الإنسانية على مفترق طرق وخاصة في الوطن العربي. الخيارات المتاحة هي: الرضوخ لحضارة غربية استنفدت قواها وبرهنت عن عقمها وعدم إنسانيتها، أو الحضارة التي برهنت في الماضي عن إنسانيتها إنما تخلّت عنها عندما تبنّت الحضارة الغربية كنموذج. المقصود، الحضارة العربية الإسلامية التي هي جزء من حضارة الشرق الإجمالي. الحضارة الغربية هدفها السيطرة على الشعوب واتبعت حكوماتها قاعدة صفرية جعلت العالم منقسماً إلى رابح وحيد هو الولايات المتحدة، وإلى خاسر هو باقي العالم. النموذج الجديد الذي تطرحه الكتلة الأوراسية هي قاعدة «اربح- اربح». وما يسهم في تكوين القرار الذي يجب اتخاذه، هو إنجازات الكتلة الأوراسية خلال السنوات الماضية والتي استفادت منها الشعوب التي تبنّت المشاريع الناتجة عن مشروع الحزام الواحد أو الاتحاد الاقتصادي الأوراسي أو الالتحاق بالبريكس.
انجل بوليغان ــ المكسيك

عن هذه الإنجازات كُتب الكثير، مثل سلسلة المقالات التي أعدّها الصحافي البرازيلي بيبي اسكوبار لصحيفة «آسيا تايمز»، وموقع «ستراتيجيك كالتشر فونديشن»، والصحيفة الإلكترونية «ذي كرادل»، و«ذي فاينيارد أوف ذي سايكر». وهناك كتابات مايكل هدسون حول أهمية الحضارة الشرقية القديمة وخاصة حضارة بلاد الرافدين ومعالجتها للديون وصعود الشرق الجديد الذي يقدّم نموذجاً أكثر فعّالية من النموذج الغربي. وكذلك كتابات مات اهرت النقدية للحضارة الغربية والتي تشير إلى أن الغرب يحتضر فيما يقوم الشرق من سباته وأن القدر المتجلّي الشرقي، أكثر إنسانية من نظيره الأميركي. الإنجازات التي تحقّقت على مدى عقد من الزمن تدلّ على وتيرة التقدّم الشرقي بعدما حقّقت الصين إنجازاً تنموياً كبيراً خلال العقود الثلاثة الماضية عندما نقلت أكثر من 300 مليون صيني من تحت خط الفقر إلى الطبقة الوسطى.

طريق الحرير
مبادرة الحزام الواحد والطريق الواحد، أي المصطلح العصري لطريق الحرير القديمة، هي مبادرة أطلقتها الصين في عام 2013. وأهدافها الاستراتيجية تكمن في الآتي:
- أولاً، في التواصل بشكل عام والتواصل الفائق بشكل خاص أو (hyperconnectivity) من خلال عدّة أشكال، مثل شبكة الطرقات، وشبكات السكك الحديدية، وشبكات التواصل العنكبوتية. وهذه الشبكات تغطّي شرق وغرب آسيا وشمالها وجنوبها إضافة إلى المتفرّعات. فالشبكة التي يتمّ إنجازها منذ عام 2013 كثيفة، وتسهم في نقل البضائع بشكل أسرع داخل القارة وإلى خارجها. وتستثمر الصين مع حليفتها روسيا، في ما يُسمّى الخط القطبي (arctic road) الذي يوصل البضائع إلى غرب أوروبا، وحتى إلى شمال القارة الأميركية، أي كندا والولايات المتحدة. هذه الفكرة ليست جديدة، بل طُرحت في القرن التاسع عشر من قبل وليم غيلبين (1813-1894 William Gilpin) أحد كبار السياسيين الأميركيين والملقّب بـ«نبي القدر المتجلّي» وفقاً لرؤية الآباء المؤسّسين للدولة الأميركية. كان غيلبين مؤمناً بالتعاون مع الصين وروسيا، باعتبار أن تفاهم الثلاث كفيل بتأمين استقرار العالم. وفي عام 1890 نشر خريطة للعالم كان محورها أوراسيا (الصين وروسيا) وأوروبا الغربية إضافة إلى القارة الأميركية شمالاً وجنوباً، وأفريقيا. تميّزت هذه الخريطة بالشبكة المكثّفة لسكك الحديد التي تربط القارات. ويعلّق الباحث الكندي مات اهرت على غيلبين، بأن البديل لمفهوم القدر المتجلّي الذي حمله مشروع التواصل عبر السكك الحديدية هو العنصرية والاستعمار. ويأسف اهرت في الجزء الثاني من ثلاثيته حول صراع الأميركتين، بأن النظرة الثانية هي التي تحكّمت في سلوك النخب الحاكمة في الولايات المتحدة منذ ذلك الحين وحتى الساعة! يذكر أن العنوان الثاني للجزء الثاني من كتاب اهرت هو «ولادة القدر المتجلّي الأوراسي».
