استهل داغ نِكلاوس هاس كتابه «نجاح وكتمان ـــ العلوم العربية والفلسفة في عصر التنوير» ( Success and suppression: arabic sciences and philosophy in the renaissance ــــ منشورات جامعة هارفرد ــ 2016) بقول يلخص محتواه هو: «في المدرسة الثانوية التي تعلمت فيها في مدينة كيل، احتلت نسخة من لوحة أنطون منغ العائدة إلى القرن الثامن عشر «مدرسة رفائيل الأثينية» صدر قاعة المحاضرات، مذكرة الجميع بحاملي مشعل الحضارة الحقيقيين. وفي فترة لاحقة، تبين لي، وأنا أدرس اللغة العربية، أن أبطالي في الثقافة العائدين إلى عصر النهضة الإغريق واللاتين، كانوا، في أحيان كثيرة، على خلاف مرّ، مع أبطالي الجدد وهم الفلاسفة والعلماء العرب».
لكن أين تكمن الحقيقة؟ هل حقاً كان عصر النهضة في القارة الأوروبية ذا أصول إغريقية ولاتينية فقط، ولم ينهل من علوم العرب والمسلمين، بل رفضهم لأسباب علمية؟ أم أن رفض إنسانيّي (Humanists) ذلك العصر أساسه فكري/ إيديولوجي؟ وفي حال كانت الإجابة تكمن في السؤال الأخير، فهذا أمر خطير ينتهي بالعلم إلى أجندة إيديولوجية، وعلينا في هذه الحالة أن نعدّ كل «علم» ينطلق من مفكرة إيديولوجية تزويراً للتاريخ.

الأكاديمي والشاعر الإيطالي فرنشيسكو بترارك، الذي يعد مطلق عصر التنوير في القرن الرابع عشر، كتب في عام 1370 ت س، «من غير السهل إقناعي بأن أي أمر جيد يمكن أن يأتي من بلاد العرب». وكتب الطبيب الألماني وعالم النباتات ليونهارد فوكس في عام 1535 «ليس بإمكان المرء العثور في إنتاجات الإغريق، على ما هو ليس بصافٍ وعلمي، وليس بمصقول ومنتج بأعلى درجات الفطنة، لكن ليس بإمكان المرء العثور على أي أمر لدى العرب ما هو ليس بعفن وزنخ».
أما الطبيب الألماني والجغرافي والفلكي لورنتس فريز من إقليم الإلزاس، وصاحب مؤلف «مرآة الطب» (spiegel der arznei) الذي صدر في ثماني طبعات بين عامي 1518 و1557، فكتب في عام 1530 «نرى أن علم الطب قد حطم، وأن أكثر الهراء خطورة يتم استجلابه من العالم السفلي». فابن سينا يُدان، ويتم احتضان أكاذيب أبوليوس (أفولاي، 124-170 ت س. خطيب وفيلسوف أفلاطوني، وصاحب مؤلف «الحمار الذهبي»). أما اللغوي الفرنسي غيوم بوستل الذي أتقن العربية والعبرية والسريانية واللاتينية والإغريقية القديمة، وعالم الفلك، وعالم القبالا، والدبلوماسي والبرفسور ومن أتباع الدين العالمي، ومبعوث الملك الفرنسي فرنسِس الأول إلى بلاط السلطان العثماني سليمان القانوني ومؤسس التحالف العثماني ــ الفرنسي، فكتب: «ما تعثر عليه في كتابات ابن سينا مشرقاً وواضحاً في صفحة أو اثنتين، فإن غالِن (الطبيب والجراح والفيلسوف، وطبيب الإمبراطورية الرومانية - 162-217 ت س) بالكاد يكفيه خمسة أو ستة مجلدات»، والقوائم تطول.
يضيف الكاتب إنّ إنسانيي عصر النهضة أقنعوا أكثرنا بأن تعليقات الكتاب الإغريق على أرسطو أفضل من ابن رشد، وأن جيوفاني مرندولا كان محقاً في دعوته لنا لنبذ الكتابات العربية في علم الفلك والعودة إلى مؤلف بطليموس. بهذا، فإن عصر النهضة شكل مرحلة الانفصال عن المراجع العربية، إلى درجة أنّ العلماء العرب الذين كانت أسماؤهم تتردد على لسان كل طالب علم مسيحي في تلك القرون، قد محيت من الذاكرة الثقافية الأوروبية. ويعد هذا تطوراً خطيراً إلى درجة استدعى تدخل «الجمعية البرلمانية للمجلس الأوروبي» في عامي 1991 و2002، داعية إلى تغطية أشمل في المناهج المدرسية لإسهامات الحضارة الإسلامية في الثقافة الأوروبية.
