السلطة والرقابة والنصّ، فوبيا الغنائم الثقافية، سرديات السلطة وضحايا المعجم، خديعة السرد أم موت التاريخ؟ أوهام المثقّف المدحور، كورونا وموت اللغة، مثقفو الوصايا وأوهام التاريخ، ترويض الثقافة وأسئلة الاستبداد، استعمالات القراءة. فهرست ضخم لعناوين يطرحها علي حسن الفوّاز في كتابه «مقاربات في السؤال الثقافي: الآخر والسلطة والهوية والأيديولوجيا» (دار نينوى). لن نجد بؤرة مركزية تجمع هذه الأنساق المختلفة، ذلك أن هذه العناوين هي حصيلة سجالات خاضها الناقد العراقي على خلفية التحولات التي أصابت المشهد الثقافي الراهن، كما أنها «تمرين على المواجهة والاحتجاج»، ورغبة في تدوين الوجود بقصد تأسيس منظومة رمزية مستقلّة تنزع «للتشطيب» على مستوى المغايرة والمغامرة وحفظ الأثر. أسئلة تسعى إلى خلخلة الراكد، وفضح منظومة السلطة التي تعمل على «احتكار النصوص»، وإقامة الحدّ على المختلف، وتالياً «تعطيل إرادة الاجتهاد والتأويل الثقافي في قراءة أي نصّ» بفعلَي المراقبة والمعاقبة وفقاً لما يقوله ميشال فوكو، وصولاً إلى الطاعة والإخضاع وخطاب العنف.

في مواجهة هذه المتاريس، يدعو صاحب «سرديات الأثَر البصري» إلى تفعيل غريزة النقد لتقويض «حضور العائم» والسكنى إلى خطاب تبريري، سيؤدي بالضرورة إلى نشوء مركزيات أكثر عنفاً في تمرير الأوهام وخطاب الهذيان والكراهية والخديعة، وتعويم سياسة المحو «بحرق المتاحف والذاكرة والآثار، وتحويل طريق الحرير إلى طريق للصوص، أو للدبابات». ويشير إلى أن مرحلة ما بعد «الربيع العربي» تحمل خطاباً سوداوياً، وإشهاراً عن عودة الدولة الرعوية، واستعادة رمزية الخليفة، وتوجيه القوة، خطاباً «لا نشمّ فيه رائحة الثورة بالمعنى الفلسفي والقيمي، ولا أي حساسية للمستقبل، وللتقدّم، ولفكرة المدنية، ولا حتى لفكرة الدولة الديمقراطية التي تقبل بالتعدد والتنوّع والتعايش تحت لافتة قيم المواطنة».
وبسطوة هيمنة تاريخ طويل من الرعب السياسي، تحوّلت الثقافة العربية إلى صناعة مركزية عن طريق تدوين فقهاء السلطة في مواجهة سرديات المتخيّل الضدّي المختلف، ما أخضعها إلى أحكام تعسفية، وبدت «ضيافة المختلف» ضرباً من المستحيل، فوجد المثقف نفسه خاضعاً لكل مرجعيات اللاوعي الجمعي لمركزيات الصراع ولسردياتها الكبرى، وكذلك متورطاً «بالصعود إلى العربة التي تقلّ الطائفي والقومي الشوفيني والتكفيري». وإذا بالحوار يتأسّس على حرب أخرى، مثلما يجعل ضيافة المختلف كأنها «ضيافة لحيوان مفترس». ويتجلى الاختلاف بوضوح في تفسير سلطة النصّ لا تأويله، تبعاً لسياق تاريخي متراكم، فالتفسير حسبما يرى هذا الناقد الرصين «سيكون غنيمة للجماعة»، بينما يعمل التأويل على إنتاج نصّ آخر مضاد سيؤثر على فاعلية التصرّف الظاهري بالنصّ الأصلي. فههنا غنيمة إيديولوجية وعصابية أسهمت عملياً في صعود الأصوليات الجهادية والإيديولوجية، كتعبير عن فشل الدولة المستبدة حزبياً وعسكرياً، من دون أن تحقق المدنية. لكن ما موقع المثقف من لعبة الغنائم؟ يجيب: «المثقف العربي هو كائن الأمة المطرود، إذ ظل خارج لعبة الغنائم. ورغم إمكانية تطويعه من قبل السلطة أو قتله ومحوه، لكنه ظلّ كائناً يلتذّ بعزلته تماماً». ويستدرك بأن هناك محاولات لتوريطه في متاهة التابعية، وبغواية لذة اللعبة القديمة «لعبة المثقف الفحل، أو بوق القبيلة، أو فقيهها الأعمى، أو صاحب السدارة والأفندي في سياقها المديني». وسوف تتناسل أكثر من صورة للمثقف بدءاً من المثقف العضوي إلى مثقف الإشاعة، ومثقف الإيديولوجيا، والمثقف المخاتل، والمثقف الحالم، والمثقف المدحور، والمثقف الهذياني، والمثقف المخذول... «سلالات ثقافية خائبة في متاهة من الأوهام والخذلان والعجز. المثقف العضوي القديم يقف اليوم راثياً السرديات الإيديولوجيات الطللية، وربما يرثي كل الرومانسيات الثورية التي لم تستطع أن تصنع أوطاناً صالحة