هذه المسرحية هي الصرح الوحيد الذي يعوّل عليه الدويهي في كتابته. وقد حكى عنها كما ورد في إهدائه للكتاب حيث لخّص فحواها ببضعة سطور: «إلى المعارك الخاسرة تعبت/ إلى الحنين لنا عودة/ إلى الليل ارحل/ إلى الهدوء دُر». من هنا، تأتي قصيدته كعلاج، كإيلاج الفجر بعد ظلمة الليل حالكة «في البدء: قال لنا المساء: لن تبلغوا السعادة إلى سراً»، ومن رومانسيةٍ مجروحة، قلب مفجوع على غياب حبيبٍ «بيني وبينك ثلاث كلمات/ وحقول من الدماء/ وكانت الكلمة الأخيرة للفودكا». لكن لهذا الغياب بالذات طعمُ خاص بالنسبة للدويهي، فهو لم يتنصل منه بل على العكس حيث تأتي نصوصه كمداعبة للذكريات، لإحياء ماض مشدود إليه حناناً، ليتوهج شوقاً بمجرّد كتابته فيتوغل مجدداً في حالة قد مضت «على بعد شبر ٍ من ذاكرتنا/ كان صمتنا يرعب المكان ويريح أنفسنا/ تعلو فوقه بعض الأحاسيس/ بعض من الضحكات القاتلة/ ونكتفي بنظرات تأتي على عجلة/ لتخبئ حسرة المستحيل العابر». تحضر الكتابة عنده كتعويض عن هذا الغياب لتبوح عن كلام ٍ حميم يخصّ صاحبها «ما زالت خصلة من شعرك/ سرقتها على عجلة في فمي/ ما زالت بالقبة القديمة/ في علبة خشبية حمراء» أو حتى «يخلق من الشبه اثنان/ نحن وموسيقانا».
وإذا كانت الموسيقي هي الشيء الوحيد الذي استطاع أن يهذب روحه كما جاء في مقدمته، إلا أن قصيدة ميلاد الدويهي خالية كليّاً من أي إيقاع موسيقى أو لعبة صوتية، فالنثر عنده يأتي أولوية قبل أي فذلكة شعرية. قول الأشياء على ما هي عليه والرغبة الجامحة في التعبير عن مشاعره باسترسال همّه الشعري الأوّل «أظن قد ركبت ذلك القطار/ قطار قد كتبت عنه/ قصائد ليلية منسية/ نظمت كي تدفن على سكته».
بهذا الشكل، يتبلور أسلوب الدويهي في القصيدة. لغته حادّةٌ وجافّةٌ تلامس التجريد أحياناً لترسم لنا مشهديّة اضطراباتٍ خاضها بشراسةٍ كأنّه ينازع خصماً شرساً على حلبة ملاكمةٍ «تحمل جمجمتك ويديك/ وتلوّح بهما من فوق الرماد/ مصطاداً حمامات السلام الداخلي» أو «أحلامنا مبنية/ داخل كومة قش/ لا صوت يعلو فوق المقصلة» ليستنتج لاحقاً «هذه هي حياتنا/ حادث سير مرّ صدفة». وباستنتاجه هذا جزمٌ قاطعٌ كأنّه عوّل على تجربته بأنّها المختبر الأنبل والأوحد لاستنباط قناعته «كل معركة تبدأ إنما تبوء بالفشل/ وما وراء كل انتصار كبير/ إلا هزيمة أكبر وأكبر»، فتبسط قصيدته نفسها لتكون اعترافاً مسرّباً حول أحوال صاحبها.
يمتاز بالوصف والإخبار بأسلوبٍ مركبٍ يجمع بين المجاز والعفوية
تتراصّ نصوصه على هذه الوتيرة بلا انقطاعٍ ليبقى صوته وحيداً من دون أيّ تبدّل في نبرته. إذ إنّ سمة هذا الثبات هي المزاج العام الذي تستظلّ تحته قصائده. ويعود ذلك إلى أن الذات عند ميلاد الدويهي واحدةٌ غير متصدّعةٍ أو متشرذمةٍ لكنها تحمل اشتقاقاً وتشعّباً تتمايل بين الرتابة والملل من واقعٍ رثٍّ، «إنها دوّامة كالدود السائح/ في أجسامنا الرمادية/ إنها دوّامة الموت البطيء» إلى معارك خارجيّةٍ مع مجتمعٍ لا يكنّ له سوى القرف «مرت عشرون سنة/ وأنا لم أعلم كيف تؤكل الكتف/ أبصق سمّاً يساراً ويميناً/ أشعل سيجارة بقيمكم». وهذه الذات الحانقة على العالم، المكسورة من خيباتٍ متكرّرةٍ أخذت من عالم الشعر مطهراً بمجرد أن دخلته، ليس تكفيراً عن ذنوبٍ اقترفتها، بل للتحرّر النهائيّ من سلطة المصير: «أرحل بعيداً متى شئت/ وثم: مغفورة لي جميع خطاياي» وأوامر من يتحكّم بالمصير نفسه «أمد رجلي على كرسي الاعتراف/يقول: مغفور لك.../أقول: «لا تعتذر عما فعلت»».
فاجعةٌ كبرى اسمها الوجود عند ميلاد الدويهي «منذ الولادة تلاحقنا لعنة الولادة» وما كتابه سوى سعادةٍ سريّةٍ لها طعم الأمل في ظلّ كل هذه الجلبة.