تمّ اعتقال الكاتب المصري محمد المخزنجي (1949) خمس مرات. الأولى عندما كان طالباً في المرحلة الثانوية ونظم ندوة عن كتاب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين. بعدها، ألقت المباحث الجنائية القبض عليه وتم التحقيق معه باعتباره عضواً في خليّة شيوعية. كانت هذه المرة الأولى التي يسمع فيها بكلمة «شيوعي» ولم يكن يعرف معناها. كما أُلقي القبض عليه، بعد انتفاضة الخبز في مصر في 18و19 كانون الثاني (يناير) 1977. أثناء التحقيق معه، لم يستجب لنصائح المحامين وزملائه المُعتقلين بأن ينفي الاتهامات الموجهة إليه. إذ لم يكن يرى أيّ ضرورة لإخفاء قناعاته الفكرية في نظام الحكم آنذاك. خلال التحقيق معه، قال إن هناك عصابة تحكم مصر، على رأسها رئيس الدولة، وذكر أسماء العصابة. أضاف: «تظاهرتُ وسأتظاهر ضدّ هذه العصابة وسياساتها المنافية للعدل والحرية حتى تسقط». اعتُبرت اعترافاتُه تحريضاً ومحاولة لقلب نظام الحكم، وتم اعتباره المحرّض الرئيس على مظاهرات مدينة المنصورة وتحميله كل ما نتج عنها، وطلبت له النيابة الأشغال الشاقة المؤبدة. ظلّ المخزنجي سجيناً سبعة أشهر كاملة، يرفض أن يغيّر أقواله. وفي إحدى جلسات المحاكمة، ظهر «النبيل» أحمد نبيل الهلالي على رأس فريق الدفاع في القضية. لم يطلب من المخزنجي أن يتراجع عن أقواله، بل اعتبر اعترافاته شهادة سياسية مُشرِّفة، وظل الهلالي يترافع خمس ساعات متواصلة عن الفارق بين مفهوم «قلب نظام الحكم» و«قلب نظام الدولة». يقول المخزنجي: «في خضم المرافعة، اعتذر الهلالي عن طول الوقت، فقال له رئيس المحكمة: اتفضل يا أستاذ نبيل استمر. احنا هنا جايين نسمعك»... ليحصل المخزنجي على البراءة، ويؤسّس هذا الحكم أساساً قانونياً لحق المُعارضين في العمل سياسياً على تغيير «نظام الحكم»، طالما أن ذلك لم يتجاوز إلى هدم «كيان الدولة». محمد المخزنجي يخطو الآن نحو السبعين. يبدو بوجهه الطفولي المبتسم دائماً، كأنه لم يعرف «الشقاوة» أو «التمرد» أو «التردد على زنازين المحروسة متّهَماً». لكن خلف هذا الهدوء والسلام مع العالم، هناك شخص آخر. يضحك وهو يحكي عن سنوات «الجموح»: «أنا شخص من طبعتين، طبعة هادئة لها لزومها، وأخرى جامحة لها ظروفها. عندما كنت طالباً في المدرسة، كنت ذلك الطالب المتفوّق، صاحب الملابس الأنيقة. ولكن بمجرّد أن أخرج من الدرس، تبدأ الحماقات. شخص بمثل هذه المواصفات، كان ينبغي أن يكون مجنوناً أو شاعراً أو مجرماً. واخترت أن أكون شاعراً». كانت البداية كتابة قصائد «العامية» التي يراها «محاولة تلمّس صوت الغناء عند الذات الذي يصاغ في شكل الشعر، ثم اكتشفتُ أنني لا أصلح كثيراً لهذه المهمّة، وبخاصة أنّ أفق طموحي أبعد من المُتاح، فتركت الشعر». تحوّلت القصيدة، لدى المخزنجي، إلى صورة قصصية نثرية. شيئاً فشيئاً، اتّخذت شكل القصة. في القصة، وجد المخزنجي ذاته أكثر، فهي «فن مواجهة الموت» من وجهة نظره، «لأنك تنجز حيوات وحيوات عبر