يوضح المؤلّف أنّ ثمة اتجاهين في كيفية مقاربة موضوع إسهامات الحضارة العربية ــ الإسلامية في عصر النهضة؛ أولهما ينفي وجود أي تأثير انطلاقاً من الادعاء بأن الترجمات من العربية إلى اللاتينية تمت في فترة متأخرة. أما الاتجاه الآخر، فيشدد على تأثيرها الكبير، وهي تمت ــ في ظن الكاتب وفي ظننا ـــ لأهداف سياسية وجب اعتبارها فضيحة. لكن الدراسة الحالية في هذا المؤلف المهم، وهي الأولى في مجالها، التي حظيت باهتمام الأوساط العلمية في الغرب، فتشدد على أهمية مقاربة الموضوع من منطلق غير إيديولوجي، والتركيز على دراسة ما توافر من ترجمات وعدد الطبعات، وتحليل النصوص العربية الأصلية في موضوعات محددة، ومن ثم مقارنتها بإنتاجات عصر النهضة في المادة ذاتها، مما يسمح في نهاية المطاف بمعرفة مدى توافر تأثير أو عدمه. أي أن الكاتب يشدد هنا على ضرورة الاستعانة بعلم اللغات أيضاً لتحليل النصوص ذات العلاقة. ومن هنا يأتي عنوان المؤلف «النجاح والكتم». والهدف ــ دوماً بحسب الكاتب ـــ تقويم نجاحات العلوم العربية والفلسفة العربية في عصر النهضة وكتمها.

بحث في تعليقات ابن رشد
على أرسطو وتأثيراتها الجوهرية
في قراء عصر النهضة

يشدّد الكاتب على أنّ مؤلفه يهدف إلى التحرك في فترة ما بعد عصر النهضة، لفهمها كظاهرة ثنائية الوجه عندما يتعلق الأمر بكيفية استقبال الفكر العربي. إذ يرى أنّ عصر النهضة شكّل المرحلة التي وصل فيها التأثير العربي إلى أقصى درجاته من ناحية، والمرحلة التي بدأ الغرب ينسى فيها ذلك التأثير من ناحية أخرى. وللوصول إلى هدف هذه الدراسة، عمد الكاتب إلى تقسيم المؤلف إلى جزءين. في الجزء الأول، حلّل محاولات علماء النهضة لتوسيع انتشار العلوم العربية عبر الطبعات والبيوغرافيا والترجمات، فيما خصص الجزء الثاني لتوضيح تباين الخطاب الجدلي بين أنصار التقاليد العربية والإغريقية بتطور العلوم والفلسفة الداخلي. أما النقطة التي يشدد عليها الكاتب، فهي ليس ما كان في نية الكتّاب قوله إنما ما كتبوه فعلاً. على سبيل المثال، هل استخدموا النظريات العلمية العربية أم لا؟ وهل حاولوا عن وعي نشر العلوم العربية أم أنهم حاولوا القضاء عليها؟ ما الأسباب الداخلية والعلمية التي دعتهم إلى تبني النظريات العلمية العربية أو رفضها، وما مكاسب النهضة أو خسائرها الناتجة من التبني أو الرفض؟ إضافة إلى ما سبق، فإن الكاتب مهتم أيضاً بدراسة الخلفيات الاجتماعية لقبول النظريات العلمية العربية في عصر النهضة، مقارنة بالأوساط الفكرية والاجتماعية للوسط الذي عاش فيه الذين تقبلوها.
انطلاقاً من الأهداف المحددة للعمل، فإن المؤلف يحوي فصولاً عدّة. يحمل الجزء الأول عنوان «حضور التقاليد العربية»، ويضمّ الفصل الأول «تقديم - النُسخ والمناهج» الذي يستعرض جذور التقاليد العلمية العربية في أوروبا واستمرارها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. كما يستعرض هذا الفصل نجاح طبعات الترجمات اللاتينية للمؤلفات العلمية العربية وانتشارها وتجذر العلماء العرب وأعمالهم في المناهج التعليمية الجامعية في أوروبا. في الفصل الثاني «سير قائمة المراجع/ البيبليوغرافيا: آثار رجال العِلم»، يتعامل مع بيوغرافيا الكتاب العرب. في هذه المرحلة، كان الاهتمام في أوروبا بأهل العلم العرب وبنتاجاتهم أكبر من أي وقت مضى. يتقصى الفصل جذور هذا النشاط في تاريخ الطب، ويحلل إسهامات إنسانيي عصر النهضة للبيوغرافيا العربية، ويصف صور العلماء العرب المشهورة كما ترد في كتاب «بيوغرافيا عصر النهضة». تحت عنوان «علم فقه اللغة/ الفيلولوجيا: برامج المترجمين وتقنياتهم»، يتقصى الفصل الثالث إنجازات المترجمين من العربية إلى اللاتينية ومن «العبرية» (المترجمة أصلاً من العربية - والمزدوجتان لنا) إلى اللاتينية.
يصف الكاتب هذه الإنجازات بأنها مظهر رائع من مظاهر ثقافة عصر النهضة، وقد بدأت حوالى عام 1480، أي بعد أكثر من مئة وخمسين عاماً على بدء محاولات العصور الوسطى نقل الإنجازات العلمية العربية إلى اللاتينية. وقد خصص الكاتب قسماً من الفصل لتحليل الجذور الاجتماعية لأكثر من عشرة مترجمين ولداعميهم ولجمهورهم، مقارناً تقنية ترجماتهم بالمبادئ التي أعلنوها في مقدماتهم ورسائلهم. إذ تبين للكاتب أن العلماء كانوا منخرطين في حركة الترجمة، لكنهم لم يكونوا أفضل الخبراء عندما يتعلق الأمر بالنصوص. في الجزء الثاني «الإغريق ضد العرب»، خصص الكاتب الفصل الرابع «طب الأعشاب» (MATERIA MEDICA ــ الإنسانيين عن المُلَيِّنات) للحديث في جاذبية النظريات العربية عن طب الأعشاب في كتابات الأطباء الإنسانيين وعلماء النبات. بعض الكتاب حاولوا التغلب على ما وصل إليه سابقوهم من العلماء العرب، لكنهم واجهوا مشاكل كثيرة في هذا، ما أدى في نهاية المطاف إلى إخفاق محاولة العودة إلى علم طب الأعشاب اليوناني. يوضح هذا التقصي أيضاً أن المحاولات المتحاملة لطمس التقاليد العربية العلمية في هذا المجال، شكلت محفزاً لتطورات جديدة في الصيدلة وعلم النباتات. الفصل الخامس «الفلسفة: مؤيدو ابن رشد وأعداؤه»، خصصه الكاتب للفيلسوف العربي الأكثر تأثيراً، وهو القرطبي ابن رشد الأندلسي (1129 ــ 1198 ت س). انقسم إنسانيّو عصر النهضة بخصوصه إلى معسكرين متضادين متعاديين على نحو شديد. يتناول الفصل، بالحديث والبحث، ابن رشد الفيلسوف وابن رشد المعلق. يشدد الكاتب على أن المعارضين لفكر ابن رشد نقدوا قوله الذي يفضي إلى أن الروح منقسمة إلى قسمين اثنين: القسم الأول شخصي يتعلق بالشخص، والقسم الثاني فيه من الإلهية ما فيه. وبما أنّ الروح الشخصية قابلة للفناء، فإن كل الناس على مستوى واحد يتقاسمون هذه الروح وروح إلهية مشابهة. وقد أخضعوا نقدهم لها، لفترة محددة، لضغط الكنيسة التي كانت تخشى من أن يؤثر انتشارها في مبادئها. فهو بالتالي من القائلين بالحقيقة المزدوجة بينما عقيدة الكنيسة تعتقد بالخلود الفردي (Unicity) واستنكرت الأولى في عام 1270. كما بحث الكاتب في هذا الفصل في تعليقات ابن رشد على أرسطو وتأثيراتها الجوهرية في قراء عصر النهضة. يركّز الفصل السادس والأخير «علم الفلك: بطليموس ضد العرب»، على النقاط التي كانت الأكثر مدعاة للنقاش والاختلاف بين المعسكرين، العربي واللاتيني. كما يتناول بالحديث كيفية تقبل النظرية العربية عن اقتران زحل بالمشترى، وهي التي شكلت أساس تاريخ التنجيم والفلك العالمي. وقد تبين للكاتب أن ذروة تأثير نظرية الاقتران العربية كانت بين عامي 1550 و1560. يلفت الكاتب نظر القراء إلى أنه ركز في مؤلفه على ثلاث مواد هي الفلسفة والطب والفلك، ولم يتعامل مع جوانب المادة كافة. ومن ذلك، على سبيل المثال، العلوم العربية في الجبر والكيمياء. إضافة إلى ذلك، فإنه لم يتعامل مع موضوعات اكتشف دور العرب في إبداعها ومن ذلك الدورة الدموية عند ابن النفيس (ت 1288 ت س). من المهم في هذا العرض أيضاً التنويه إلى أن الكاتب أثرى عمله بمجموعة من الجداول ومنها قائمة مفصلة بالمؤلفات العربية التي توافرت باللاتينية وعدد النسخ وكذلك قائمة بالطبعات الصادرة حتى عام 1700 سنورد بعضها. في عام 1412، وضع الطبيب الألماني أمبلونيوس رتينك قائمة بالمؤلفات والمخطوطات في مكتبته الخاصة والتي حوت 636، موزعة على النحو الآتي: 40 مؤلفاً باللغة اليونانية، و35 مؤلفاً باللاتينية القديمة، و42 مؤلفاً عربياً. أما البقية، فكانت بلاتينية الكنيسة، آخذين في الاعتبار أن الترجمة والطباعة كانتا أموراً تجارية محض وتتم وفق الطلب. تالياً هنا بعض نسخ المخطوطات العربية المترجمة إلى اللاتينية حتى عام 1700: الطبيب ابن وافد 23 طبعة، الفلكي الخياط 4 طبعات، الطبيب الزهراوي 33 طبعة، الفلكي أبو معشر 8، الفلكي القبيسي 13، الفارابي 4، الكندي 25، ابن زهر 15، ابن رشد 114، ابن سينا 78، قسطا بن لوقا 25، جابر بن حيان 16، ابن رضوان 13، حنين ابن إسحق 27، ابن ماسويه 72، سهل بن بشر 9.
يوضح الكاتب أنه إضافة إلى النسخ المترجمة إلى اللاتينية، ظهرت في القرن السادس عشر نسخ مترجمة إلى لغات أوروبية أخرى، ومن ذلك في مدينة ليون الفرنسية، والبندقية الإيطالية، ونرمبرغ الألمانية، وبازل وباريس وشتراسبورغ. ينهي الكاتب عمله بالتعامل مع نتائج جدل عصر النهضة المعادي للعرب، وما إذا قاد إلى الانتقاص من التقاليد العربية فيه، وبالتالي ما إذا كانت أسباب الأخير علمية أم غير ذلك؟
أخيراً، نورد بعض الملاحظات على هذا المؤلف الذي يبلغ حجم النص فيه نصف عدد صفحاته، والبقية هوامش ومصادر. لقد اعتمد الكاتب، وهو أستاذ تاريخ الفلسفة في «جامعة فرتسبورغ»، على النصوص الأصلية اللاتينية الوثنية والمسيحية واليونانية، ما قد يشكل مشكلة لدى بعض القراء الذين ليس لهم دراية بهذه اللغات. وفي الوقت الذي يمكن عد هذه نقطة ضعف في المؤلف، وجب عدها في الوقت نفسه نقطة قوة. إذ بما أن الكاتب يعرض وجهة نظر جديدة لم يتطرق إليها أي عالم من قبل، فمن الضروري، من منظار علمي، إيراد النصوص الأصلية ذات العلاقة، إثباتاً لوجهة النظر الجديدة ودعماً للآراء التي يطرحها، بما يرفعها إلى منزلة الحقائق. يمكن للقارئ الذي لا يعرف تلك اللغات القديمة التمتع بهذا المؤلف الفريد، والتركيز على نقاط الجدل فيه، ويمكن لأي باحث في مجال تاريخ العلوم العربية الاستفادة منه. لقد جلب هذا المؤلف تعليقات إيجابية كثيرة، ولم نعثر على أي رأي ينتقده. حرص الكاتب على حيادية العلم ولم ينحز في عمله إلى الآراء المتطرفة التي تسيّس المادة. كما أنه انتقد بعض تلك الآراء التي تحاول تعريب كل ما وصلت إليه النهضة من إبداعات، ومن ذلك في مجال الفن على سبيل المثال.