[تخليداً لروح الفقيد مالك الصغيري، المثقّف والمناضل التّونسي الذي غادر في أوج العمر والعطاء.]
لا يعرف حتى الآن كم مرّ من الوقت وهو يسلك الممرّات، وقطرات العرق الفائح تنسلّ من جلده وتغطي وجهه لتلسع عينيه وتشتّت نظره. لم يميّز الوجوه المحشورة في الشوارع، وخُيّل إليه أنَّه رآها من قبل تحت نصب الحريَّة المشهور وسط المدينة. طوَّقته الأزقّة الملفوفة بين البنايات كمن يخطو دون وجهةٍ في مكانٍ غير آمن. كانت الشمس الغاشمة تغلّف رأسه، وتزيد من حدّة توترّه. اصطدم بإحدى الكراسي الخشبيَّة المصفوفة أمام مقهى صغير، تعثّر في خطواته، ثمَّ انسلّ إلى الجهة المقابلة بوجهٍ متبرّم، تبعه صوت فرامل لسيَّارة كادت تدهسه للحظة.
تلفت شزراً إلى سائقها لينهال عليه بالشّتم وهو يمعن في الهروب، وإن كانت عيناه تجولان في الطريق دون أن يدرك أين يختفي عن الأنظار.
غلبت عليه صورة صاحبه مالك. كائنٌ ساحر، يقفز فجأةً في المياه تجاهه ويقوده إلى ضفّة القنال، مجازفاً بنفسه لإنقاذه. مدّ ذراعه إليه ثمَّ طوّقه، ليجرّه بكل ما أوتي من رباطة جأشٍ إلى أن تتهالك قواه ويغرق. أمَّا هو، فقد توثّب رغبات منتصف الموت فوق حجرٍ منتصب في الضفة، قبل أن يبتلع المياه الجوفيَّة وينزلق إلى قاعٍ سحيق.
بقي شبه مذهول غير قادر على تحريك رجليه الرخوتين. ولعلّه كان غائباً عن الوعي، وحواسه تتصادم مع الجزع في انتظار خروج صاحبه خلفه. لم يشعر بأي شيء سوى هول المشهد أمامه حين استدار لمعرفة مصيره. لقد كفّ مالك عن محاولاته اليائسة بعدما أرهقته تيارات الماء القويَّة وجرفته بعيداً. لماذا جاء عنده اللّحظة ولحق به؟ أيّ مصرعٍ هذا انطفأ فيه العالم، ليخوض رحلة النضال إلى آخر رمق، وجبهته الشامخة ترتطم بسكينة أبديَّة، وجسده متوغّلٌ في مسالك الماء بإجلالٍ وسلام.
لا شيء عابثٌ سوى القدر، يُغيّب الموت رفيق دربه، حين يشعر بالخطر المحدق به، فيأخذ مكانه في عمق القنال، فيحوم حوله الموت مرتين، فلا يجاريه إلّا وهو أمام نعشٍ يلتصق به حتّى التوحّد ويستغرق في بكاء هيستيري.
لا أحد يعرف ما كان يهرب منه، أو ما يمكن أن يفعله. كان النهار يخفي عتمة روحه ورائحته الفظيعة، بعد أن ترك وراءه المكان الذي قدم منه، ودفن قلبه بجوار صاحبه.
قضى النزع الأخير من الليل وهو يهيم من منطقةٍ إلى أخرى، ثمَّ توقّف في محطةٍ مهجورة. سار قليلاً حتى انخرط بخطواته بين السكك الحديديَّة الملتوية وهو منهك القوى. لفّته غشاوةٌ باردة، لكنَّه تماسك وجلس ببطء على السّكة وهو يُحدّق في العراء بعيداً عن كل شيء.
أخيرًا قبع وسط الظلام. لم يغمض عينيه طوال الليل، وشُرِّد في الخواء، لكنّه أحسّ بشيءٍ غير مرئيّ يتبعه. يجب أن يظلّ يقظاً. هكذا خمّن. لا يوجد كائن حيّ برفقته، فقط رائحة الموت تملأ رئتيه.
أخذ نفساً عميقاً ثمَّ فرك جفنيه، واستمرّ في معاقرة المتاهة، لكن جسده الضعيف تداعى وسقط كأنَّه لن يستيقظ أبداً، أمَّا روحه المتألمة فقد جثمت فوقه ثمَّ اعتمرت عند قدميه لتسحله إلى جوقةٍ بالجوار.
* تونس