القصّ». لكنه لم يغادر الشعر حتى بعد استقراره على القصة عبر لغة كثيفة شفافة وحادّة وشديدة الإحكام، تُعلي من القيمة البصرية وتجعلها الدلالة الكاشفة والمحورية في البناء. في كانون الثاني (يناير) 1971، ظهر اسم محمد (علي) المخزنجي للمرة الأولى في الصحافة، عندما نشرت له مجلة «سنابل» قصته «رحلة فارس زجاجي صغير على ظهر حصان من السكر». وقتها، احتفى به محرر المجلة الشاعر محمد عفيفي مطر، معتبراً صاحبها «كاتباً عالمياً». لكن المخزنجي احتاج 12 عاماً لإصدار مجموعته القصصية الأولى «الآتي» (1983)، بل كان متردّداً أيضاً في نشرها، لولا الحاج الروائي عبد الفتاح الجمل الذي جمع القصص بنفسه، وقدّمها للمطبعة. أخيراً، أصدر المخزنجي ثلاثة كتب دفعة واحدة، سيرة، ونوفيلا ومجموعة قصصية. يقول: «معظم ما نُشر لي انتهيت منه منذ عشر سنوات، ولكن النشر بالنسبة إليّ هاجس مزعج، أشعر أن الكتاب مسؤولية كبيرة جداً». الكتب الثلاثة التي أصدرها المخزنجي أخيراً عن «دار الشروق» في القاهرة هي: كتاب يضم روايتين قصيرتين هما «بيانو فاطمة»، و«البحث عن حيوان رمزي للبلاد»، ومجموعة قصصية بعنوان «صياد النسيم»، وكتاب «مع الدكتور محمد غنيم» الذي يشكّل سيرة الطبيب المصري الشهير محمد غنيم. نصوص المخزنجي لا تخضع للتصنيفات الأدبية السائدة، فـ «البحث عن حيوان رمزي» أطلق عليها المخزنجي تسمية «تكريسة»، إذ يجمع الكتاب بين البحث والقصّ والمقال، بحسّ تجريبي ساخر تتوالد من خلاله الأفكار في عصف كتابي يبلغه الكاتب عبر رؤية واسعة للحالة العالمية والاجتماعية. هنا لقاء مع الكاتب المصري حول تجاربه الحالية ونظرته إلى الأدب والقصة والكتابة وتقنيّاتها المختلفة.
كيف تصنّف أعمالك الثلاثة؟
- لست مهتماً بما أكتب في الحالات التفصيلية. أهتم أكثر بأن أترك طريقة تفكير، قاعدة أو مقياساً تحتكم إليه. الآن لا أريد أن أثبت وجودي، وإنما أطمح أن أكون كاتباً يقدم شيئاً غير مكرّر أو مطروق، شيئاً متفرداً. وإذا لم استطع أن أفعل ذلك، فلأكن قارئاً جيداً وهذا يكفي! أطياف الإبداع والأدب واسعة ومتعددة، لكننا نصرّ على تضييق حدودهما واختصارهما في شكل الرواية. لا بد من أن تتحرر الأشكال الأدبية من هيمنة الترويج والثبات النقدي، وأفضل أن يكون لكلّ كتاب نسقه الخاص. وقد كتبت «بيانو فاطمة» بالحس الموسيقي في قالب النوفيلا، واستخدمت فيه تقنية «التخييل الذاتي»، التي تقوم على مزج ما عايشته بالخيال. أما «البحث عن حيوان رمزي للبلاد»، فلم أستطع تصنيفه، فهو ليس رواية ولا قصة، ولا مقالة ولا بحث، لكنه يحتوي على ملامح من ذلك كله، فاستعرت له مصطلح «تكريسة» من الجذر اللغوي العربي «تكريس» الذي يعني ضم الشيء بعضه إلى بعض. أما في «صياد النسيم»، فأبحث عن الضوء في آخر النفق، وكل قصة في هذه المجموعة تحمل رسالتها الخاصة، وتعمّدت إيصالها بإيجاز، فـ «الإيجاز صنو الموهبة» كما قال كاتبي المفضل تشيخوف، والذي كلّما نشدت الراحة ذهبت إليه في بيته.

