ورد في «سورة البقرة» تعبير غامض جداً أثار الجدل طوال قرون عديدة، وهو: فصرّهن إليك: «وإذ قال إبراهيم: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً» (البقرة 260). والاتجاه العام أن كلمة «صرّهن»، تعني: أملهن أو اجمعهن إن كانت بضم الصاد (صُرّهنّ)، أو قطّعهن إن كانت بكسرها (صِرّهنّ): «فصُرْهُنَّ إليكَ، قال: فسروه كلُّهم فصُرهُنَّ: أَمِلْهُنَّ، قال: وأَما فصِرهُنَّ، بالكسر، فإنه فُسِّر بمعنى: قَطِّعْهُنَّ، قال [الأزهري في التهذيب]: ولم نجد قَطِّعْهُنَّ معروفة» (لسان العرب). يضيف اللسان: «وكلهم فسروا فصُرهن أمِلْهن، وبالكسر فسّر بمعنى قطّعهن، قال الزجاج: قال أهل اللغة معنى صرهن إليك أملهن واجمعهن إليك» (لسان العرب).

بريندا زلاماني ـــ «طير» (زيت على خشب ـــــ 30.5 × 30.5 سنتم ــــ 2016)

هذا هو مختصر النقاش حول الجملة الملغزة. وكما نرى، فالمعنى العام للآية واضح. فهناك طيور تُقتل بشكل ما، وتُفرّق على الجبال، ثم تُعاد حية بأمر الله كي يطمئن إبراهيم. لكن ما هو غير واضح إنما هو المعنى الدقيق لجملة «فصرهن إليك». ويبدو لي أنّ جعل «صرهن» بمعنى قطّعهن نبع من وجود كلمة «جزءاً». إذا افترض أنّ الجزء هنا تشير إلى التقطيع إلى أجزاء. لكن، وكما رأينا من الأزهري أعلاه، فهناك تشكيك في أن «صرهن» تعني قطّعهن «ولم نجد قطّعهن معروفة». بذا، يمكن لي أن أقترح أن معنى التقطيع في الجذر «صرر» ابتدع من أجل تفسير الآية لا غير. فمن الواضح أن الآية تتحدث عن تقطيع الطيور، لذا كان لا بد لـ «صرّهن» أن تعني: قطعهن، حتى لو كان الجذر لا يعطي هذا المعنى. لكن أخذ الكلمة بهذا المعنى، يتعارض بقوة مع التقطيع. فكيف يمكن لإبراهيم أن يقطعهن إليه؟ ولماذا يقطعهن إليه؟
بالتالي، فكلمة «إليك» تنقض هذا التفسير. عليه، فإن اقتراح التقطيع خلق مشكلة أخرى هي كلمة «إليك».
وإذا أسقطنا احتمال التقطيع كما فُهم، يظل أمامنا احتمالان حسب المفسرين: اجمعن وأملهن. وفكرة الجمع لا تبدو مناسبة بالمرة. فإبراهيم أخذ الطيور الأربعة بين يديه، أي أنه جمعهن في الواقع. فلماذا عليه إذن أن يجمعهن ثانية؟ كذلك، فإن «أملهن» لا تبدو مناسبة. فكيف يميلهن إليه، وهن بين يديه، ويمسكهن من أرجلهن أو أجنحتهن في ما نفترض؟ والحقيقة أن فكرة الإمالة نابعة من الوجود المربك لكلمة «إليك». فهي لا تتوافق مع القتل والتقطيع، كما بيّنا أعلاه. إذ لا ينفع أن نقول: قطّعهن إليك، أو اقتلهن إليك. ومن هنا برزت الحاجة إلى الإمالة (أملهن إليك)، التي تزيد الأمور إبهاماً بدل أن توضحها.
بذا، فلدينا عقدتان اثنتان وليس عقدة واحدة في جملة فصرهن إليك: هما «صرهن» و«إليك». وعلينا أن نجد لكل منهما تخريجة كي نفهم طقس الطيور الأربعة في الآية. وقد حاول جيمس بيلامي أن يحل عقدة «إليك»، فاقترح أنها في الأصل «لبك»، بمعنى خلط، وأن الناسخ قرأها خطأ «إليك»، مضيفاً إليها الألف. بالتالي، فإبراهيم قطّع الطيور وخلط أجزاءهن جزءاً من هذا الخليط على جبل. لكن هذا اقتراح غير مناسب. فإذا كان الصر يعني التقطيع، فلا يجوز أن نقول: صرهن لبكاً. ذلك أن لبكاً تكون حالاً. ولا يجوز أن نقول قطّعهن خلطاً. المفروض أن يقال: قطعهن واخلطن خلط. أي: فصرّهن ولبّكهن لبكاً. عليه، فاقتراح بيلامي غير مناسب.