- ثانياً، تأمين الطاقة وإيصال الغذاء إلى الجميع. فالأزمات التي نشهدها اليوم في أوروبا والعديد من دول الجنوب الإجمالي تؤكّد أنه من دون الطاقة لا حضارة ولا تقدّم، وأن الغذاء شرط ضروري للبقاء. فالنظرة الصينية ليست استراتيجية فحسب، بل مبنية على الفطرة السليمة. لذا يصبح التواصل المنشود متعدّد الأبعاد: هناك بُعد استراتيجي، وبُعد اقتصادي، وبُعد ثقافي قد يكون الدافع لقوّة ناعمة جديدة مختلفة عن القوّة الناعمة الغربية التي تغذّي الغرائز على حساب الأخلاق.
في هذا السياق، تشير الخطّة الخمسية الصينية الثالثة عشرة في عام 2016، في الفصل 51، إلى أن المبادرة تهدف إلى زيادة التجارة والاستثمار من خلال التركيز على آليات التعاون الثنائي والمتعدّد الأطراف، في سبيل إيصال السياسات وتواصل البنى التحتية، تسهيل التجارة وتدفق رأس المال، والتبادل بين الأفراد. أيضاً تشير إلى أنه لا بدّ من إنشاء مناطق للتجارة الحرّة ورفع مستوى التبادل، ما يعني دعم التعاون المالي في المنطقة وتمويل البنى التحتية. وهذا الدعم يتطلّب تعاوناً مع المنظمات الدولية وإنشاء منظمات جديدة تستثمر في البنى التحتية الآسيوية، وإنشاء مصرف جديد للتنمية لجذب الرساميل والتعاون المتعدّد الأطراف على قاعدة «اربح-اربح» للجميع. وهدف المبادرة هو أيضاً الوصول إلى الموارد الطبيعية، خاصة في الطاقة وسلاسل الإنتاج وزيادة التصنيع المحلّي.
تُترجم هذه الأهداف عبر إنشاء ممرّات تغطّي القارة الآسيوية. لغاية الآن هناك ستة ممرّات:
1- الجسر الأرضي الجديد لأوراسيا، وهو عبارة عن سكة حديد تصل إلى أوروبا عبر كازاخستان، روسيا، بيلاروسيا وبولندا.
2- ممر يربط الصين بمنغوليا وبالممر الاقتصادي الروسي. وهذا الممرّ مرتبط بالممرّ السابق.
3- ممرّ يربط الصين بوسط آسيا وبالممر الغربي الاقتصادي لآسيا ويضمّ كازاخستان، قيرغيزستان، طاجكستان، أوزبكستان، تركمنستان، إيران وتركيا.
4- ممرّ يربط الصين بشبه جزيرة الهند الصينية، أي فيتنام، تايلاند، لاوس، كامبوديا، ميانمار وماليزيا.
5- الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني الذي يربط مقاطعة الصين الغربية زيجيانغ، بمرفأ غوادار الباكستاني، وهو مرفأ في مياه عميقة صالح للبواخر العملاقة وللبواخر العسكرية.
6- ممرّ يربط الصين ببنغلادش والهند وميانمار، علماً أن العمل بهذا الممرّ يشهد بعض الصعوبات بسبب الحذر المتبادل بين الهند والصين.
ميزة غالبية هذه الممرّات، أن المرافئ فيها ترتبط بسكك الحديد، ما يجعل الصين تسيطر على الممرّات البحرية والممرّات البرّية في القارة الآسيوية. وهذه نقلة نوعية في المنظور الجيوسياسي، إذ حاولت الدول الاستعمارية مثل المملكة المتحدة قديماً، والولايات المتحدة أخيراً، السيطرة على القارة/ الجزيرة الآسيوية، وفقاً لإرشادات هارفورد مكندر الذي سيطرت نظرياته على الفكر الجيوسياسي الغربي طيلة القرنين الماضيين.
