بول كاغامي، رئيس رواندا، هو شخصية كاريزمية مثيرة للجدل. فرض احتراماً، واكتسب شهرة واسعة على الساحة الدولية. يتّهمه الغرب بقمع الحريات السياسية، وبتقييد حرية التعبير، وبالتنكيل بخصومه ومعارضيه عبر قتلهم ونفيهم وزجّهم في السجون. هو يحكم رواندا منذ عام 1994، كرئيس للبلاد لثلاث ولايات متتالية، مدّة كل منها سبع سنوات. لكن هذا الغرب نفسه يعترف لكاغامي بأنه نقل رواندا من بلد فقير ومدمَّر خَرَجَ من إحدى أسوأ المجازر في التاريخ المعاصر، إلى مستوى اقتصاد العالم الأول خلال عقدين من الزمن. رواندا هي أسرع دول العالم نمواً. تُعدّ اليوم من بين أكثر البلدان أمناً وجذباً للاستثمارات والشركات. كما تصنَّف في مرتبة متقدمة، حتى على دول مثل فرنسا وسويسرا، ضمن مؤشّر ممارسة أنشطة الأعمال. تحتلّ رواندا المرتبة الأولى عالمياً، لجهة عدالة التمثيل السياسي بين الجنسين (ترتيب الولايات المتحدة الأميركية هو 76 ولبنان 183). فقد أدخل كاغامي نظام الكوتا النسائية، مخصصاً 30% من مقاعد البرلمان للنساء (24 مقعداً من أصل 80 مقعداً). اليوم، تحتلّ النساء في البرلمان الرواندي نسبة 61% من المقاعد. وإلى جانب المساواة الجندرية، وضع الرئيس الرواندي عدداً من السياسات والتشريعات التي تُرسي مبدأ إلغاء جميع أشكال التمييز. إذ يفرض قانون الانتخاب، وهو على أساس النسبية، انتخاب عضوين في البرلمان من قبل المجلس الوطني للشباب، وعضواً واحداً من قبل المجلس الوطني لذوي الإعاقة.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

لا يعير كاغامي أي اهتمام لاتهام الغرب له بأن إنجازاته جاءت على حساب الديموقراطية والحريات السياسية، بل يردّ متوجهاً إلى شعبه: «لا تدعوا أحداً يتحدث باسمكم... إن تعريف الحريات وإمكانية تحقيقها ليست أسطورة تحدِّدها لنا مجموعة صغيرة تملك القوة والامتياز والقدرة على أن تملي على الآخرين ما هو في مصلحتهم». يعترف كاغامي أن تقييد بعض الحريات أمر لا بدّ منه من أجل الحفاظ على الإنجازات التي بناها ومنع تكرار الإبادة الجماعية التي راح ضحيتها نحو مليون شخص، معظمهم من التوتسي، في غضون 100 يوم. لم يستورد كاغامي وصفات جاهزة للمصالحة وإعادة بناء اللحمة المجتمعية، بل قام باجتراح حلول فريدة تنطلق من خصوصية مجتمعه وحاجات بلاده وشعبه. فعلى سبيل المثال، حدَّد الدستور بأن الهوية الرواندية هي الهوية الوحيدة المسموحة، ويُعدُّ جرماً يعاقب عليه القانون كل من يستخدم المصطلحات العنصرية، أو يتّخذ لنفسه هوية إثنية أو انتماءً عرقياً، كأن يقول مثلاً إنه من الهوتو أو من التوتسي، أي إنه ألغى التفرقة من النصوص قبل النفوس.

