فجأة، وبعد ستة عقود من التجهّم والجدية المبالغ فيهما، اكتشف الجزائريون ـــ أخيراً ـــ أنهم يمكن أن يكونوا ثوّاراً ومبتسمين في آن واحد! وإذا بالبلد الذي دفع مليوناً ونصف مليون شهيد للانعتاق من نير الاستعمار، والذي كان أول منجز حققته دولته الوطنية، بعد الاستقلال، نحت مصطلح عجيب هو «دبلوماسية القوة»، يطرح العنف الثوري جانباً، ليقدّم للعالم استعراضاً مبهراً لغضب شعبي جعل من السلمية الناعمة سلاحاً فتاكاً بوجه واحدة من أعتى أشكال الأوليغارشية، القائمة على تحالف المال الفاسد والاستبداد العسكري الجائر. نجح الحراك الجزائري في إرغام الطاغية على الاستقالة صاغراً، معتذراً عن «التقصير»، راجياً من شعبه صفحاً لن يناله. واقتيد رجال المال الفاسدون، واحداً تلو الآخر، إلى قاعات التحقيق وزنازين السجون، ليلاً، تماماً كما راكموا أموالهم ونفوذهم تحت جنح الظلام. واضطُر قائد الجيش الى الاحتماء من بطش «القوى غير الدستورية» بعباءة «الشرعية الشعبية» التي أسّس لها الشبان الذين وصفهم ذلك القائد نفسه، في بداية الحراك، بـ«المغرّر بهم».
لكن ذلك كله ليس سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد. فالتحول الذي أحدثه هذا الحراك الذي هبّ فجأة كالإعصار، غاصت تأثيراته عميقاً في الضمير الجمعي للجزائريين، لتصالحهم مع ذواتهم وهوياتهم، بكل ما تختزنانه من ثراء وتنوع. ظل الجزائريون، على مدى عقود، يتعاملون مع الفضاءات العامة لبلادهم بسادية عجيبة. حريصون على نظافة بيوتهم، مستهترين بنظافة الشوارع والساحات العمومية. ظرفاء وطيبون في مجالسهم الخاصة، خشنون وعدوانيون في الفضاء العام!
نبعت تلك المفارقة من جرح غائر في الشخصية الجزائرية، يضرب بجذوره عميقاً في تاريخ البلاد. منذ أن غزا الرومان موطن أجدادهم «البرابرة»، كانت كل الأنظمة التي حكمت بلادهم أنظمة غازية، ظالمة، ودخيلة على أرضهم. ما رسخ في نفوسهم عقلية الـ«بايلك»، القائمة على معاداة الدولة، واعتبار كل ما هو موجود في الفضاء العام ملكاً لـ«العدو»، وبالتالي يجب أو يجوز نهبه وتخريبه. لم تنجح الدولة الوطنية، بعد جلاء الاستعمار، في محو تلك العدائية تجاه الدولة والمال العام، بل زادتها حدة واحتقاناً، لأن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة…
نجح الحراك الحالي، وذلك أهم منجزاته على الإطلاق، في أن يصالح الجزائريين مع الفضاء العام، فشهدنا شباناً ينظفون الشوارع بعد المظاهرات، ولجان أحياء تصلح الأرصفة وتزرع الأشجار في الفضاءات التي ظلت مهجورة على مدى عقود، وأطباء وممرضين ينظفون مستشفياتهم، وعمالاً يعتنون بأماكن شغلهم. لذا، وبقطع النظر عن المآلات السياسية الآنية، يمكننا التكهن، جازمين، بأن هذا الشعور الجديد بالانتماء، وهذه اللُّحمة الوطنية الوليدة، كفيلان بأن يحصّنا الجزائر وثورتها السلمية المبهرة ضد أي مكائد أو هزات قد تعترض مستقبل حراكها.

* مواطن جزائري قيد التأسيس