نتيجة لجهود الحكومة الصينية وديبلوماسيتها، فإنه حتى عام 2021 التحقت 149دولة بشكل أو بآخر بمبادرة الطريق الواحد، ما يؤكّد النظرية الصينية أن التنمية هي للجميع وليست حكراً على الدول المستعمرة القديمة أو الجديدة. هناك 34 دولة أوراسية، 18 من الاتحاد الأوروبي و16 من وسط آسيا تشترك في المبادرة. وهناك 6 دول من جنوب شرق آسيا (حلفاء الولايات المتحدة) تشارك أيضاً في المبادرة. وهناك 38 دولة من جنوب الصحراء في أفريقيا تشارك في المبادرة، و16 دولة عربية. أميركا اللاتينية تشارك أيضاً بـ18 دولة.
هذا الالتحاق تُرجم باستثمارات غالبيتها في البنى التحتية والطاقة. ومنذ إطلاقها ولغاية نهاية 2021، بلغت الاستثمارات ضمن المبادرة، نحو 892 مليار دولار. وحتى عام 2020 كان مستوى الاستثمار السنوي يفوق 105 مليارات دولار، إلاّ أن جائحة كورونا والانكماش الاقتصادي العالمي خفّضاها إلى 60.5 ملياراً لسنة 2020 و59.5 ملياراً لسنة 2021. ولكن سجلّ المبادرة يظهر الجدّية والإيجابية على قاعدة «اربح-اربح» رغم ادّعاءات غربية معادية تروّج لنظرية تنفذها الصين هي «فخّ الاستدانة». غير أن الصين أعفت الأسبوع الماضي عدداً من الدول الأفريقية من سداد ديونها التي أقرضتها إياها خلال العقد الماضي.
باكستان هي أكثر الدول استفادة، إذ استُثمر فيها أكثر من 31.5 مليار دولار لتنفيذ شبكات طرق وسكك حديد تربطها بالصين. وقبل الانقلاب على عمران خان، أي في عام 2021، ضُخّت فيها استثمارات بقيمة 7.6 مليارات دولار. وثاني دولة أكثر استفادة هي نيجيريا بحصّة بلغت 23.2 مليار دولار. وهناك استثمارات في عدد من الدول العربية منها 15.3 مليار دولار لمصر، و14.7 ملياراً للإمارات العربية المتحدة. أما العراق فقد نال حصّة في عام 2021 للمواصلات والمطارات والطرقات بقيمة 10 مليارات دولار. ولاحظ المراقبون تزايد اهتمام الاستثمارات الصينية في الدول العربية والأفريقية، ما يؤكّد أن التنمية ليست حكراً للقارة الآسيوية بل تشمل أفريقيا وأميركا اللاتينية، وأيضاً في أوروبا إذا أرادت التمرّد على الإملاءات الأميركية. ولاحظ موقع مركز التنمية والتمويل الأخضر، أن العديد من الاستثمارات تكون في المشاريع البيئية الطابع، والطاقة الخضراء أو «النظيفة» المتجدّدة. وقد بلغت الاستثمارات لسنة 2020 و2021 في الطاقة الخضراء أكثر من 6 مليارات دولار. أما الاستثمارات في النفط والغاز فقد ارتفعت من 1.9 مليار دولار في عام 2020 إلى 6.4 مليارات دولار في عام 2021، علماً أنه لم تكن هناك أي استثمارات في الفحم.

الوحدة الاقتصادية الأوراسية
ليس مشروع المبادرة الضخم هو الخيار الوحيد في الكتلة الأوراسية. فهناك مشروع الوحدة الاقتصادية الأوراسية الذي يروّج لها ويقودها سرجي غلازييف. المستغرب أن محرّك «غوغل» للبحث، لا يظهر عن الموضوع إلا بضعة مقالات أميركية تشكّك في جدواه واستمراره «ما بعد بوتين» كما ورد في مقال نُشر على موقع «ذي ديبلومات» في 26 أيار 2022. غير أن هذا المشروع حديث نسبياً، إذ وقّعت المعاهدة التي تربط روسيا ببيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان وقيرغيستان في عام 2014، وبدأ العمل بها في عام 2015. الاقتصاد الإجمالي لهذه الدول أكثر من 2 تريليون دولار منها 87% أو 1.8 تريليون دولار لروسيا، إنما المساحة الجغرافية التي تشكّلها تتجاوز 20 مليون كيلومتر مربّع منها 17 مليوناً في روسيا و2.7 مليون في كازاخستان. أما هدف هذه الوحدة، فهو التنسيق في السياسات الاقتصادية بين هذه الدول، وإزالة العوائق التجارية، والتنسيق في الضوابط والقوانين، وتحديث الاقتصادات. أهداف شبيهة بأهداف الوحدة الاقتصادية الأوروبية، وهي شبيهة هيكلياً بالاتحاد الأوروبي، إلا أن سلطة اللجنة العليا أقل من نظيرتها الأوروبية، ما يعطي حرّية واستقلالية أكبر للدول الأعضاء. لكن حداثة المؤسّسة لا تسمح بإصدار الأحكام على فعّاليتها.