للاستعمال» يقول. ويدعو، من ضفةٍ أخرى إلى «ترحيل وظيفة الوعي من الفرجة المكرّسة للاستعمال، ومن الاكتفاء بلذة الصورة في المرآة، إلى تهشيم المرآة، وإلى فضح سياسة الغنائم، وإعادة إنتاج الشارع والمقهى والمؤسسة». لا يتوقّف احتكار السلطة على النصّ والمنبر والتاريخ ومنصات التواصل الاجتماعي، إنما على المعجم بأكمله لتصدير لعبة صناعة التوحّش، وتسويغ خطاب القوة الغاشمة لفرض «غريزة الترويض والسيطرة» التي تقوم على «العزل والطرد والتهميش»، نحو خطاب إشهاري يؤصّل مفهوم «الطاعة الشرعية»، وتالياً تعطيل إرادة الاجتهاد من جهة، واحتكار النصّ وفقاً لمصلحة السلطة والجماعة، ما أدى إلى «موت مثقف الخطاب» بالتوازي مع موت الدولة، وموت المجال العمومي، بسطوة خطاب الجماعات المهيمنة. هكذا مات اليساري القديم، وفي أحسن الأحوال اندحر خلفاً، وهرب مثقف الخطاب إلى «المؤسسة أو الدين أو الجماعة، أو المهجر» كمحصلة لفشل الحواضن الكبرى بمراياها المتعددة واكتفاء هذا المثقف بوظيفة إنتاج الرؤى والأفكار والمعاني الكبرى، بعيداً عن متخيّل السلطة الذي يصنعه «الفقهاء والوعّاظ ومثقفو السلطة عبر توريات وأقنعة وسيرٍ ومغازٍ وأساطير وملاحم واستعارات ومجازات» يقول.
على المقلب الآخر، يجد علي حسن الفوّاز في الرواية سياقاً كتابياً ورهاناً مضاداً وخطراً في مواجهة «مركزية التاريخ»، فالرواية سلطة لها استعاراتها الفاضحة في معالجة أحداث الأمة ومحنة الهوية ومحنة الحاكم بوصفها سرديات مضادة لسرديات الجماعة وأزاحتها عن وهم مرجعياتها الراسخة في الخلود. هكذا سيحتل الروائي موقع صانع الوعي في لعبة النقائض التي تنهض على «إباحة التأليف» والتشكيك في ما هو سائد في «مدوّنات الجماعة والأمة والسلطة»، وذلك بالخروج عن النص المتداول وتقويضه بتشبيك ما هو تاريخي بما هو سردي على رافعة الوثيقة والمخطوطة والحكاية بمناورات تخييلية ماكرة ستنتهي بإطاحة «وظيفة المنبر ومركزية الحكواتي القديم، وخطاب السلطة». إباحة التأليف في مرآة أخرى تعني «شراهة الحرية»، و«كسر تابو الخوف»، ما يمنح الكتابة السردية أفقاً واسعاً للتخيّل الذي ينطوي بمسلكٍ ما على فوضى مفتوحة في استعمال حرية تشبه الاستبداد، وتغييب الآخر المختلف. وبهذا المعنى تفتقد حرية المخيّلة البراءة المطلوبة.
في «سرديات الإنثروبولوجيا»، ينفي الناقد أن تكون الرواية ديواناً وافياً للحكي أو أن تكون بديلاً عن التاريخ، لكن يمكنها أن تكون «مدوّنة مضادة للمركزيات» بشراهة التخيّل، وبهامش التلصّص، وتسفيه وثائق السلطة ونصوص فقهائها وكتّاب دواوينها. وفي فضاء آخر، يشتبك صاحب «فانتازيا الدولة» مع طغيان من طراز آخر، هو طغيان الآباء الأدبيين ووصاياهم وضرورة «نتف لحاهم» بما يتّسق مع أسئلة أكثر راهنية وشراسة وتجاوزاً، معتبراً هذا الخيارَ حقاً ثقافياً أكثر منه عقوقاً، وذلك بضرورة تحطيم الزمن الأيقوني واللافتات الثقافية التي تحولت إلى عتبات كبرى غير قابلة للنسف. وإذا بالاستبداد الشعري يعانق الاستبداد السياسي بأدوات القياس نفسها، وتالياً ينبغي تفكيك الأخير باعتباره عتبةً للأول. مروحة واسعة من الأفكار العميقة والمتنافرة والمتنابذة يطرحها علي حسن الفوّاز بشجاعة للإفلات من القبضة الفولاذية للسلطة بكياناتها المتعددة، في محاولة جدية لحراثة الأرض الوعرة بمعول حادّ ونبش ما هو مخبوء، وهتك الخديعة والنسق المضمر، داعياً إلى معجمٍ جديد يواكب ثقافة ما بعد جائحة كورونا. الجائحة التي عملت على «سحب الكائن من شغف الحلم ليجد نفسه وحيداً عند عتمة المنزل أو الفراغ، يجترّ السرديات الباردة». عناوين كثيرة تتجاور وتفترق في البناء والهدم، وفي التعرية والفضح، لتأصيل سوسيولوجيا ثقافية مفتقدة في ثنائيات متصارعة مثل ترويض الثقافة وأسئلة الاستبداد، و«محنة النص وأسئلة الاجتهاد»، و«أوهام القوة وسراب الربيع العربي»، و«أوهام السلطة ومراثي الحرية».