ما الأثر اليومي للعنف في حياتنا وأجسادنا وعضلاتنا؟ وما الذي في مقدورها، بدورها، أن تفعل أو لا تفعل أمام هذا العنف وبواسطته؟ وكيف يمكن التمييز في سياق ثقافي واجتماعي وسياسي بين «ذوات منيعة» و«ذوات مستباحة»، أي بين ذوات لها المشروعية في الدفاع عن نفسها وأخرى لا مشروعية لها في ذلك (لتصير بذلك غير حصينة ويتعذّر الدفاع عنها)؟ هذه الأسئلة المهمة وغيرها تطرحها إلزا دورلين، أستاذة الفلسفة السياسية والاجتماعية والباحثة في قسم دراسات المرأة والدراسات الجنسانية في «جامعة باريس ٨» في فرنسا، في كتابها المرجعي «فلسفة العنف» (2017).

الكتاب الذي انتقل أخيراً إلى العربية (دار الساقي ـــ ترجمة جلال بدلة) يضمّ ثمانية فصول (٢٢٠ صفحة) تتنوع موضوعاتها ما بين «تصنيع الأجساد العزّل» وصنوف الدفاع الذاتي والعدالة البيضاء، واحتكار الدولة للعنف والعدالة البيضاء. تشرح دورلين أنّ ثمة خطاً فاصلاً تاريخياً بين الأجساد «الجديرة بأن تكون محميّة»، وبين تلك التي تجرّد من السلاح ومن حقّها بالحماية وتُترك عزلاء. هذا التجريد المنهجي من السلاح، يعيد السؤال حول مسألة اللجوء إلى العنف دفاعاً عن النفس عند كل حركة تحررية.
تلاحق دورلين قوانين وممارسات «الرجل الأبيض» منذ تشكل الدولة الحديثة في أوروبا والغرب. ففي عام ١٦٨٥، حظر «القانون الأسود» الفرنسي من أن يحمل «العبيد أي سلاح هجومي أو عصا غليظة». وفي القرن التاسع عشر، منعت الدولة الاستعمارية السكان المحليين في الجزائر من حمل الأسلحة، فيما شرّعته للمستوطنين، لتصل إلى ما نراه اليوم من مطاردة أصحاب السحنة السمراء في المطارات ومحطّات القطار لأقل شبهة أو ريبة. تنطلق دورلين من حادثتين مهمتين وتبرز تطور سياق «فلسفة العنف» في الفترة الطويلة الممتدة بينهما: الحادثة الأولى حين قضت محكمة غوادولوب الاستعمارية الفرنسية عام ١٨٠٢ بعرض مييه دو لاجيرارديير داخل قفص حديدي بارتفاع ثمانية أقدام وسط ساحة عامة حتى الموت، وأخذ المعاقَب المسجون داخل القفص وضعية الراكب على حصان وتحته نصل حادّ وقدماه مثبتتان داخل ما يشبه الرِّكاب، إذ كان عليه أن يُبقي على مأبضيه مشدودين ليتفادى، إن خارت قواه، الوقوع على النصل وهو ما حصل بعد تنكيل لثلاثة أيام أو أربعة. الحادثة الثانية حصلت في لوس أنجليس عام ١٩٩٣، مع سائق التاكسي رودني كينغ، الشاب الأميركي من أصول أفريقية والبالغ في حينها ستة وعشرين عاماً. شاهد العالم بأسره على شاشات الفضائيات كيف جرى إيقاف هذا السائق بطريقة هوليوودية بواسطة ثلاث سيارات وطائرة مروحية انطلقت لمطاردته على الطريق السريع إثر مخالفته السرعة. بعدما رفض كينغ الخروج من السيارة، تعرّض للتهديد بسلاح ناري موجّه نحو وجهه، ثم تعرّض لصعق كهربائي من مسدس صاعق، وبينما يحاول النهوض وحماية نفسه من الضرب، انهارت بوحشية على وجهه وجسده عشرات متتالية من ضربات الهراوات. قيّد كينغ وتُرك مغمىً عليه، ومصاباً بكسور وجروح في الجمجمة والفكّ والوجه والكاحل. وسرعان ما برّأت هيئة المحلّفين الشعبية رجال الشرطة المعتدين الأربعة بحجة «الدفاع عن النفس» و«الشعور بالخطر في مواجهة عملاق بطول متر وتسعين سنتيمتراً كان يضربهم مع كونه مستلقياً على الأرض»، وتنطلق من بعدها أعمال الشغب اعتراضاً على الحكم وكانت مشاهد حقيقية لحرب أهلية خلّفت ثلاثة وخمسين قتيلاً وأكثر من ألفي جريح بين المتظاهرين.
