إقامة وحدة اقتصادية عربية تفترض المشهد الآتي: هناك فضاء جغرافي متماسك ومتجانس في قارّتين ومشرف على محيطين وبحور عدّة. ويشكّل هذا الفضاء الجغرافي ثاني مساحة في العالم بعد روسيا. أما على صعيد السكان فعدد سكان الوطن العربي يتجاوز 430 مليوناً وهو ثالث التكتلات السكانية بعد الصين والهند ويوازي 5% من عدد سكّان العالم، وإذا أخذنا في الحسبان نسبة السكان دون سن الـ25، فهي تتجاوز 60%، وتٌعتبر من أفتى المجموعات السكّانية في العالم. هذا يعني أن المستقبل مشرق بالنسبة إلى السكان، خاصة أن الدول المتقدمة كالصين وروسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تشكو من شيخوخة في سكّانها وانخفاض معدّلات النمو السكّاني. وعلى صعيد الناتج الداخلي فإن المجموع الإجمالي لسنة 2020 يتجاوز 2.7 تريليون دولار لكن لا يزيد عن 3% من الناتج الإجمالي العالمي، إذ إنه لولا الغاز والنفط لما وصل الناتج الإجمالي العربي إلى هذا المستوى، ولا سيما أن الدول العربية تستورد من الخارج معظم حاجاتها الصناعية والزراعية، ما يجعلها منكشفة تجاه الخارج. هذه حجّة إضافية لضرورة تكثيف الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، ما يجعل توسيع السوق العربية ضرورة حيوية للاستفادة من وفورات الحجم وتحقيق الجدوى الاقتصادية للمشاريع الاستثمارية. وزيادة الإنتاج الزراعي والصناعي ضرورة لخفض العجز في الميزان التجاري والانكشاف تجاه الخارج. وفائض الإنتاج يُصدّر إلى مختلف الأقطار وإلى الخارج.
فلاديمير خاخانوف ــ روسيا

آفاق التوسع واضحة على مستوى التجارة الخارجية العربية. وحتى الساعة لا تتجاوز التجارة البينية العربية-العربية 10% من إجمالي تجارتها مع العالم أجمع. فالدول العربية لا تزال تفضّل المتاجرة مع الخارج بدلاً من التركيز على التجارة مع الدول الشقيقة. هذا يعني أن تنمية التجارة العربية-العربية تصبح أولوية في بناء المشروع الاقتصادي الوحدوي. ونمو التجارة البينية العربية-العربية يعكس حال أداء الاقتصاد الوطني.
فقد لاحظ صندوق النقد العربي في تقريره الأخير أن الدول العربية التي تحسّن أداءها الاقتصادي، هي الدول التي شهدت نمواً ملحوظاً في تجارتها الخارجية كموريتانيا التي شهدت سنة 2019 ارتفاعاً في تجارتها بنسبة 44.2%، وذلك يعود إلى زيادة مساحة الأراضي المزروعة، ما أدّى إلى زيادة الإنتاج فالصادرات. لذا نعتقد أن الزيادة في الإنتاج الصناعي والزراعي مرتبطة بتنمية التجارة العربية-العربية التي توفّر السوق الأكبر للمنتجات العربية والتي ستؤدّي إلى الاستفادة من وفورات الحجم في توسيع الطاقة والقدرات الإنتاجية.
يثير توسيع إطار التجارة العربية-العربية، مسألة معضلة التخصّص. النظرية الاقتصادية الكلاسيكية للتجارة الدولية أفضت إلى أن التجارة يجب أن تكون في السلع و/أو القطاعات التي يتمّيز بها بلد ما. هذا هو مبدأ التفوّق المقارن الذي يشكّل ركيزة تبرير التجارة (comparative advantage) غير أن هذا المبدأ استُغل من قبل الدول الصناعية لمنع الدول الناشئة من منافستها في الإنتاج الصناعي وحصر الدول الناشئة في استخراج وتصدير المواد الخام التي تُستعمل في الصناعات وخاصة في أوروبا.
الدروس الكلاسيكية تستفيض في الأمثلة التي أُعطيت، حيث التجارة بين إنكلترا والبرتغال يجب أن تكون على قاعدة إنتاج وتصدير الأقمشة الإنكليزية، بينما البرتغال تكتفي بإنتاج وتصدير النبيذ. لكن هذا المثل الافتراضي تمّ تطبيقه في مصر. محمد علي، مؤسس الدولة المصرية الحديثة، حاول بناء اقتصاد مصري يضمن ويحصّن استقلالية مصر، فأنشأ مصانع النسيج التي كانت تستعمل القطن المصري العالي الجودة، فأبقى القيمة المضافة لإنتاج القطن ضمن إطار الاقتصاد المصري. بعد رحيله أغرق الخديوي حاكم مصر، البلاد في الديون وطلب النجدة المالية من المملكة المتحدة التي اشترطت تفكيك المصانع ورميها في جزيرة موريشيوس في المحيط الهندي واكتفاء مصر بإنتاج وتصدير القطن.
تغيّر الوضع عندما أقدمت الدول الغربية الصناعية على التخلّي عن التصنيع deindustrialization للدخول في مرحلة "ما بعد التصنيع" عبر إعادة توطين قاعدتها الإنتاجية الصناعية في الدول الناشئة. فالقيود الضابطة للنشاط الاقتصادي والنقابات في الدول الناشئة، ضعيفة مقارنة مع تلك الموجودة في الدول الغربية الصناعية. وهذا يعني كلفة الإنتاج أقل بالاستناد إلى انخفاض قيمة الأجور والضرائب. هكذا فُتح الباب للدول الناشئة لتحديث اقتصاداتها ودخول عصر التصنيع. الصين والهند والبرازيل نماذج ناجحة عن هذه العملية، على سبيل المثال وليس الحصر. المهم هنا هو أن الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة، اعتقدت أن لا داعي للتمسّك بالقاعدة الإنتاجية طالما كانت متحكّمة بالأسواق المالية وشرايين المال وهيمنة الدولار. الأحداث الأخيرة من جائحة كورونا إلى الحرب في أوروبا كشفت عيوب تلك السياسة فأصبحت أوروبا منكشفة أمام مخاطر آتية من الصين ومن الولايات المتحدة في آنٍ واحد.
الدول العربية تستورد من الخارج معظم حاجاتها الصناعية والزراعية، ما يجعلها منكشفة تجاه الخارج


