يأتي كتاب «الاقتباس: من الأدب إلى السينما ــــ محطات في تاريخ مشترك» (دار المرايا ـ القاهرة)، ليضيء على العلاقة المتشابكة بين السينما المصرية والآداب الأوروبية التي اقتبست «هوليوود الشرق» أهم أعمالها، من خلال مجموعة دراسات نظرية، أنجزها أكاديميون وباحثون من مصر والغرب. فالعمل يضمّ 12 فصلاً، هي نتاج أبحاث قدِّمت باللغة العربية والإنكليزية والفرنسية خلال المؤتمر الدولي الأول الذي نظّمته «شبكة آمون» للباحثين في الأدب والسينما في جامعة القاهرة عام 2019. وقد حرّرت وجمعت هذه الأبحاث سلمى مبارك، أستاذة الأدب والفنون والأدب المقارن في «جامعة القاهرة»، والأكاديمي وليد الخشاب منسق الدراسات العربية في «جامعة يورك» في كندا.

يصف الكتاب نفسه بأنه يعتمد إطاراً نظرياً مبنياً على الندية بين الأدب والسينما، ويرفض اعتبار أحد الوسيطين أكثر أهميةً أو قيمة جمالية، من منطلق أنّ وظيفة الفيلم ارتبطت أساساً بالإمتاع وكانت أشبه بأداة لنشر المثل الاجتماعية المرتبطة بالحداثة، بينما ارتبطت وظيفة الرواية بإنتاج الفكر الاجتماعي والسياسي والقيم الرمزية للمجتمع من خلال موقعها في تراتبية الأنواع الفنية.
تدور الأبحاث حول ثلاثة محاور هي: اقتباس النوع بوصفه عملية انتقال لقيم الحداثة وإشكالياتها من خلال أعمال «زينب» و«البؤساء» و«الباب المفتوح» و«يوميات نائب في الأرياف». ثانياً، الاقتباس باعتباره عملية انتقال ثقافي وما تستلزمه من مواءمات زمانية ومكانية في أعمال «أمير الانتقام»، و«نهر الحب» و«جنة الشياطين» وفي اقتباسات «الملك لير». ثالثاً، أعمال نجيب محفوظ بوصفها نموذجاً استثنائياً لحركة ذهاب وإياب مكثفة بين الوسائط الفنية.
يستعرض تقديم الكتاب المراحل التاريخية للاقتباسات السينمائية من الأدب منذ بدايات القرن العشرين، حين كان الاقتباس يعدّ نموذجاً لنقل الحداثة ووسيطاً بين الترجمة والتأليف الأصيل، وقد تحول الاقتباس من الأدب الأوروبي إلى السينما من عام 1930 إلى عام 1950 ضامناً للقيمة الجمالية وكفيلاً لحداثة العمل ومصداقيته. ومنذ عام 1960، صارت غالبية الأفلام مقتبسة عن مصادر أجنبية منقولةً في الأساس عن أفلام أميركية، ومعبّرةً عن خريطة الهيمنة الغربية الثقافية على مصر. في هذه الفترة، تراجع الاعتماد على الأدب الغربي في السينما إلى حدّ ما لصالح الأدب العربي، ممّا سمّي بالواقعية السينمائية، فأنتجت السينما المصرية أفلاماً مأخوذة عن أعمال نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف غدريس ويحيى حقي وغيرهم.
في السبعينات، توارت الواقعية لصالح تيار أدبي جديد يحاول التحرر من القوالب المهيمنة والاستقلال عن النماذج السائدة في الكتابة، رافضاً تمثيل الواقع بشكل مباشر. بدلاً من ذلك، استخدم أساليب جديدة كمصاحبة البطل المضاد وتعدد وجهات النظر، والمونولوج الداخلي وتيار الوعي وتحطيم مفهوم الحدث، بينما صاحب ذلك تيار سينمائي يقوم في الأساس على سينما المؤلف التي أولت ظهرها للأدب وسعت لتدعيم السينما كفنّ مستقل.
اقتباس رواية «آنا كارنينا» في فيلم «نهر الحب» (1960) لتتلاءم مع قيم ثورة يوليو


شهدت العلاقة الحديثة بين السينما والأدب في القرن الحادي والعشرين مرحلة جديدة، إذ اتكأت عملية الاقتباس السينمائي على الكتب الأكثر مبيعاً بهدف جذب الجمهور العريض إلى هذه القراءات.
يفتتح الكتاب بدراستين نظريتين، الأولى لميشال سيرسو أستاذ الدراسات السينمائية في الجامعات الفرنسية والمتخصص في موضوع الاقتباس في السينما المصرية. إذ ترجم وليد الخشاب مقاله «اقتباس الأدب الغربي في السينما المصرية: ذرائع ثقافية أم استلهام نماذج أصلية؟»، كما ترجمت هايدي زكي دراسة جان كليدر (أستاذ السينما والأدب المقارن في جامعة «رين» بعنوان «السينما ذهاب وعودة». في هذه المقالة، استعرض كليدر مساهماته النظرية في دراسات الاقتباس والمقارنات بين الأدب والسينما، مع التركيز على فكرة الاقتباس بوصفه عملاً وصنعة.
يتطرق سيرسو في مقالته إلى أنّ كتّاب السيناريو والمخرجين المصريين ـــ خلال اقتباسهم الأدب الغربي إلى الشاشة الكبيرة ـــ وعوا حاجة الجمهور إلى التوحد مع شخصية محورية في حبكة تقوم على الميلودراما والانتصار للنظام الاجتماعي. ويتطرق إلى لجوء المخرجين المصريين إلى اقتباس الأدب الغربي اعتماداً على شمولية أنماط الشخصية الدرامية مثل «الغانية طيبة القلب» و«الباحث عن العدالة» لتناول المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، إلى جانب تناول العلاقات الغرامية كمحور أساسي للروايات الغربية والأفلام المقتبسة عنها.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام: الأول يتضمن أربع دراسات تحلّل ارتباط الاقتباس بقيم الحداثة وبالعبور بين الأنواع الفنية، من خلال دراسات تحلل سردية الريف وملامحه الفنية (سلمى مبارك)، ودراسة وليد الخشاب عن ملامح تصوير الورشة والمصنع في السينما بتأثير الأدب الغربي، ودراسة هالة كمال عن استعراض ملامح المرأة وتحررها المصاحب لحركة التحرر الوطني من زاوية الدراسات السينمائية النسوية، ودراسة أخيرة لجان لوقا بارولين عن نوع الفيلم البوليسي بين الأدب والسينما.
أما القسم الثاني، فيركّز على التحول في النص الأدبي حين ينتقل إلى وسيط مرئي في مجتمع مغاير. هكذا، تحلّل رندة صبري الأبعاد السياسية والثقافية لتحول رواية ألكسندر دوما «الكونت دي مونت كريستو» إلى فيلم «أمير الانتقام» (1950) لهنري بركات، فيما يقدّم عصام زكريا مقارنة بين اقتباس شكسبير ـــ «الملك لير» تحديداً ـــ في السينما الغربية والمصرية. وتكتب دينا قابيل عن اقتباس رواية «آنا كارنينا» في فيلم «نهر الحب» (1960) لعز الدين ذو الفقار لتتلاءم مع قيم ثورة يوليو. وهناك دراسة لداليا السجيني عن اقتباس واقعية أميركا اللاتينية في السينما المصرية، خصوصاً في رواية أمادو «الرجل الذي مات مرتين» وفيلم أسامة فوزي المقتبس عنه بعنوان «جنة الشياطين» (1999).
ويضم القسم الأخير دراستين لدينا جلال وأماني صالح عن اقتباس السينما والتلفزيون لأعمال نجيب محفوظ. وتتوقّفان عند التأثير الإيجابي الذي لعبه تحويل هذه الأعمال الأدبيّة إلى مسلسلات أو أفلام في تنشيط سوق الكتاب، وتبدل الدلالات السياسية والاجتماعية للمكان والزمان، ونقد خطاب الانفتاح عبر قراءة لقصة «أهل القمة» واقتباسها في فيلم (1981) علي بدرخان.
يعد الكتاب مرجعاً مهماً عن العلاقة الممتدة بين الأدب والسينما، وعن تأصيل نظري لمفهوم الاقتباس من خلال دراسات متنوعة ذات أفق مغايرة ومتعددة.