ليست مبالغة إذا استعدنا تصريحاً قديماً لميشال فوكو توّجه فيه إلى جان بول سارتر قائلاً بأنّ الأخير ينتمي إلى القرن التاسع عشر (علماً أنه عاش في خضم القرن العشرين) وأسقطناه على الكاتب والشاعر أنطوان الدويهي. هي مجرد مقارنة بسيطة، في سبيل وضع الدويهي في إطارٍ مناسب من خلال استعمال المجاز. لغته التي اكتملت قبل بلوغ عامه العشرين متخمة بالوجدانية إلى حدّ الرومانسية. علاقته المتجذرة بالطبيعة تمنحه اللحظة المتوهجة التي تجعله يستغرق عمراً في وصفها. حتّى إن هاجسه بما يسميه «الكتابة المطلقة»، يعود بنا إلى «المعرفة الشاملة» التي نادى بها هيغل، تلك التي تحمل في طياتها مواضيع عدة تطغى فيها الجمالية على أي شيء آخر. محصنٌ ضد الخارج، عالمه داخلي بامتياز، يقصي الأحداث على حساب عوالمه الباطنية التي يستنبط منها الحقيقة، فالذات عنده مأسورة بما تحجبه العين عن الرؤية، فيكون الأدب غوصاً متهوراً في هذا المجهول بحثاً عن حالة لا يصدّعها الواقع. مدركٌ أهمية آداب عصر النهضة العربية لكنه غير ملتزم بها لأنها «أدب موضوعات» كما يراها. أسس «حركة الوعي» التي نشطت في الجامعة اللبنانية أوائل السبعينيات، لتكون علامة فارقة في وعي جيل كامل، ودخوله المعترك السياسي، ومفترق طرق في الحياة السياسية اللبنانية. امتدّ نشاطها ليطال العمل النقابي، حيث شكّلت قوى ضاغطة على الحكومة آنذاك. نادت ببناء إنسان جديد غير معلّق بانتماءات عصبيةٍ ضيقة بل فرداً متحرراً، متساوياً مع الآخر كأنهما يسيران وفقاً لمانيفستو ليو تولستوي: «الكلّ يفكر في تغيير العالم، لكن لا أحد يفكر بتغيير نفسه». حول عالمه الأدبي، كتابته و«حركة الوعي» التي أصدر عنها كتاباً أخيراً («حركة الوعي، هل كانت هي الطريق لخلاص لبنان؟» ـ «الدار العربية للعلوم - ناشرون» و«دار المراد») في استعادة ذاتية لأهم سمات تلك الحقبة، وخلفياتها العامة والخاصة على لسان أهم شهودها، كان لنا هذا الحوار معه.
عندما أصدرت الطبعة الثانية من ديوانك الشعري «كتاب الحالة» عام 2018، ذكرت أن «هذا الكتاب هو النهاية وليس البداية»، وأنك على الدوام في «كتاب الحالة». ماذا تقصد بذلك؟
ـــ أجل، أنا دوماً في «كتاب الحالة». صدرت طبعته الأولى عام 1993 وطبعته الثانية في ذكرى صدوره الخامسة والعشرين. لفهم عالمي الأدبي، لا بدّ من تحديد منبعه. هو منبثق من «يوميات الحياة الداخلية» التي دأبت على تدوينها منذ سنّ السادسة عشرة إلى اليوم. ليس هو بالتدوين اليومي، ولا هو بمدوّنات الأحداث. في نهر الحياة الداخلية، المستمر بلا توقف، هو السعي إلى التقاط تلك اللحظات المضيئة، المتوهجة، قدر المستطاع. ذكرت مراراً أن هذه اللحظات السريعة العبور، هي من الغنى والسر والسحر، بحيث يمكن المرء أن يمضي حياة بكاملها في التعبير عن لحظة واحدة منها.