تشابه الخلفيات وتناقض المسارات
في لبنان، كانت السيطرة المارونية على السلطة كما أرساها المستعمر الفرنسي، إحدى مسبّبات الحرب الأهلية. أما في رواندا، ولما كان الروانديون بأكثريتهم الساحقة من ديانة واحدة هي المسيحية، قامت سياسات الاستعمار البلجيكي بترسيخ الشرخ المجتمعي والكراهية على أساس إثني. فقد أعطى الاستعمار أقليّة «التوتسي»، مراكز السلطة والامتياز على حساب «الهوتو» وهم أكثرية.
الاقتتال الأهلي في البلدين، في لبنان بخلفية طائفية، وفي رواندا بخلفية إثنية، اتّخذ طابعاً دموياً. وصل الرئيس رفيق الحريري إلى الحكم بدعم خارجي، أميركي سوري سعودي فرض نهاية للحرب الأهلية على قاعدة «لا غالب ولا مغلوب». أما كاغامي فقد فرض نفسه قائداً للبلاد بالقوّة العسكرية، إذ دخل رواندا على رأس مجموعة عسكرية تُدعى الجبهة الوطنية الرواندية، أطاحت بقوى «الهوتو» التي كانت تقود المجازر، ونجح بإنهاء الحرب الأهلية. فعلياً، تعامل الرجلان مع إرث مشابه، فقد تسلّما مقاليد الحكم في بدايات التسعينيات من القرن الماضي على أنقاض حرب أهلية طويلة ومجازر واغتصاب وقتل على الهوية ودمار مهول ومئات الآلاف من الشهداء والمهجرين. وفي الفترة التي كان فيها الحريري الأب يثبت دعائم سياسته الاقتصادية في لبنان، كان الرئيس الرواندي يضع رؤيته لبناء اقتصاد ودولة في رواندا. سار النموذجان الاقتصاديان بالتزامن، إنما في مسارين متناقضين رغم أن كلاهما يتبع اقتصاد السوق. كان رفيق الحريري رجل أعمال ثرياً جاء من قطاع البناء والعقارات، أما كاغامي فكان رجلاً عسكرياً خرج من مخيمات اللجوء في أوغندا. كاغامي ليس ماركسياً اشتراكياً، ونظامه الاقتصادي رأسمالي حتى العظم، لكن يمكن تلمّس خلفية كل من الرجلين في النموذج الاقتصادي الذي بناه.
بداية، أرسى كاغامي دعائم حكمه على أساس المحاسبة على جرائم الماضي، فأنشأ هيكلية محلية للتحقيق بجميع الجرائم التي ارتكبت خلال المجازر ومعاقبة جميع المسؤولين عنها. أما في لبنان، فكان قادة الميليشيات والمحاور ومرتكبو المجازر الجماعية والقتل على الهوية يتحوَّلون إلى زعماء سياسيين ووزراء ونواب مع إقرار قانون العفو عن جميع جرائم الحرب.
على غرار لبنان، رواندا بلد صغير (ضعف مساحة لبنان تقريباً)، يفتقر إلى الموارد الطبيعية ولا نفط وغاز لديه (بمعزل عن أي اكتشافات نفط وغاز تحصل الآن أو ستحصل لاحقاً). وعلى عكس لبنان، رواندا أرض مغلقة، لا ميناء ولا منفذ بحرياً لها. لذا، ارتكزت رواندا على بناء اقتصاد مدعوم بتصدير إنتاجها الزراعي. أما الحريرية فقامت على مبدأ تشجيع الاستهلاك والاستيراد على حساب الإنتاج المحلي. اهتم كاغامي بتطوير العاصمة كيغالي، فحولَّها إلى مدينة تكنولوجية نموذجية، فضلاً عن أنه اهتم بعصريتها ونظافتها (فرض على جميع السكان المشاركة بتنظيف مدينتهم في آخر سبت من كل شهر أو دفع غرامة). لكنه لم يكتفِ بذلك؛ ففيما حصرت الحريرية عملية إعادة الإعمار بالعاصمة وحوَّلتها إلى شركة خاصة، اهتم الرئيس الرواندي ببناء البنية التحتية في جميع أنحاء البلاد مولياً اهتماماً خاصاً بالريف. فخصَّص بقرة لكل أسرة، وهو البرنامج الذي يفتخر به كثيراً. لذا، هو يهدي بعض زائريه أبقاراً محلية ذوات قرون طويلة. كما أهداه الرئيس الهندي 200 بقرة في زيارة له لرواندا عام 2018 دعماً لبرنامجه للريف. كذلك، قام ببناء محطات الطاقة الكهرومائية لتوفير الكهرباء، وأسّس شركة وطنية للطيران للتعويض عن غياب المنفذ البحري.
كان رفيق الحريري يفاخر بتعليم آلاف الشباب على حسابه الخاص، كأن الأمر مدعاة للفخر عندما تكون في مركز القرار، عدا عن أنه شراء مفضوح للذمم. أما كاغامي، فقد قام في بداية حكمه، بتخصيص 30% من ميزانية الدولة للتعليم. كما استخدم التعليم لإرساء دعائم الوحدة الوطنية، فارضاً رواية رسمية واحدة للإبادة في صفوف التربية الوطنية، يعتبر الخروج عن نصها تهديداً للسلم الأهلي. يتعلّم الروانديون في كتاب التاريخ (الموحّد) بأن الاستعمار البلجيكي هو من فرض التصنيفات الإثنية من أجل زرع الشقاق بهدف السيطرة، وأن هذه التصنيفات لا تطال أي اختلافات دينية أو ثقافية أو لغوية (فرض البلجيكيون على الروانديين تسجيل أبنائهم كـ«هوتو» أو «توتسي» عند الولادة). إلى جانب توفير تعليم ذات جودة للجميع، استخدم كاغامي التعليم لتوجيه القطاع بحسب حاجات البلد. في عام 2019، أطلقت رواندا أول قمر صناعي بهدف توفير الإنترنت للقرى النائية وربط مدارسها بالتكنولوجيا الحديثة.
اهتم كاغامي كذلك، ببناء القدرات المحليّة للقطاع الصحي والجسم الطبي، وأرسى التغطية الصحية الشاملة لجميع السكان. أما الحريرية فقد كرَّست سطوة مصالح مالية تكتَّلت في وجه فرض ضريبة على أرباح المصارف ومنعت إرساء التغطية الصحية الشاملة، مشرعاً بذلك الاستشفاء كمدخل للزبائنية السياسية. صحيح أن لبنان كان وجهة للسياحة الطبية نظراً إلى تفوّق قطاعه الصحي، لكن عدد الأطباء فيه كان يفوق حاجة البلد بكثير وظل الفقراء يموتون على أبواب المستشفيات إلى أن انهار هذا القطاع بالكامل.