هل أنت ضد القيود؟
- (يضحك) رغم أنني أبدو شخصاً هادئاً، إلا أنني ضد القيود وأنفر منها، لم أكن هادئاً أبداً، والمعروف أنني في الجامعة صانع اضطرابات لا مثيل لها، وكانت السلطة تقبض عليّ كقائد سياسي، رغم أنني لم أكن قائداً، ولا أريد. من هنا أمضيت عامين في السجن. وهي تجربة هامة، فقد سجنت في مفترق مهم من حياتي، وكنت ذا نزوع فوضوي شديد جداً. السجن يرتّب عليك أعباء في مواجهة الذات والآخرين، ومواجهة الألم الإنساني.

لكن ماذا عن الشكل الأدبي؟ النقاد يقولون إنك من القلّة المخلصة لفن القصة القصيرة، وبعضهم يرى أن قصصك يمكن أن نعتبرها رواية بسبب تشابه الجو النفسي لكل كتاب ووحدة الموضوع، وأنت تصنّف أعمالك بخلاف ذلك. مرات متتالية قصصية، ومرات ريبورتاج قصصي، أو تكريسة أو جدارية... كيف تنظر إلى مثل هذه التصنيفات؟
- ما أكتبه ينتمي إلى مملكة السرد. والنقد الحديث لا يطلق عليه قصة إنما سرديات، هي مملكة واسعة جداً تنطلق منها الحدوتة والحكاية والحكاية الخرافية، وحتى النكت أعتبرها قصة قصيرة ثم الرواية. وبخصوص مسألة الشكل الأدبي، وجدت نفسي لا أعمل بشكل تقليدي في ما يسمّى مسألة المجموعة القصصية. طبعاً في البداية، لم أكن أمتلك جرأة مواجهة المستقرّ نقدياً في تسمية الأنواع الأدبية، فكنت أسكت إنّما اكتشفت أنني أنشر بشكل مختلف، فلا أنتظر أن أنشر القصص منفردة على مدى سنتين مثلاً، ثم أنشر ما تبقى في كتاب قصص تضرب في اتجاهات مختلفة. أنا أعمل إما من باب أن الشكل هو الذي يقودني مثل المجموعات الأولى «الآتي» و«رشق السكين» (القصص القصيرة جداً أو الأقاصيص) أو أن الموضوع هو الذي يقودني، وهذا يعمل مثل مسار من مسارات العقل، أي ممتدّ، وأحس أنه سيستمر فترة طويلة.
أنا مهتم بما يعرف بـ deep reportage التي يمثلها كتاب «نظرية الواحد في المئة» للصحافي الاستقصائي رون سسكند

في كتاب «حيوانات أيامنا»، هناك قصص كتبت قبل النشر بثلاثة أو أربعة أشهر، وهناك قصص كُتبت قبل 15 عاماً. صحيح أنّي راجعتها مرة أخرى، لكن منذ البداية كنت أعرف أنني أسير في هذا الطريق وهو قراءة الوجود الإنساني من خلال التراجيديا التي تحدث للحيوان، فأكتب وأراكم في هذا المجال. ولست أراكم لإنجاز مجموعة قصصية. قبل ذلك، كان المسار هو البحث عن الخارق أو غير المألوف على مستوى فيزيقية الإنسان والوجود، ومن ثم الطموح لما يسمى الميتافيزيقي والبارا سيكولوجي في كتاب «أوتار الماء». قبل ذلك، كان الشكل هو المسار. كتاب «سفر» الذي هو كتاب رحلة في مشاهد ثم «لحظات غرق جزيرة الحوت» الذي أسميته ريبورتاجاً صحافياً والذي أراه الآن نوعاً من رواية «الحقيقة القصصية». ويمكن أن نرجع في ذلك إلى نقّاد عالميين مثل ديفيد لودج وكتّاب أمثال ترومان كابوت وماركيز وما يسمى «رواية الحقيقة القصصية» وهو شكل يمزج ما بين الريبورتاج والسرد الأدبي وهو متحقق تماماً في «لحظات غرق جزيرة الحوت».

ألم تُغرِك كتابة الرواية، بخاصة أن النقاد يرون أنّها ديوان العرب الآن؟
- أيّ رواية تقصد، هل تلك التي بدأت منذ روبنسون كروزو أو دون كيخوته في الغرب أم من الحكاية الإطار ومثالها الأعظم «ألف ليلة» في الشرق؟ الحكاية الإطار وداخلها الموزاييك من قصص مختلفة. إذا كانت «ألف ليلة وليلة» علّمت كل الروائيين العظام... إذا كانت هذه هي المسألة، فالنقد يقول إن «لحظات غرق جزيرة الحوت» رواية ومتتالية سفر رواية. فالحكاية الإطار هي الرحلة، وداخل الرحلة هناك المسار الذي يتكون عبر لقطات وأقاصيص مختلفة حتى النهاية. المفروض ألّا ينصاع الكاتب تماماً للأشكال الأدبية المقررة، لكن أن يسمّي منجزه الفني بالشكل الذي يقتنع أنه ينطبق عليه.


