عام ١٩٧٩، تلقى إدوارد سعيد (1935 ــ 2003) دعوة الى فرنسا من جان بول سارتر (1905 ــ 1980)، وسيمون دو بوفوار (1908 ــ 1986) من أجل موتمر حول السّلام في الشرق الأوسط. وجِّهت الدعوة لصاحب «الاستشراق» والمدافع الشرس عن القضية الفلسطينية مع غيره من المفكرين البارزين عقب اتفاقية كامب ديفيد التي أنهت الحرب بين مصر والكيان الصهيوني. قبيل المؤتمر، وجّه سعيد مديحاً مسرفاً لسارتر، حين سرد لـ «لندن ريفيو أوف بوكس» أوجه المغامرة الفكرية للفيلسوف الفرنسي: «سارتر ليس بالمفكر المتعالي أو المراوغ، ولو وقع أحياناً في الخطأ أو المبالغة.
كل ما كتبه تقريباً مثير للاهتمام نظراً إلى شجاعته المطلقة، وحريته وغزارة فكره». كان سعيد يشير إلى الانتقادات التي وجهت إلى سارتر بسبب تعاميه عن الغولاغ الستاليني وموجة الفلاسفة الجدد ممن انتقدوا مذهبه الوجودي في تفاؤله وفلسفته التطوعية وتطويبه لمؤسسه كبطل نرجسي في مجالات الرّواية، والكتابة المسرحية والفلسفة، والفكر السياسي، والنضال الملتزم في صورة كانت لتبعد النخبة الثقافية الغربية عن سارتر أكثر مما تقربه إليها، إضافة الى مواقفه المشاكسة في موضوع حروب فرنسا في الجزائر والهند الصينية. كان سارتر في حقبة الستينات يعتبر من «الأساتذة المفكرين» maîtres- penseurs في فرنسا، وصارت مؤلفاته مثل «دروب الحرية» و«الذباب» و«الحائط» و«الوجودية مذهب إنساني»، و«حربنا في الجزائر» و«الغثيان» من أكثر الأعمال الفكرية قراءة وعرضة للتحليل والنقاش لأكثر من عشرين عاماً. تبدى سارتر في انتفاضة عام ١٩٦٨ الحقوقية والثقافية معارضاً ماوياً صلباً، اضافة الى تميزه الأدبي الخارق (كوفئ من أجله بجائزة «نوبل» ورفضها). وحده العالم الانغلوساكسوني كان ينظر بريبة الى نشاط سارتر الفكري، إذ لم يؤخذ على محمل الجد كفيلسوف (إذ لا يمكن اعتباره مضاداً للشيوعية بما يكفي)، ليتم تصنيفه في خانة وسطى بين الرواية وكتابة المذكرات، بموهبة أقل من صديقه اللدود البير كامو.

سجلّ سارتر نحو إسرائيل نظيف ومثالي ودو بوفوار أشبه بفقاعة تنتفخ بأفكار متعنتة حول الإسلام وحجاب المرأة


«كنت في منزلي في نييويورك أحضر الدروس لأحد الصفوف ـ يقول ادوارد سعيد ـ حين وصلني تيليغرام تبين أنه من باريس: لقد تمت دعوتكم من قبل مجلة Les Temps Modernes لحضور مؤتمر حول السلام في الشرق الأوسط في باريس بتاريخ 13 و14 من الشهر الجاري. نرجو منكم الاجابة. سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر». بداية اعتقدت الأمر مزحة، وقلت في نفسي ستصلني في الغد دعوة من كوزيما أو ريتشارد فاغنر لزيارة بافاريا، أو من ت.س اليوت وفرجينيا وولف لتمضية بعد الظهر في مكاتب الـ Dial. استغرق الأمر يومين لأتأكد بواسطة الأصدقاء من جدية الدعوة التي أجبتها بموافقتي غير المشروطة. كانت «الأزمنة المعاصرة» قد لعبت دوراً رائعاً في الحياة الثقافية لفرنسا، ثم أوروبا بأكملها حتى في بلدان العالم الثالث الساعية للتحرر من الاستعمار. جمع سارتر حوله في المجلة مجموعة من العقول الفذة، مثل سيمون دو بوفوار طبعاً، ونقيضه العظيم في مجال الفكر ريمون آرون، والفيلسوف اللامع موريس مرلوبونتي، والاثنوغرافي الكبير ميشال ليريس، والكثير من المختصين بشؤون أفريقيا والعالم الثالث. كل ذلك جعل من رحلة ادوارد سعيد لباريس مغامرة تستحق العناء».