أشرت أيضاً إلى أنك ضمّنت الكتاب نصوصاً كتبتها منذ زمن بعيد، يعود بعضها إلى أعوامك الجامعية. كيف تفسّر ذلك؟ ألم تعصف التبدلات ــ أقله الداخلية ـــ بأنطوان الدويهي؟ أم أنه توكيد منك على أنّ الجوهر الإنساني لا يتغيّر، بل إنه الثابت الوحيد؟ وكيف تفسّر سعيك إلى ما تسميه «الكتابة المطلقة»؟
- اكتملت لغتي نهائياً قبيل بلوغي العشرين. لكني لم أكن أعي ذلك. كنت أعتقد أن ما أكتبه في «يوميات الحياة الداخلية» هو مجرد مسودّات لما سوف أكتبه. كنت هاجساً بالتوق إلى «الكتابة المطلقة»، والذهاب باللغة إلى أقصى حدود التعبير. لذلك، على مدى زمني طويل، كنت أكتب ولا أنشر. ونصوصي الشعرية الأولى («هواجس النهار الأربعة»، «مقاطع الوله») التي نشرتها عام 1968 في مجلة «الوعي اللبناني» الصادرة آنذاك عن رابطة «معهد المعلمين العالي»، والتي أشرفت على عددها الأخير، كانت باسم مستعار. بحث أدونيس طويلاً عن كاتب تلك النصوص، إلى أن اهتدى إليّ وتعرّف أحدنا إلى الآخر. أصرّ عليَّ لإعادة نشرها، باسمي، في الصفحة الثقافية لجريدة «لسان الحال»، التي كان يديرها. وافقت على نشرها، لكن بالاسم المستعار نفسه.
أرغمت نفسي مطلع التسعينيات، وأنا في باريس، على التحرر من عدم النشر. تم ذلك بصعوبة ذاتية كبيرة. أصدرت بعدها مؤلفي الشعري «كتاب الحالة» في «دار النهار» في بيروت. هو كتاب مصوغ على مدى زمني طويل، أكثر من ربع قرن. لم أكن أنوي نشر كتاب آخر. «كتاب الحالة» مستمدّ من «يوميات الحياة الداخلية»، وقد ضمّنته بعض المقاطع الشعرية المنشورة عام 1968 (وضمّنت كتباً سواه لي مقاطع أخرى منها)، إلى جانب نصوص كثيرة مكتوبة بعدها بعشرة أو عشرين عاماً، أو أكثر أو أقل. أدركت في حينه أنّ هذه هي لغتي، ولا لغة لي سواها. وأنا لم أجهد في تكوينها، فهي لغة ذاتي. ولم تتغيّر لغتي على مدى الزمن. لا شك في أني مررت بتحولات حياتية كثيرة، في إقامتي في موطني، كما في هجرتي الباريسية الطويلة. قدر لا يحصى من الأحداث، والأمكنة، والمشاهد، والوجوه، والأشخاص، والحالات... تسرّبت إلى عوالمي وأغنت كثيراً تجربتي الوجودية والأدبية والجمالية. لكنها اندمجت في هواجسي العميقة الكبرى نفسها، التي لا خلاص لي منها، منذ الصبا الأول، وعلى مدى الوقت. بهذا المعنى، أشعر أنّ زمني الداخلي دائري، وليس امتدادياً.

ما هي الأنواع الأدبية التي يمكن أن تنحو بنظرك إلى «الكتابة المطلقة»؟ هل ترى في الرواية التجسيد الأنسب لهذا التوق؟ وماذا عن الشعر؟ وكيف ترى وظيفته؟
- «الكتابة المطلقة» وهمٌ لم أستطع التخلص منه، على الرغم من تجاوزي رفض النشر. التجسيد الأنسب لهاجس «الكتابة المطلقة»، هو الكتابة الشعرية بالدرجة الأولى. لكنها شيء فريد وصعب المنال (وليس كما أضحت عليه). كما أن الكتابة السردية، والروائية، والمسرحية، والسينمائية، وأدب اليوميات والرسائل، وغيرها، يمكن أن تتوق كلها إلى الإبداع الكتابي الكبير، شرط أن تكون لها فرادتها وغناها وروحها الشعرية. لا أهمية جمالية لكتابة لا روح شعرية لها. وإلا فهي تنحو إلى التاريخ، والسوسيولوجيا، والسياسة، شأن رواية الموضوعات المستندة إلى التوثيق، والمنتقلة كل مرة من موضوع إلى آخر، وهي الشائعة اليوم.