لم أعد مستلباً بالقالب الفني للرواية بأشكالها التقليدية وما بعد التقليدية، لأن الواقع فيه (fiction) يتجاوز كثيراً جداً الواقع، أصبحت المهارة كيف تسجل ذلك، لذلك أنا مهتم بما يعرف بـ deep reportage أو التحقيق المتعمّق، التي يمثلها كتاب من أروع ما قرأت هو كتاب «نظرية الواحد في المئة» لرون سسكند الصحافي الاستقصائي الأميركي البارز والحاصل على جائزة «بوليتزر». عنوان الكتاب يشير إلى نظرية ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي بوش الابن، التي أطلقها بعد أحداث 11 سبتمبر في ما سُمي «الحرب ضد الإرهاب». نظرية برّرت الضربات الاستباقية حتى لو كانت نسبة الخطر المحتمل لا تتجاوز 1%. أنجز سسكند كتابه في مزيج من الروائي والتسجيلي والوثائقي. يتحرك بين كل هذا بسلاسة، وأظن أن هذا هو الشكل القادم في الأدب والفن في الواقع الفانتازي الجنوني الذي يعيشه العالم. ولذا أتوقع أن تبهت الأشكال الأدبية بصورتها التقليدية اللهم إلا إذا كان هناك عمل خارق.

لكن في كتاباتك هناك تعشيق بين ما هو أدبي وما هو علمي وما هو معرفي أيضاً. هذا يطرح العديد ما الأسئلة: لو لم يدرس محمد المخزنجي الطب، هل كان مشروعه الأدبي سيختلف عما هو عليه الآن؟ - بالتأكيد، فجزء كبير من تكويني الثقافي هو تكوين علمي ليس بحكم الدراسة فقط، ولكن بحكم السير وراء الدهشة في العلم. كنت في السنوات الأولى للدراسة طالباً أقرب إلى الفشل لأنني كنت مهتمّاً بأمور خارج المنهج الدراسي تماماً. لكن الوضع اختلف في السنوات النهائية، فكنت أقرب إلى التفوق. كانت العلوم جامدة في البداية، لكن عندما بدأت أرى اقتران العلم بالإنسان وسلوكه العضوي، بدأت المسألة تصبح مدهشة خاصة في المرحلة الإكلينيكية التي يرى فيها طالب الطبّ المرضى في المستشفيات. أما عندما صرت اختصاصياً، فالوضع اختلف تماماً إذ صرت أكثر من متفوق. صرت شغوفاً بالعلم في الاختصاصيين اللذين حصلت عليهما وهما الطب النفسي والطب البديل الذي لا أحب تسميته بهذا الاسم الذي ابتذله الأفّاقون والمدعون. بعد ذلك، كانت فترة عملي محرراً علمياً لمجلة «العربي»، وهي فترة أعتز بها كثيراً حتى الآن، لأنها جعلت عملي هو هوايتي، ووضعتني في قلب متابعة كل جديد في المجال العلمي في العالم، وهذا يفيدني في المجال الأدبي حتى الآن وغالباً في المستقبل. وهناك قصة نشرتها أخيراً لم أضمها إلى كتاب بعنوان «حكاية سرطان»، وهي مدينة للمعرفة العلمية الميسرة والمعمقة للمحرر العلمي، لأن سلوك الخلية السرطانية يكاد يكون هو نفسه سلوك الإمبريالية والطغاة والبلطجية. تخيل أن كل هذا تسلكه خلية يحدث لها لوثة ما.
سلوك الخلية السرطانية يكاد يكون هو نفسه سلوك الإمبريالية والطغاة والبلطجية

