قد يبدو هذا القادم من منتصف القرن التاسع عشر، ضيفاً خفيفاً.لقد رحلَ قبل أن يتمّ عامه الأربعين، شأنه شأن أبي تمّام وامرئ القيس ورامبو وبدر شاكر السياب:
هبط من القطار، في محطة نائية، بدون سبب واضح، ليُعثَرَ عليه بعد أسبوع، وهو في حشرجة الاحتضار.
لكن الرجل كان ذا تأثيرٍ في المشهد الشعريّ والثقافي، بل ظلّ تأثيره قائماً حتى اليوم، بصورة من الصوَر.
كتابه «حكايات الرعب والخيال» كان مفتتح أدب الرعب، والقصة البوليسية، والتوتّر النفسيّ، حتى أن شارل بودلير العَصِيّ نقله إلى اللغة الفرنسية.
كما أن عدداً من قصائده ظلّ خالداً، ومَعْلَماً في فن الشِّعر، مثل «الغراب» و«الأجراس».
صحيحٌ أن هناك مَن لم يعتبرْه شاعراً مهمّاً، وأشيرُ هنا إلى وليم بتلر ييتس الذي كان يرى في إدغار ألان بو، شاعراً مبتذَلاً (Vulgar)، وإلى البوسطنيّين التقليديّين، الذين ظلَّ بو يسخر منهم، مفضِّلاً عليهم، هنري لونجفِلو، الأكثر حريّةً، والذي كتب قصيدته الشهيرة «هياواثا»، القصيدة التي يمجِّدُ فيها بطولةَ الهنود الحمر، وقد كنتُ مغرَماً بها أيّامَ الصِّبا، فقد قرأتُها في المرحلة الأخيرة من دراستي الثانوية، وحاولتُ نقلَها إلى العربية، بالرغم من إنكليزيّتي المتواضعة جداً في تلك الأيّام.

■ ■ ■


أعود إلى الغايةِ الأساسِ من مقالتي هذه، وهي متّصلةٌ بآراء إدغار ألان بو في فن الشَعر:
يرى الرجل أن للشِّعر مستلزماتٍ أربعةً أساسيّةً، هي الإيجاز والموسيقى والمعرفة واللاعاطفيّة.
وهو يعيب على شعراء كثرٍ إطنابَهم، ونأيَهم عن المعرفة، واحترام الموسيقى، ويعيب عليهم العاطفيّةَ المبالَغَ فيها التي تحدُّ من المعرفة ومن سيطرة المبدعِ على مادّته.

■ ■ ■


ومن منطلَقِه في الإيجاز، يَجهدُ إدغار ألان بو في تحليل قصائدَ طوالٍ مثل «الفردوس المفقود» للشاعر الضرير جون مِلتون، و«الإلياذة».
وفي رأيه، إن القصيدة الطويلة ينبغي أن تُقرأَ باعتبارِها متواليةً من قصائدَ قصيرة.
والسببُ، هو أن الأثر السايكولوجيّ للنصّ الشِّعري، يَصّاعَدُ فجأةً، ليخمُدَ فجأةً أيضاً. ثمّتَ لحظاتٌ من التوهُّجِ حين يتلقّى المرءُ النصَّ الشِعريّ. هذه اللحظاتُ الثمينةُ لن تستمرّ. هذه اللحظاتُ ستخبو بغتةً.
هكذا رأى الرجلُ أن القصيدة الطويلة ينبغي أن تزول، كنوعٍ شِعريٍّ.

■ ■ ■


أعودُ، الآن إلى مشهدٍ من تجاربنا العربية في كتابة القصيدة الطويلة (كانت تسمّى مَلحَمةً في عراق الخمسينيّات):
بدر شاكر السياب اهتمّ أكثر من مُجايِليه، بالقصيدة الطويلة، وكتبَ عدداً مرموقاً، مقايَسةً.
كتب «المومس العمياء»، و«الأسلحة والأطفال»، و«حفّار القبور».
لكننا في استعادة ما أحببناه من قصائد بدر الطوال، هذه، سوف نطَبِّقُ مقولةَ إدغار ألان بو، حين نترنّم بمقاطع ما:
عصافيرُ أم صِبْيةٌ تمرحُ
أم الماءُ من جرّةٍ ينضحُ...

■ ■ ■


القصيدةُ الطويلة لم تَعُدْ نوعاً يتراكمُ.

■ ■ ■


نصٌّ قصيرٌ من أشعار إدغار ألان بو:
أنّابَلْ لِي
منذ سنين وسنين
في مملكةٍ عند البحرِ
عاشتْ فتاةٌ قد تعرفونها بالاسم
أنّابَلْ لي.
ولم يكن لدى تلك الفتاة ما تفكِّرُ به
سوى أن تحبّني وأحِبُّها.
كنّا صغيرَين في تلك المملكة التي عند البحر...

«النصّ مجتزأٌ من قصيدة»

تورنتو 08.05.2016