ما الذي دفع بادوارد سعيد الى تسمية تلك الرحلة بـ «خيبة الأمل المريرة»؟
ماذا حدث لادوارد سعيد حين التقى بأبطاله في مجال الفكر، تلك «الآلهة التي تفشل دائماً»، في إشارة لطيفة الى عناوين أحد مؤلفاته؟ مباشرة بعد وصوله لفرنسا، تلقى سعيد مذكرة غريبة تعلمه بأنه لأسباب تتعلق بالأمن، تم نقل الندوة الى منزل ميشال فوكو. فور وصوله، التقى سعيد بدو بوفوار، التي كانت تحاضر ضد الشادور، اللباس السياسي الذي اختارته الثورة الإيرانية للمرأة ويسمح بإبراز الوجه فقط دون بقية أعضاء الجسد. «كانت دو بوفوار هنا، بقبعة رأسها الشهيرة، تحاضر بكل من يحب الاستماع حول رحلتها الوشيكة الى طهران مع كايت ميليه، حيث كانتا تخططان للاعتراض على الشادور. الفكرة بأسرها بدت لي متعالية وسخيفة، رغم أني كنت متلهفاً لسماع ما كانت ستقوله حول الشرق الأوسط. بدت لي مغرورة قليلاً، وبقدرة قليلة على الإقناع. إضافة الى ذلك، فقد تركت الندوة بعد ساعة تقريباً (قبل لحظات قليلة من وصول سارتر)، ومن ثم لم يظهر لها أثر». بعد ثلاثين عاماً، ما زالت نقطة الخلاف بين دو بوفوار وادوارد سعيد ترخي بظلالها على النقاشات الثقافية والاجتماعية والسياسية في الغرب حول الحجاب، والنقاب، والبرقع، وغيرها من الملابس الإسلامية التقليدية. الوضعية التي أخذها مفكرون يعيشون في الغرب مثل سابا محمود وليلى أبو اللغد للدفاع الشرس عن حرية الملبس، تدين بعمق الى أطروحات ادوارد سعيد حول «تمثلات العنصرية الغربية تجاه الشرق». يتابع سعيد: «كانت دوبوفوار بالنسبة لي خيبة أمل حقيقية، أشبه بفقاعة في سماء الغرفة تنتفخ بأفكار متعنتة حول الإسلام وحجاب المرأة. حين غادَرَت، لم أشعر بالندم لغيابها. بعدها، اقتنعت أنها لو بقيت لأضفت على الجو قليلاً من الحيوية: حضور سارتر كان سلبياً بغرابة، عادياً ودونما تأثير. هو في النهاية لم يتفوّه بأي شيء خلال ساعات. في فسحة الغداء، جلس بجانبي. كان يبدو كئيباً وغير قادر على التواصل، مع مسحة من البيض والمايونيز فوق فمه. حاولت أن أفتتح طرفاً من محادثة معه، لم ينجح الأمر. لعله أصيب بالصمم لكني لست متأكداً. على أي حال، بدا لي نسخة مسكونة بصورته المسبقة النموذجية: قبحه الذي يضرب به المثل، غليونه، ثيابه التي يصعب وصفها والمعلقة فوق جسده مثل أعمدة من عصور سحيقة. كنت في حينها منخرطاً حتى النخاع في العمل السياسي. منذ عام ١٩٧٧، صرت عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني، وفي زياراتي المتكررة لبيروت (حيث تقيم والدتي) كنت ألتقي مراراً بياسر عرفات، وغيره من قادة تلك المرحلة. كنت أظن أن ذلك يمكن أن يستثير سارتر ويدفعه اتخاذ موقف ايجابي من القضية الفلسطينية في هذه اللحظة الحرجة من صراعنا المميت مع اسرائيل».
«من جهته أوضح فوكو بسرعة أن لا شأن له بهذه الندوة وليس له أدنى مساهمة فيها، وأنه سيترك البيت للتو للالتحاق بحلقته البحثية التي يجريها بشكل دوري في المكتبة الوطنية» يتابع سعيد: «كنت مسروراً برؤية كتابي «بدايات» مرصوفاً في أحد رفوف مكتبته وسط رزمة من الأوراق والصحف. بعد وفاته، عرفت لماذا لم يكن نحب أن نتحدث كثيراً بخصوص الشرق الأوسط». في عملهما البيبليوغرافي الكبير حول فوكو، يشير السوسيولوجي الفرنسي ديدييه اريبون والصحافي البريطاني جايمس ميلر إلى أنّ فوكو ترك عمله الأكاديمي في جامعة تونس بغتة بعد اندلاع الحرب عام ١٩٦٧. قال فوكو حينها إنّ سبب المغادرة هو ردات الفعل المعادية للسامية واسرائيل في كل مدينة عربية بعد النكسة». صديق تونسي عاصر فوكو في الجامعة أخبرني أن السبب الحقيقي للمغادرة كانت ميول فوكو المثلية. لا أعرف أياً من النسختين هي الأصح». ويضيف سعيد: «في ذلك المؤتمر الباريسي، أخبرني فوكو أنه قد عاد للتو من ايران حيث عمل على تغطية الثورة لمصلحة جريدة ايطالية، كان الأمر مثيراً ومجنوناً وفي منتهى الغرابة بالنسبة اليه وأنه قد وضع شعراً مستعاراً كحيلة تنكرية في طهران بعد فترة من ظهور تقاريره في الصحيفة». يختم سعيد حول فوكو: «أخبرني جيل دولوز عام ١٩٨٠ أن مشادة وقعت بينه وبين صديقه فوكو: دولوز كان فلسطيني الهوى، وفوكو مؤيداً صلباً لإسرائيل».