التخلّص من الفقر أم من الفقراء؟
بمعزل عن شخصية كاغامي وأسلوبه في الحكم، تعلّمنا التجربة الرواندية معنى أن يكون لدينا اقتصاد حقيقي في مقابل اقتصاد الوهم الذي عاشه لبنان. لا يختلف الاقتصاد الحقيقي للدول عن التدبير المالي لأي أسرة صغيرة تحتسب مدخولها وأصولها وحاجاتها من طعام وتعليم واستشفاء وكهرباء وإنترنت وترفيه... قد تدّخر أيضاً بهدف الاستثمار، إذا طمحت إلى النموّ والترقي الاجتماعي أو الادخار للتعليم الجامعي - وهو استثمار أيضاً - أو قد تلجأ إلى الاقتراض لبدء مشروع ما، يمكن أن تُسدّد قرضه مع فائدة في المستقبل عندما يبدأ المشروع بدرّ الأرباح. أما الاقتراض من دون إنتاج ومن دون استثمار ومن دون أفق للسداد فلا يشبه بشيء أي اقتصاد سوى «اقتصاد الكازينو»، مع فارق أن السداد بالكازينو أمر محتمل.
الفقراء يفهمون معنى الاقتصاد الحقيقي، فهو خبزهم اليومي. الفقير لا ينفكّ يفكر على مدار الساعة كيف سيطلب من صاحب الشقة أن يعطيه مزيداً من الوقت لتسديد الإيجار لكي يتمكن من تسديد أكلاف المدرسة هذا الشهر، ويحسب أيضاً إذا كان الأنسب إصلاح الغسالة هذا الشهر، أم توفير المال للحالات الطارئة؛ فماذا لو مرض أحد الأولاد ونحن على أبواب الشتاء؟ الفقراء يستثمرون أيضاً فيبيعون بقراتهم لتعليم أبنائهم، أو يشترون بقراً لصناعة اللبن والجبن. هذا لا يعني أن الخروج من الفقر أمر سهل. فالادخار أو الاستثمار، في التعليم أو أي استثمار آخر، ترف قد لا يتوفر لمن هم أشدّ فقراً، إذ غالباً ما يعلق الفقير في «مصيدة الفقر»، على عكس ما توحي نادين لبكي في أفلامها حيث الفقراء مسؤولون عن فقرهم، والخروج من دوّامته متاح لهم لو أنهم فقط قرروا أن يكفوا عن البقاء فقراء، وتوقفوا عن الإنجاب. أي أننا لكي نتخلص من الفقر، علينا التخلص من الفقراء. لكن من رحم هذا الفقر ظهر بول كاغامي، وعندما كبُر، حوّل بلاده الفقيرة المدمَّرة والخارجة من إبادة جماعية، إلى مستوى اقتصاد العالم الأول.
كان رياض سلامة يردّد بأن مستقبل لبنان سيرتكز إلى القطاع المصرفي، لكن هذا القطاع هو من ارتكز على مستقبل لبنان فضاع المستقبل وبقيت المصارف


أما اقتصاد الوهم الذي أسس له الحريري في لبنان فهو الاقتصاد الذي يفهمه ابني البالغ من العمر أربع سنوات. فعندما أقول له: «من أين نأتي بالمال لشراء كذا»، يجيب مباشرة: «من البنك». أسأله: «لماذا يعطيني البنك مالاً؟». فيجيب: «لأنه بنك، تذهبين إلى البنك وتطلبين المال فيعطيكِ». لمَ يبدو كلام ابني مضحكاً اليوم، فيما كان البنك في أحد الأيام يقدِّم قروضاً لعمليات التجميل، ولم يشكِّل لنا الأمر نوبة ضحك يومها. كل ما كان علينا فعله هو أن نذهب إلى البنك ونطلب. اقتصاد الوهم شرَحَه رياض سلامة أفضل شرح قبل عام من الانهيار. يومها طلبت منه جريدة «النهار» أن يكون رئيس تحرير عدد خاص يكتب فيه سياسيون وفنانون وأكاديميون تحت عنوان «الكل في جريدة لنصنع وطناً». صناعة هذا الوطن كانت تمرّ لدى «النهار» على ما يبدو، بمقالات نُشرت في الصفحة الأولى من هذا العدد، لرئيس مجلس النواب نبيه بري، إلى جانب رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. أعلن سلامة أنه يعمل على إصدار عملة رقمية. هل كان الهدف منها إخفاء حقيقة نفاد الدولارات، فتحلّ محلّ الدولار اللبناني في المصارف؟ المهم أنه أضاف يومها أن «مستقبل لبنان سيرتكز إلى قطاعات أساسية مثل القطاع المصرفي». في الحقيقة، القطاع المصرفي هو من ارتكز على مستقبل لبنان، فضاع المستقبل وبقيت المصارف.

* صحافية