البكّ وليس إليك
أما أنا، فسأبدأ بكلمة «إليك». ذلك أن حلّ أمرها سيفتح الباب لحل أمر «فصرّهن». لكن قبل أن أقدّم حلّي، عليّ أن أذكّر بأن القرآن كان في البدء غير منقوط. بذا، فحرف الياء في «إليك» يمكن أن يُقرأ باء أو تاء أو ثاء أو نوناً. وأنا أقترح أنه يجب أن يُقرأ باء لا ياء. أي أننا مع «البكّ» لا مع «إليك». والبّكّ يعني كسر العنق، كما يعني التفريق والتخرق والزحم: «البَكُّ: دق العنق. بَكَّ الشيءَ يَبُكُّه بَكاً: خرقه أو فرقه. وبَكَّ فلان يَبُكُّ بَكَّةً أي زحم» (لسان العرب). يزيد القرطبي: «والبك: دق العنق. وقيل: سميت [مكة بكة] بذلك لأنها كانت تدق رقاب الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم» (تفسير القرطبي).
ومن بين هذه المعاني، يبدو لي أنّ كسر العنق هو ما يتوافق مع معنى الآية. فالطيور «بُكّتْ» أعناقها، أي قُتلت بكسر أعناقها وقطعها في ما يبدو. وطقس القتل بكّاً، أي بكسر العنق، ليس مجهولاً، بل نحن نعرفه من التوراة: «ولكن كل بكر حمار تفديه بشاه. وإن لم تفده فتكسر عنقه» (خروج 13:13). وهكذا يفدى بكر الحمار من الموت بشاة، مثله مثل الإنسان، لكن إن لم يفد بشاه، فإنه يقتل بطريقة خاصة، هي بكّ العنق، أي كسره.
المعنى العام للآية واضح. هناك طيور تقتل بشكل ما، وتُفرق على الجبال، ثم تُعاد حية بأمر الله


إذا صح هذا، فهو يستتبع أن «فصرّهن» يجب أن تعني اقتلهن، امتهن. والمشكلة أنّ أياً من القواميس، لم تقل لنا أن «الصرّ» يعني القتل والإماتة هكذا مباشرة. كما أن هناك من شكك بقوة في أن الصر يعني التقطيع، كما رأينا أعلاه.
بناء على هذا، فاقتراحي يقوم على أنّ تصحيفاً بسيطاً حصل في «فصرهن». فقد كانت هناك باء حُذفت وأضيعت. بذا فالآية تقول في الأصل: «فصَرِّبْهُنّ البكّ». و«الصرب هو القطع: والصرب: الكسب... وهو القطع أيضاً» (الصاحب بن عباد، المحيط في اللغة). بذا، فالفعل صرب مثل الفعل صرم الذي يعني القطع: «والصرم مثل الصرب» (الزبيدي تاج العروس). يضيف الزبيدي: «صرب بمعنى صرم، بالميم، أي قطع».
بذا فالآية تقول: فصرّبهن، أي الطيور، تصريب البكّ، أي: صرّبهن بكّا. وهو ما يعني اقطع أعناقهن بطريقة البكّ، أو اقطع أعناقهن بكّا، أي عبر دق أعناقهن وكسرها. وهذا يعني في النهاية أمتهن، أو اقتلهن، بكّاً.
بذا فضياع الباء هو الذي أدى إلى كل هذا الغموض والتشوّش في الآية. وحين نقرأ «إليك» على أنها «البكّ» و«فصرّهن» على أنها «فصربهن»، فإن الغموض والتشوش يزولان، ويصبح للآية معنى واضح. كذلك، فإن هذا يمكن أن يوضح سبب وجود كلمة «جزءاً» في الآية. إذا أن كل طائر يُقطع إلى قطعتين: رأسه وعنقه التي فُصلت عنه. الجسد يوضع على جبل، والعنق على جبل، ثم يلتحمان معاً بإرادة الله، فتعود الطيور سعياً.

* شاعر فلسطيني