أتذكر أن أول مرة أتوقف فيها أمام هذه المسألة، كنت في إعدادي طب في محاضرة عن العلوم الأساسية، فتحولت كلياً إلى آذان مصغية حتى أتشرب هذه المعلومات وظللت أطورها حتى وصلت إلى معرفة عميقة بالمرض، وتواصلت هذه الرحلة المعرفية للسرطان حتى الآن. العلم مدهش كما لو كنت تتفرّج على مجتمع بشري فيه الطغاة والمحبون والمنتصرون والمثقفون والأجلاف والشعراء. إنني محظوظ لأن يد القدر منحتني هذه الفرصة لرؤية الوجود الواحد متجلياً في الكبير جداً والصغير جداً من المخلوقات. وفي مقال أخير، كتبت عن حميمية الشكل الكروي للخلايا الحمراء في الدم، الذي يشبه شكل الأرض والشمس والقمر والخصية والبويضة وتحديد آينشتاين للكون المتاح رصده، ثم تشويه هذا الشكل الحي الكامل بكرة برليوس الروماني للتعذيب بحرق البشر في كرة نحاسية مغلقة! العلم مدهش جداً إلى درجة أنه يوصلني إلى حدود فهم الخارق والخرافي كحقائق لم نعرف بعد قوانينها. ثم إن العلم في ذراه، بخاصة في الفيزياء الفلكية والمواد الجديدة والفيزياء النظرية، يقود إلى الإيمان، بل الإيمان العميق من خلال اليقين في وحدة الكون ووحدانية الخالق.

لكن رغم اهتمامك بما هو علمي، لكن في العمق يبدو الهمّ السياسي واضحاً في أعمالك. حتى حين تكتب عن «بيانو»، فأنت تتحدث عن القيود التي وضعتها السياسة على البشر. وحين تكتب عن «الحيوان الرمزي»، فأنت تشير بوضوح إلى مصر تحت حكم مبارك؟
- من الترف بمكان أن يقول كاتب في العالم الثالث إنه ليست لديه علاقة بالسياسة. لا يمكن. طبعاً في النهاية كل شيء سياسة. عندما قال العقاد: «علمني كيف أحب الزهرة، أحب الوطن» كانت البلاغة تشير إلى أن الارتقاء بالذوق الجمالي تؤدي إلى الارتقاء بالأداء الوطني. بمعنى إذا كان هناك ذوق وحس، بالتأكيد يصبح الإنسان أرقى. فمن يمتلك الذائقة الجمالية العالية، يستقبح أن يكون فاسداً أو جاسوساً أو منافقاً. الكتاب فيه بالتأكيد ظلال سياسية وجزء وخطاب سياسيين، لكن من خلال أدوات مختلفة هي أدوات الأدب. من قرأ الكتاب، يعلم أنه شيء مختلف تماماً عما أكتبه في الصحافة التي تعتمد في جزء كبير منها على الجزء المعرفي الذي أختزنه عن الكائنات والحيوانات والعالم.

أين الواقع والخيال في ما تكتبه؟
- أعتقد أنني سأشعر بالموت لو فقدت العثور على المدهش وغير المألوف الذي يثير أسئلة جمالية بداخلك وليس المستهجن أو المستغرب. الواقع فيه مدهشات كثيرة تتطلب أن تذهب إليها. لذلك أنا مهتم جداً بموضوع الرحلة والبحث. كلما سعيت، كلما وجدت. لا يمكن أن تجلس في ركن من العالم ساكناً، كي ترى شيئاًَ مدهشاً، وإن كان ذلك ممكناً في بعض الأحيان على مستوى التأملات الذاتية التي هي بدورها تشكل نوعاً من الرحلة، لكنها رحلة داخلية، إنما ذات الأشياء ومكونات البيئة غير البشرية مطلوب الالتحام بها، ولو في مناطق محدودة. وبالنسبة إلى مسألة الواقع والخيال، ما من قصة أو نص من النصوص القصصية في الكتاب، إلا ولها نواة واقعية لأنني أنتمي إلى نوع من الكتّاب لا أستطيع أن يكتب إلا إذا تلامس الموضوع إما عبر مشهد أو مقابلة شخص أو حدث معين. بعد ذلك، هناك لعب المخيلة، إنما لا بد من وجود نواة واقعية، تنبتها المخيلة وتخرج منها الأغصان والفروع والثمار، وإلا يستشعر الإنسان أنّه هائم في الفراغ لا يقف على أرض متماسكة. وأخطر شيء في الكتابة هو عدم الشعور بالملكية الخاصة للموضوع. لا بد من تلامس حتى لا يشوب الكتابة شعور بالانتحال، فهذا الشعور مدمر جداً لمصداقية الكاتب والكتابة.

