تنحاز الكاتبة السورية إيمان الدرع في روايتها «الفرنكة» (دار نينوى)، لمصلحة سردِ أحوال المأساة في بلدها بعيداً عن الذاتية. حيث يطفو صوتُ الألم النازف، بطلاً جماعياً لا يتطاول فوق صوتهِ صوتٌ آخر. رغم تعدد شخوص الرواية، يبقى صوت المكان المنكوب هو الصوت الأبرز، والنظرة الكسيرة المتسامية بالحب والكمال هي النظرة الأمثل.

تبدأ الحكاية بمشهد صراعٍ على غرفةٍ في نُزُل وسطَ حي القيمرية في دمشق القديمة، ليُشكّل مطلعاً رمزياً يصف شتاتَ السوريين، وخلافاتهم حول ما عاشوه من أحداثٍ ووقائعَ في السنوات الأخيرة، وما نتج عنه من مآسٍ ونزاعاتٍ أسهمت في محو القيم الأخلاقية، وتلاشي الفضائل تحت أزيز الرصاص ورعب الانفجارات وعويل القذائف، لتحيا المدينة وسط تلك الأجواء متّكئةً على أذرعِ من يعيشون فيها بصمتٍ، ويكسبون لقمة عيشهم بنزاهةٍ كي يستمروا في العيش، وهم ضحايا لما حدث ويحدث، إنهم: «ضحايا الحرب ووقودها، من يموتون بصمت، ويعضون كاظمين على الفاقة والجوع، إلا أنهم يبتلعون السخط حباً في البلاد، وخوفاً من رجس الخراب ودنسه». ترسم الكاتبة أول مشاهد حكايتها من خلال مشاحنةٍ عابرةٍ تدور حول أحقية استئجار «الفرنكة» في النزل المذكور، بين الدكتور عمر الوافد إلى العاصمة بحثاً عن مصير أختٍ مجهول، والمهندسة نجوى المسافرة في رحلة علاج ابنة أخيها من مرض مستعصٍ، وهي امرأة مطلقة، رمزت شخصيتها المتمردة الحنون، إلى البلاد المجروحة والوطن الذي بقي حيّاً رغم تلاحق الكروب وقصص الموت.
تخصّ الكاتبة روايتها بعنوانٍ ينبئ بحكايتها، فالفرنكة هي الغرفة العُلوية في المنازل الدمشقية العريقة، تمثّل اختصاراً للمكانة الرفيعة التي تجمع حكايات الحبّ والحرب معاً، وهي ذلك التسامي المفقود، الذي يتنافس عليه الوافدون إلى النّزُل من نازحين ومكلومين من كل أنحاء البلاد، طامعين بأمانها، هاربين من أسفارهم ورحلاتهم المضنية إلى جدرانها التي تمثّل اختصاراً حياً للحكاية السورية، بدءاً من دخول باب النزل الكبير حتى تدفّق قصص النزلاء الذين وحدتهم حبكاتٌ جمعها مصير واحد، قاسمه المشترك واقعُ الحرب، بكلّ ما تتركه على جباههم من آثار الفقر والاغتراب والهجران.
يرمز النُّزُل في دمشق القديمة إلى شتات السوريين


تتباين أصوات النزلاء بين المتألّم والمتمرد، ومن يكظم الهموم وراء حقائق مرّة. فالصبية نجوى تفدُ العاصمة أملاً في شفاء ابنة أخيها التي تمثل بضعفها ونكبتها حال المدن المشتّتة، لتسقط في حب الدكتور عمر، فنراها رغم ذلك تقابل الموت بالحب، واليأس بالضحكة الصادقة، في حين تمثل الست ألفت صاحبة النّزل، التي تتوسط على مدار الحكاية فناءَ طبقته الأولى، العقل المدبرَ والقلب الحازم ذا العاطفة الوقّادة، فتبدو بمثابة رمز لأولئك الصادقين الذين يثبتون في لحظات الصراع الحامي، فنراها تكتم رغم تقدمها في السن حكاية خسارتها حبّها للحاج تحسين الموسوم بصورة عجوزٍ يتباكى على أطلال حبّه، ويعبر عن خيبة ضحايا الخلافات الطائفية والمذهبية، ممن وقعوا شهداء صرعى النَّزعات المناطقية، ليس فقط بسبب الحرب، إنما بسبب الحب أيضاً. كما تستدعي الكاتبة عبر أحاديث النزلاء وسهراتهم المسائية صوت الإنسان السوريّ الشقيّ، الذي خاض صراعاً مريراً في سبيل البقاء.
تنثال الحكايات وتتناسل في محاولة لفضّ الشتات، وخلق وطنٍ صغير. بعيداً عن حمى العصبية التي عرّت معادن السكان. تبدو الرواية أشبه بحنينٍ جنائزي مهيب، يتضح عبر التجوال بين أحياء المدينة، وما يحيطها من آثارٍ وأوابد، في محاولة لاستدعاء ماض مندثر وبثّ وجهٍ صنعت هويته الأمكنة الذاوية، وأحاديثُ الارتحال. تخرج الكاتبةُ الحكايةَ بلغةٍ آسرة ممتعةٍ، وخطابٍ جمالي يرفض الشعارات الخشبية والأصداء التي فتكت بما تبقّى من مساحات للحب والتناغم، الأمر الذي يجعل من «الفرنكة» نصّاً ينتصر لصوت الإنسانية، ولا شيء آخر غيرها.
في النزُل حيث يجرّ الحزنُ حزناً آخر، والسواد يشتدّ بعتمات أكثر قتامة، ترسل الكاتبة عبر مشهد النهاية الضوءَ إلى أولئك الذين أغلقوا على أنفسهم باب الأسى فاغتالهم، وتجعل النص قبيل إسدال الستار مفتوحاً على ذلك النور القادم من بعيد، وعلى عظمة الحياة التي تأنف الخسارة، فتختم بإيضاحِ ما كان غامضاً، وتذوّب الخلافات في قصصِ حبٍّ شيّقة، وتنتهي بما يشبه شمساً تشرق مجدداً على أرواحٍ تلدها المآسي كل صباح، ليس لغاية رسم نهاياتٍ سعيدةٍ بأناقةٍ خلّبية، وإنّما بقصد التمسك بالأمل مثل من يتمسكُ بوعدٍ أُخلِف، وبقي صداه اليتيم يحتفظ بسحر البراءة في أزمنة الحروب والحرائق.