كيف تصنف كتاباتاك؟ ما توصيفك لها؟ لماذا يحضر الأموات في روايتك الأخيرة «آخر الأراضي» في علاقة حميمية مع الأحياء؟ وهل الأفكار هي حقاً، كما تقول، الأكثر بساطة في عوالم النفس البشرية؟ وهل كتابتك انطباعية المنحى؟
- لديّ نوعان من الكتابة، الشعرية والسردية. الأولى، متسمة بالتجريد والتكثيف. والثانية، بالوصف والتحديد والتفصيل. لكن كلها مستمدة من عوالمي الداخلية. فما أنا إلا شاهد على هذه العوالم. أنا جد بعيد عن أدب التوثيق وأدب الموضوعات. يظن البعض أن العالم الداخلي فسحة ضيقة محاصرة. كلا أبداً. الحياة الداخلية هي الكون برمّته. وعندما تنطفئ الحياة الداخلية ينطفئ الكون. وفي عالمي الداخلي، ليس البشر الأحياء هم الأحياء الأوحدون، بل أيضاً الأموات، وأشياء الطبيعة التي أحب، وأنا وثيق العلاقة بها. وكتابتي ليست انطباعية. هي كتابة ذاتية متعددة الأبعاد، يلتئم فيها الوعي واللاوعي، والهواجس، والمشاعر، والرغبات، والأحلام، والحالات، ومستويات الزمان، والأفكار. لكن الأفكار تبقى حقاً الأكثر بساطة في عوالم النفس البشرية.

كيف ترى آداب النهضة العربية؟
- أقدّرها وأدرك تماماً أهميتها، لكني بتُّ بعيداً عنها. آداب النهضة، جبران، نعيمة، الريحاني، وسواهم، غالباً ما يطغى عليها الأدب الفكري. يسعون إلى تحديد الحقيقة في كل ما يكتبون، والتوجيه، والتمييز بين الصح والخطأ، والخير والشر، وسوى ذلك. أنا جد بعيد عن هذا المنحى. فما أنا إلا شاهد. يرد في مطلع «كتاب الحالة»: «دعوا العابر يعبر محاطاً بهالته/ ودعوه يعبر محاطاً بسهله وموكبه ويقظته/ فما هو إلا عابر، وما هو إلا مسافر/ وما هو إلا ناظر، لا يحكم ولا يدين...».

هل في اختيارك العزلة وانسحابك من المشهد دلالة رمزية على موت عصر كنت تتوق إليه؟
- تسألني عن العصر؟ أرى نفسي داخل العصر وخارجه في آن. أما عزلتي وانسحابي، فمن دوافعهما أن الزمن الراهن هو، في صورة ما، زمن موت الأدب. أضحى الكتاب سلعة من السلع في نظام الإنتاج والاستهلاك، الهادف إلى الربح الأقصى، الذي أدخلته البورجوازية المالية والتجارية المنتصرة إلى التاريخ الحديث، والذي بات يهدّد البشر والأرض بالهلاك. وها هو يأخذ في طريقه الآداب والفنون. أجمل ما في النبالة الفرنسية والأوروبية، على عيوبها، احتقارها الربح التجاري. اليوم، صار الأدباء يكتبون أكثر فأكثر لجذب القراء، وليس للتعبير عن عوالمهم. إنه أدب القرّاء وليس أدب الأدباء. وهو أدب الذين يحسنون الترويج عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بصرف النظر عن قيمة ما يكتبون. من يهجس بالقراء وهو يكتب، ليس أديباً. ومن المحزن، والمضحك أيضاً، أن لا يعود ملايين القراء، حتى في مجتمعات الغرب المتقدمة، يعرفون ماذا يقرأون. كأنه لم تعد لهم ذائقة أدبية ولا خيار. ينتظرون كل خريف إعلان الجوائز الأدبية، الصادرة عن لجان تحكيمية عميقة الصلة بتجارة الكتاب وبعالم المال، ليتدفقوا فجأة إلى المكتبات، فيبتاعون، بملايين النسخ، الشيء نفسه.

ماذا تعني بـ «أدب الأدباء»؟
- ميّزت بين «أدب القرّاء» الذي يطغى أكثر فأكثر على الإنتاج الأدبي المعاصر في العالم، أي الأدب الذي يطمح إلى إرضاء أكبر قدر ممكن من القرّاء، كمستهلكين للـ«الكتاب السلعة»، فيدرّ أكبر قدر من الربح التجاري على الكاتب والناشر، من جهة، ومن جهة أخرى «أدب الأدباء»، المتحرر من هاجس القراء، الذي يعبّر فيه الكاتب عن عوالمه الخاصة الفريدة – هذا إذا كانت لديه عوالم- من دون أن يأبه لعدد قرائه. وهو الأدب الحقيقي، الذي بات نادراً أكثر فأكثر. الأدب الكبير هو إعادة خلق العالم. خلق عالم جديد، على صورة الكاتب ومثاله. ولا بد من أن يكون هذا العالم مختلفاً، وفريداً، وغنياً، ومتكاملاً، وموحّداً، وشعريّ الجوهر.

نشرت أخيراً كتابك عن «حركة الوعي» التي ترأستها وفيه توثيق شامل للتجربة مع أرشيفها النادر من خلال محاورات أجرتها معك الصحافية أورنيلا عنتر. لقد تميزت أجوبتك بطابعٍ وصفي. فقد قلت مراراً أنكم في حركة الوعي على اختلاف جوهري مع طرفَي اليمين واليسار، لكن لم يتبيّن منكم كيف. أعني منهجية فكرية مُتبعة تزاحم الأيديولوجيات المتناحرة؟
- لم تكن إجاباتي وصفية بل تحليلية بامتياز. كيف لم أتحدّث عن منهجية الوعي الفكرية؟ توقفت عندها طويلاً وحلّلتها بإسهاب (انظر الصفحات 15-36 من الكتاب). كان فكر «حركة الوعي» فكراً رائياً، سابقاً عصره، في تجاوزه اليمين واليسار التقليديين، اللذين وصلا إلى طريق مسدود، وفي تجاوزه الصراعات الكيانية البحتة، وفي نظرته إلى الوضع اللبناني، والنزاع العالمي، وفي تحديده وسائل العمل الخلّاقة القابلة للتنفيذ، وفي تركيزه على الثورة التعليمية كأداة أساسية لتغيير المجتمع، ما لم يطرحه أحد من قبل. وقد تبيّن لاحقاً أن هذه الثورة التعليمية هي التي نقلت كوريا الجنوبية من دولة فقيرة متخلفة إلى إحدى الدول الأكثر تقدّماً في العالم. وفي إدراك فكر «الوعي» لأهمية الدفاع عن البيئة الطبيعية والحية، وصون جمالية المشهد، ما لم يكن يتطرق إليه الفكر السياسي اللبناني، إضافة إلى نظرة «الوعي» النقدية الجذرية إلى نظام الإنتاج - الاستهلاك الحديث الذي بلا حدود، وخطره على مستقبل الإنسان والأرض، وقضايا أخرى متجاوزة زمنها. وقد تم ذلك في عصر كانت الأيديولوجيا الماركسية مهيمنة فيه بشدّة على الحركات التغييرية في لبنان والعالم، فلا يقدم أحد على تخطّيها، قبل أن تنهار بعد عقد ونصف من الزمن. وقد وصل معظم المثقفين اللبنانيين اليوم إلى ما كانت تطرحه «حركة الوعي» قبل نصف قرن.

في قراءتي لتجربة «حركة الوعي»، لاحظت أن معظم التحركات الشعبية من مظاهرات (وغيرها) التي قامت بها الحركة أتت كردّ فعل، إذ لم تكن الحركة في موقع هجومي قط.
- كيف ذلك؟ العكس تماماً هو الصحيح. من هاجمنا لنقدم على رد فعل دفاعي؟ «حركة الوعي» كانت تسكنها روح ثورية، وديناميكية حية، وجرأة كبرى على المبادرة والفعل. كانت أشبه بعاصفة. وكانت بالغة الشفافية، متحررة تحرراً مطلقاً من مواقع النفوذ في الداخل والخارج، مموّلة ذاتياً بالكامل، وتملك صورة عالية عن نفسها وعن العمل النقابي والسياسي. ما يشبه الأعجوبة ضمن الواقع اللبناني. أقول إنها أشبه بعاصفة، لأنها خلال أقل من ثلاث سنوات على نشأتها، خرقت الاصطفافات القديمة، وأوصلت حركة الشبيبة اللبنانية إلى ذروتها التاريخية. عملت بشكل حاسم على بناء «الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية»، وهو أهم إنجاز نقابي منذ الاستقلال (كتبت نظامه الداخلي بخط يدي)، وأطلقت «الوعي» تحرّك 1970 البارز، ثم تحرّك 1971 الكبير، وهو أهم تحرّك في تاريخ الشبيبة اللبنانية. وحققت قدراً بالغ الأهمية من الإنجازات المطلبية، لا مجال هنا لتعدادها، ليس أقلها المشاركة الطالبية في مجلس الجامعة وفي مجالس الكليات والمعاهد، وإصدار مراسيم الكليات التطبيقية على رأسها كلية الطب وكلية الهندسة بفروعهما كافة في الجامعة اللبنانية، ما فتح مجال الاختصاصات العلمية أمام أبناء الشعب، حيث كانت تقتصر على الأثرياء في الجامعتين اليسوعية والأميركية. الاتحاد الوطني، والمشاركة، والكليات التطبيقية، هي إنجازات ثورية.
أضحى الكتاب سلعة من السلع في نظام الإنتاج والاستهلاك الذي أدخلته البورجوازية المنتصرة إلى التاريخ الحديث


لقد رفعت الحركة صوتها عالياً ضد «أجهزة الحكم» وطقمه، لكن ما كان موقفها من النظام بشكلٍ عام؟ هل كانت حركة إصلاحية بطبعها تسعى لتحقيق العدل والمساواة (الركيزتان الأساسيتان في مطالبها)؟ ألم تغفل الحركة عن التصويب على المنحى الاقتصادي الذي عرف أنه ريعيّ يناسب قلّة قليلة من المجتمع؟
- كانت «حركة الوعي» تصوّب بشدة على هذه القلة المستفيدة بالذات. لم تكن حركة بورجوازية إصلاحية قط. كانت حركة شعبية، ينتمي جميع أعضائها وقياداتها إلى الفئات المتواضعة الدخل والفقيرة، ومعظمهم آتٍ من المناطق الداخلية، الريفية والجبلية. كانت تحمل في تكوينها حيوية الشعب وأهل الأرياف والجبال وجرأتهم وصلابتهم. لم تكن ترمي إلى إسقاط النظام اللبناني برمته. كلا. كان لبنان مساحة الحرية الوحيدة في العالم العربي، من المحيط إلى الخليج، المهيمنة عليه الديكتاتوريات الوراثية والمستحدثة، وكان ملجأ المعارضين والمضطهدين الأوحد. وكانت بيروت منارة الشرق. فلماذا نهدم النظام اللبناني بكامله؟ لنقيم مكانه نظاماً شيوعياً؟ أو نظاماً ديكتاتورياً عربياً؟ كان النظام اللبناني ينطوي على مواقع خلل خطيرة. وكنا نهدف إلى إحداث تحولات بنيوية جذرية فيه، اقتصادية وسياسية وأخلاقية وإدارية وتعليمية، من أجل تكريس الحريات، وتحقيق المساواة الاقتصادية - الاجتماعية، بصورة عميقة ومتلازمة، ومن أجل تحقيق الثورة التعليمية، والحفاظ على الطبيعة والمشهد، والتحديث العلمي والتكنولوجي، وتطوير المناطق الداخلية على نطاق واسع. كنا ملتزمين بعمق قضية الفقراء وقضية الشعب والحرية ونوعية المعرفة. وكنا ملتزمين تطوير الصيغة الطائفية نحو العلمنة. وكنا شديدي الاهتمام بالانفتاح على محيطنا العربي والتزام قضاياه الكبرى، خصوصاً قضية فلسطين، وحق الشعوب العربية بالحرية والديموقراطية داخل أوطانها، وحقها بالتطور والترقي والانفتاح على العالم وعلى العصر.