خيبة ادوارد سعيد الكبيرة كانت من سارتر، الذي اصطف الى جانب الشعب الجزائري في شجاعة ملفتة، لكنه لم يتخذ الموقف ذاته حين تعلق الأمر بنكبة الفلسطينيين. «لقد صدمني سارتر من ناحية قيمة الموقف السياسي لأني لم أكن قادراً على نسيان معارضته لحرب الجزائر. موقف يصعب على مواطن فرنسي تحمّله أكثر بكثير من موقف نقدي تجاه اسرائيل. كنت بالتأكيد على خطأ». بعدها قدّم سارتر ورقة تعليقات في الندوة يظن ادوارد سعيد أنها كُتِبت له من أحد زملائه (بيار فيكتور): «طبعاً كان لا بد لسارتر من أن يقدم لنا شيئاً: نَص من ورقتين مطبوعتين يمدح فيه شجاعة أنور السادات بأكثر العبارات السخيفة التي يمكن تصورها. لا أذكر حتى عبارات قليلة حول الفلسطينيين، أو حول الأراضي المحتلة، أو حول الماضي التراجيدي. لم ترد في نص سارتر أي إشارة مرجعية الى المشروع الصهيوني الكولونيالي - الاستيطاني، مثل تلك التي وردت حول الممارسات الفرنسية في الجزائر. لقد ساءني أن أكتشف أن هذا العملاق في ميدان الفكر قد تحول في سنواته الأخيرة الى نوع من مرشد يتصرف وفقاً لردات الفعل أو ما يهمس له به بعض مريديه من الحلقة المؤيدة لإسرائيل في باريس (مثل بيار فيكتور نفسه صديق سارتر المقرب الماوي السابق الذي ارتد بقدرة قادر الى ارثودوكسي يهودي)، وأن في الموضوع الفلسطيني، لا شيء يقدمه المحارب القديم للطرف المظلوم سوى حفنة من المدائح الصحافية والمتعارف عليها لزعيم مصري لا تعوزه الشهرة. لبقية اليوم، ظل سارتر محتفظاً بصمته، وأكملنا الندوة ببرنامج موضوع مسبقاً لمناقشة انعكاس كامب دايفيد على العلاقات بين إسرائيل و«جيرانها»، دون أدنى ذكر لفلسطين والفلسطينيين.. تذكرت قصة مشكوكاً بأمرها مفادها أنه من 20 عاماً، سافر سارتر الى روما للقاء فرانز فانون (توفي بعدها باللوكيميا) ليحدثه عن دراما الجزائر لـ 16 ساعة متواصلة بلا انقطاع، لتثنيه سيمون عن إكمال الخطاب. ذاك السارتر، رحل الى الأبد...».
كان فانون صديقاً لدو بوفوار وسارتر، الذي يفترض أنه كتب مقدمة «معذبو الأرض» رائعة فانون الخالدة. «كل ما يمكنني قوله إنّ رجلاً طاعناً في السن كان يبدو جذاباً أكثر حين كان في سني شبابه: إنها خيبة مريرة لكل عربي كان يحبه. لأسباب يصعب فهمها، ظل سارتر على موقفه المؤيد للصهيونية: الخوف من الاتهام بمعاداة السامية، شعور بالذنب تجاه الهولوكوست، الخوف من التعاطف مع مأساة الفلسطينيين بعدما تحولوا الي فدائيين يقاتلون اسرائيل، أو أسباب أخرى- دينية أو ثقافية أجهلها. لقد كان برتراند راسل أشجع من سارتر حين اتخذ في سنينه الأخيرة مواقف نقدية إزاء سياسات اسرائيل العدوانية تجاه العرب. كذلك صديقه وقدوته جان جينيه الذي لم يتردد في إظهار شغفه بالفلسطينيين وقضيتهم والأوقات التي قضاها برفقتهم في رائعتيه «أربع ساعات في صبرا وشاتيلا» و«العاشق الأسير». يقول برنار هنري ليفي، صديق إسرائيل والمنظر الجيو-استراتيجي لكثير من انتفاضات الربيع العربي حول سارتر: إن سجل سارتر نحو اسرائيل نظيف ومثالي. لم يضلّ طريقه أبداً وكان دائماً في موقع الدعم الكامل للدولة اليهودية». يختم صاحب «خارج المكان» الذي رمى حجراً على تلك الدولة عند بوابة فاطمة بعد تحرير الجنوب اللبناني عام ٢٠٠٠.

* المرجع: حديث لإدوارد سعيد لـ London review of Books عام ٢٠٠٠