كان يمكن للمؤلفة من باب الإنصاف الإضاءة ولو بخجل على التجربة الفلسطينية


في قضية دو لاجيرارديير، تبدو التقنية المستخدمَة من قبل المستعمِر كأنها تستهدف قدرة الذات المستعمَرة على الإتيان بأي ردّ فعل، كأن ذلك من أجل السيطرة عليها بشكل أفضل. يُظهر الجهاز القمعي الذي نُصب لهذا الغرض ردود الفعل الجسدية والمنعكسات الحيوية للمحكوم ويستثيرها. وكلما تضخّمت المشهدية التي تُستعرض فيها المقدرة الذاتية في مساعيها المتمردة واليائسة من أجل النجاة، يزيد تحكّم السلطة القمعية بها، سلطة تختفي خلف حضور جلّاد سلبي واقتصاد من الوسائل (تقتير طعام، نصل بدائي، قفص حيوانات) بحيث يبدو أنّ المنكّل به يجري نحو حتفه من تلقاء ذاته. وهكذا يزرع الجهاز في العقل الجمعي للمستعمَرين فكرة محددة: «تزيد معاناة الضحية كلما دافعت عن نفسها أكثر»، فالقدرة على الدفاع الذاتي صارت معياراً يُستخدم للفصل بين أولئك الذين هم «ذوات بالتمام» وبين الآخرين المذلّين والمهانين في ذواتهم عبر تعذيبها وإهلاكها ونزع الشرعية عنها، كأن هذا من أجل غرس فكرة العجز التام عن الدفاع عن أنفسهم في ذواتهم. في قضية كينغ، ركّزت دورلين على التباعد في تأويل شريط الفيديو للاعتداء على سائق التاكسي، إذ لم تتم معاينة الفيديو كمعطى خام أو مادة متّصلة يتعيّن تأويلها وإنما كــ«حقل منظورية مشبع عرقياً»، مستشهدةً بتعليق لجوديث بتلر حول الحادثة: «كيف نفهم هذا القلب للإيماءة والقصد من منظور الترسيم العرقي لحقل المرئي؟ هل نحن أمام قلب نوعي لقيم الفعالية الخاصة إلى مرجعية معرفية أخذت صيغة عرقية؟». تستنتج أنه نُظر إلى رودني كينغ في كل اقتطاع للمشهد بوصفه يمثّل الجسد المعتدي، وصُرف النظر عن أيّ استغاثة منه أو تعبير عن الضعف، فغذّى بذلك «توهّم الاعتداء لدى العنصري الأبيض». وهكذا أصبح كينغ، بعدما دافع عن نفسه ضد العنف البوليسي، شخصاً غير حصين، وبعبارة أخرى: كلما دافع عن نفسه أكثر، ازداد تعرضه للضرب والنظر إليه بوصفه المعتدي، و«لما كانت الأجساد التي تحوّلت إلى أجساد أقلوية مصدر تهديد وخطر وفاعل لكل عنف ممكن، فإن العنف الممارس عليها باستمرار، بدءاً من عنف الشرطة والدولة، لا يمكن بأي حال أن ينظر إليه بوصفه ما هو عليه بالفعل من عنف قذر؛ إنه عنف لاحق، ذو طابع حمائي ودفاعي، ومجرّد رد فعل واستجابة تحمل دائماً وأبداً طابعاً مشروعاً».
بين دفاع الغوادولوبي عن نفسه الذي سيؤدي به إلى العجز، ودفاع الأميركي الأسمر الذي يؤدي به إلى فقدان الحصانة واستنفار الماكينة الإمبريالية البيضاء بأسرها لسحقه، يتمثل هدف الزا دورلين في هذا الكتاب في الإحاطة بمنطقَي الإخضاع هذين، في مواجهة آلة لم يحدث أن استثمرت بهذا الحجم في منطق دفاعي مغلوط لكي تضمن ديمومتها الخاصة. منطلقة من المعارف والثقافات التوفيقية للدفاع الذاتي العبودي، وممارسات الدفاع الذاتي النسوية، وتقنيات الالتحام التي بلورتها المنظمات اليهودية في أوروبا الشرقية ضد مذابح «بوغروم»، والشيء بالشيء يُذكر، كان يمكن لدورلين من باب الإنصاف الإضاءة ولو بخجل على التجربة الفلسطينية وتقاطعاتها مع حركات التحرر بوجه الماكينة الإمبريالية الكولونيالية والعرقية العنصرية ومواجهتها للمنطقَين المذكورين معاً في قضيتَي لاجيرارديير وكينغ، فالكتاب في مقاصده يعيد إلى الذاكرة نشأة الدفاع الذاتي عن النفس بوصفه ضرورة حيوية وصيرورة سياسية وإحدى ممارسات المقاومة، والتطرق للقضية الفلسطينية كمختبر لهذه المقاومة كان ليضيف إليه الكثير.