هل فشل الحركة الأساسي يعود إلى جهل أعضائها بكواليس القضايا و«البازار» السياسي الذي يتطلب مراوغةً، مواربة، هل يمكن الاستنتاج أن الوطن أكبر من الجامعة ولا يشبهها بشيء خصوصاً إذا كان محكوماً من الكسلى؟
- لم تفشل «حركة الوعي» قط. أين فشلت؟ هل كان المطلوب منها السيطرة على الحكم خلال السنوات الست من عمرها؟ كانت في ذروة صعودها، حين فاجأتها حرب 1975. رفضنا التسلح، ورفضنا المشاركة في الحرب، فجمّدت الحركة نفسها. لقد قطعت حرب 1975 الطريق على «حركة الوعي» وعلى كل حلم لبناني. أما مثالية الحركة، فكانت سلاحها الأمضى. المثالية؟ هي ما يفتقده لبنان اليوم، ولا قيامة له من دونها.

الجامعة اللبنانية في أزمة. ما هو مصيرها برأيك؟ وما هي وصيتك لطلابها؟
- لا وصية لي أعطيها، ترى من يصغي إلى الوصايا؟ الجامعة اللبنانية في أزمة، لأن لبنان في أزمة. لبنان واقع أرضاً. في زمن «حركة الوعي»، كانت الجامعة اللبنانية طليعة المجتمع اللبناني وقاطرته نحو التغيير والتطوّر. وكانت أيضاً مختبر الفكر السياسي الفريد في العالم العربي. ما من حركة سياسية من المحيط إلى الخليج، إلا وكانت حاضرة في الجامعة اللبنانية، زهرة الحرية. بعد سلسلة الحروب والفتن الطويلة التي انطلقت عام 1975، والتي لم ننتهِ منها بعد، غرقت الجامعة اللبنانية في خضم الطوائف والمذاهب والأحزاب والميليشيات وأقطاب السياسة، الذين توزعوها وتقاسموها. لم تعد طليعة المجتمع وقاطرته. أصبحت صورة باهتة عنه، وبات يجرّها وراءه. الـ12 ألف طالب في زمن «الوعي»، كان لهم دور مجتمعي وفكري رائد ومؤثر للغاية. أي دور اليوم للـ80 ألف طالب في الجامعة اللبنانية؟ لا شيء تقريباً. لا أحد يدرك اليوم مصير لبنان، ولا مصير الجامعة اللبنانية.

هل يمكننا بصريح العبارة القول بأن «حركة الوعي» استنبطت هويتها من روحية النهضة المشرقية، مما يمكن أن نسميه «المسيحية المشرقية» التي امتازت بانفتاحها على الغرب ومحيطها العربي في آن، وبجهدها الحثيث للحفاظ على اللغة العربية وقبولها الاختلاف في حين أن الأحزاب المسيحية الأخرى كانت إلغائية بطبعها ترفض الآخر؟
- يمكن استنتاج ذلك، مع ثلاثة تصويبات: «حركة الوعي» معنية بالفكرة اللبنانية وهي غير «المسيحية المشرقية»، الانفتاح على الحداثة أكثر من الانفتاح على الغرب، والسمة الإلغائية ليست حكراً على الأحزاب المسيحية، بل هي سمة جميع الأحزاب الطائفية.

في خضم هذا الصعود التدريجي للحركات الشعبوية السياسية والظهور المفاجئ لمواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت منصّات للتعبير عن الرأي، كيف يمكنك أن تصف «الوعي» اليوم؟ وكيف يمكننا أن نواجه هذا الاستيلاب؟
- إذا كان من خلاص، فهو في إطلاق العقل النقدي من عقاله، وفي إطلاق حرية الروح.