ماذا عن الصحافة؟ هل أفادتك إبداعياً؟
- الصحافة بالتأكيد أفادت وأضرّت في آن. لم أكن أتصور مثلاً أن أكتب ثلاثة آلاف كلمة في يوم واحد أو يومين، لكن العمل يتطلب ذلك أحياناً. عندما كنت في رحلة أو في استطلاع، كان يفترض أن أسلمه بعد أسبوع أو أسبوعين، كانت تجري الأيام وأجد نفسي فجأة أمام يوم أو يومين من موعد تسليم الموضوع. هذا كان بمثابة جنون بالنسبة إليّ. أن أكتب ثلاثة آلاف كلمة في يومين أو ثلاثة، لكن الجنون تحقق عبر الصحافة التي أعطتني جرأة على الكتابة، لكنها سرقت أو لنقل أخذت مني الوسواس الذي هو جزء مهم لكتابة نص وإعادة كتابته وبنائه وهدمه وهي عملية مهمة في الأدب. وهذا متحقق في النصوص الأولى. وكان يمكن أن أكتب قصة صغيرة ستة عشر مرة لأصل إلى الشكل النهائي. طبعاً، تتحقق الآن عملية الهدم والبناء من خلال المنجزات التقنية مثل الكمبيوتر. وحالياً أكتب مباشرة على الكمبيوتر، وهو جهاز ساحر وهدية عظمى من منجزات العلم والتقنية للكاتب. غير أن الإقلاع ـــ أي كتابة السطرين الأولين في العمل ـــ يتمّ عادة بالقلم، ثم أكمل على الكمبيوتر، وهذا يعطي فرصة للعب اللغوي. مسألة الهدم والبناء المرهقة تتحول إلى لعب. الفترة التي عملت فيها في الصحافة، أعطتني الجرأة كي أنساب في المساحة ويختفي الوسواس الخاص بالنص. هذا مفيد في الاستبحار في الكتابة، ومضرّ في عدم الاختزال أو التصفية أو البلورة النهائية للعمل.

من الترف بمكان أن يقول كاتب من العالم الثالث إنه ليست لديه علاقة بالسياسة

هذا من وجهة نظر الكاتب وطموحاته لأن الناقد أو القارئ يمكن أن يرى شيئاً آخر. أفضل أن تكون هناك حالة وسط بين الاجتراء في الكتابة والوسوسة بشأن دقة النص. ومن هنا الصحافة أفادت وأضرت، والاستمرار في العمل في الصحافة ليس مضراً فقط، بل قاتل إذا طال أكثر مما ينبغي. وكما قال ماركيز، فسبع سنوات من العمل في الصحافة تكفي وقبلها قالها هيمنغواي. وهو ما جعلني أفكر لماذا سبع سنوات، فاكتشفت أنه بالإضافة إلى كونه رقماً مقدساً يكاد يكون رقماً سحرياً، إلا أن معظم خلايا الكائن تقريباً باستثناء المخ وربما بعض أجزاء الكبد تتجدد كل سبع سنوات. وفهمت معنى الجملة أنه «لا تفني أكثر من كينونة من كينوناتك في الصحافة». وأنا أصغي إلى هذا التحذير الآن بكل جوارحي وبالإحساس بأن ما تبقى من العمر والصحة ليس أكثر أبداً مما انقضى ومضى. ليساعدنا الله.



لا سيرة مطلقة
يختفي محمد المخزنجي عن الصحافة، يعتذر عن عدم كتابة مقالاته الدورية، ما يعني أنه يعكف على عمل جديد. لكن هذه المرة يبدو أنّ الأمر لن يطول، إذ لديه ثلاثة أعمال جديدة قد تصدر هذا العام هي: «جديد عجائب المخلوقات» الذي يمزج بين النص العلمي والأدبي بالصور، ويعتبره «كتاباً استثنائياً في تجربته». وهناك أيضاً مئة أقصوصة لم تنشر من قبل يحاول من خلالها «صياغة العلم في أقصوصة»، وأخيراً جداريته «نهر الجنون» وهو عمل ملحمي طويل يستفيد فيه من عمله لفترة طويلة كطبيب نفسي. نسأله أخيراً: ألا تفكّر في كتابة سيرتك الذاتية الثرية؟ يبتسم: «هي منثورة في كل أعمالي، لا سيرة مطلقة، عندما يمسك الكاتب قلمه، فإنه سيقدم سيرة للمخيلة، وبالتالي كل السير الذاتية محض خيال»!