من نتائج الوحدة الاقتصادية، الرخاء المعيشي للدول وشعوبها. عنصر الرخاء الأول، يكمن في انخفاض مستوى البطالة بشكل عام، ما يؤدّي إلى زيادة الدخل. وانخفاض مستوى البطالة، وخاصة بين الشباب، يعود إلى الزيادة المرتقبة في الاستثمارات سواء في البنى التحتية أو في البنى الاقتصادية الإنتاجية التقليدية كالزراعة والصناعة والبناء والنقل، وفي القطاع الخدماتي ذي القيمة المضافة الفعلية وليست الافتراضية الناتجة عن المضاربات والوساطات المالية والعقارية أو الخدماتية في حال الصحة مثلاً. هذه الاستثمارات ستتركّز على البعد التكنولوجي لها، لأن الثورة الصناعية القادمة هي ثورة التكنولوجيا وخاصة في الذكاء الاصطناعي. وشباب الأمة أكثر تأهيلاً من جيلنا في الانخراط في هذا المجال. والاستثمارات يجب أن تكون في أكثريتها الساحقة عربية وليست أجنبية على الأقل في القطاعات الإنتاجية. التمويل الخارجي الدولي أو عبر مؤسسات دولية هو تمويل إضافي إسنادي وليس أولوياً. لا نشارك نظرية ضرورة الاستثمارات الخارجية المتدفّقة على الدول العربية عبر مشاريع "شراكة" غير متكافئة أو عبر الشروط التي تفرضها مؤسسات كصندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو البنك الأوروبي للاستثمار أو ما يشابهها.
من أهداف الوحدة الاقتصادية تطوير البنى التحتية والمرافق العامة في جميع الأقطار من شبكات السكك الحديد والقطار السريع إلى شبكات طرق تغطّي كلّ الأقطار وفي جميع الاتجاهات. كما أنها تضم شبكات الطاقة والمياه. أما في قطاع الزراعة والتصنيع فهناك معضلة لا بد من حلّها، هي حدود التنافس بين بنى إنتاجية متشابهة. النظرية الاقتصادية التقليدية تدفع نحو المزيد من التنافس حتى يحصل التمركز الاقتصادي في إطار شركات محدودة وخلق طبقة من الأوليغارشية الطفولية. فهل على الأقطار العربية اتّباع تلك السياسات؟

* باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي