اش يتذكر؟ اللسان اللي مثل الشكر، لو القلب اللي مثل الجمّار؟ الله يرحمك أبو حسين برحمته الواسعة.
نظرت في عينيه الصغيرتين، وحاولت أن تتذكره. وكأنه حدس ذلك فهزّ رأسه في لوعة.
-اذكر لما جنت اجي ويه عليوي.. شلون مداراة؟ ويوم الأربعين؟
الآن تذكرت، ولولا الحياء لسألت.. عيني مو انت مصطفى الدلال؟
-تصدكين.. بداحي باب خيبر؟ كلما أمر من البيت قلبي ينعصر. ما اكدر اعاين عالباب.
-الله يسلم قلبك. قالت في شيء من الاطمئنان. وارتخت يدها وهي تحمل الفانوس، فحوّلته الى اليد الأخرى. ومع تغيّر الضوء، رأت رقبته الطويلة الهزيلة وحنجرته الناتئة. وعاد الرجل يقول:
- واحد اش ينسى؟ وهزّ رأسه ثانية، وأطرق صامتاً. فقالت له منفعة بمجاملتها:
- تجي نكعد شوية؟ أنت موغريب
-خمس دقايق-كانت على لسانه- تركت أصدقائي بالكهوة، وكلت أمر على أم حسين.
صحبته عبر الحوش، ووضعت الفانوس على التنور، وفرشت له مندراً على ظهر الجاون فجلس، وبركت هي على بعد خطوات منه، ملفوفة بعباءتها الصوفية. وبعد أن استقر في جلسته سألها:
-وصحتج شلونها؟
-الله يسلم صحتك.
-وحسين شلونه.. بعده بالمدرسة؟
-من زمان بطّل.
-المدرسة متوكّل خبز
- ينرادلها جيس جبير
- والخبز شلونه؟
- شالع قلبي
-اكيد.. صحيح.
وصمت مديراً بصره في أرجاء البيت. كان الظلام يكتنفه من كل جانب. الا أنّه قال:
- البيت بعده مثل ما كان!
- شيتغيّر منّه؟
-لا، قصدي تعمير.. ترميم!
-وإلويش.. وإلمن؟ اشو حسين كاعد بغرفة تضم عيلة، وهاي الحجرة فارغة..واش...
وامسكت لسانها قبل أن تتم جملتها مخافة أن تقول شيئاً غير لائق. وانكمشت في صمتها. وقال مصطفى مؤيدأ:
-ومن يستر يسوي شي والدنيا حرب؟ وكل شي بالنار.
قالت:
-هي حرب لو بلاء اسود
قال وهو يسبح بمسبحته
-الحرب بلاء من الله
قالت باستسلامها الموروث:
-إرادته!