تُعدّ الوحدة الاقتصادية الأوراسية، بمثابة المشروع الأوراسي الآخر الذي يتكامل في تكوينه وأهدافه مع مبادرة الحزام الواحد والطريق الواحد. لم يَظهر تناقض بينهما بعد، سواء في المواقف أو في المصالح. وأطلقت الوحدة الاقتصادية الأوراسية ممرّها للنقل بين شمال وجنوب آسيا والمعروف باسم الممر الدولي الشمالي الجنوبي للمواصلات، وأهميته تكمن في دور الجمهورية الإسلامية وعلاقاتها المتنامية مع روسيا. إيران قطعة أساسية على طاولة الشطرنج الأوراسية، فضلاً عن دورها في «استيعاب واستعادة» أفغانستان إلى المعسكر الأوراسي، وها هي أنجزت مشاريع تنموية في منطقة هيرات في شرق أفغانستان. تقاطع الممرّات الأوراسية وممرّات مبادرة الصين، يؤكّد المسار التوافقي بين المشروعين. يتعزّز الأمر بتوصّل هذه الأطراف إلى وحدة تواصل المدفوعات موازية لمنظومة «سويفت»، وهي تشمل المنظومة الروسية والصينية والهندية، فضلاً عن انضمام 14 دولة إلى قمة المنتدى الاقتصادي الأوراسي الذي يُعقد حالياً في مدينة سمرقند. الوحدة الاقتصادية الأوراسية مرشحة للتوسّع ولا سيما أن التكامل بين مبادرة الحزام ومؤسّسة شنغهاي للتعاون ومؤسسة التعاون الجماعي يضمّ دولاً في كل هذه المنظومات، وبينها تنسيق يشمل الدول العربية والأفريقية ودول أميركا اللاتينية.
هناك سوء تقدير دفع الاتحاد الأوروبي إلى تخصيص موارده في الثقب الأسود الذي تشكّله أوكرانيا والامتناع عن المشاركة في سلسلة مشاريع أنابيب نفط وغاز محورها أذربيجان


هناك سوء تقدير لقيادات أوروبا أضاع عليها فرصة المساهمة في المشاريع الضخمة التي تنفّذها المبادرة الصينية والوحدة الاقتصادية الأوروبية. يشير الصحافي بيبي أسكوبار، وهو مصدر معلومات كبير لما يحصل في القارة الآسيوية، إلى أن سلسلة من مشاريع أنابيب نفط وغاز محورها أذربيجان «الصديقة» للغرب، وخاصة لتركيا، كانت بحاجة إلى تمويل، غير أن كلّ موارد الاتحاد الأوروبي ذهبت إلى الثقب الأسود الذي تشكّله أوكرانيا. فخطّ الأنبوب الذي يربط باكو - أذربيجان مع تبيليسي - جورجيا، وأوزروم - تركيا، أو خط الأنبوب الذي يربط أذربيجان بالهضبة الأناضولية، أو حتى الخط الذي يعبر بحر الأدرياتيك، كانت فرصاً للتمويل الكثيف الخارجي. وهذه الشبكة كانت لتمثّل الممرّ الجنوبي للغاز إلى أوروبا إلا أنها أصبحت خارج متناول الاتحاد الأوروبي بسبب سوء التقدير الذي يرتكبه في أوكرانيا. تسعى الكتلة الأوراسية إلى ضبط الإيقاع في السيطرة على البحار من خلال إجراءات جعلت بحر قزوين والبحر الأسود وشرق البحر المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي/بحر عمان والمحيط الهندي، أي منظومة البحار الخمسة التي تكلّم عنها الرئيس بشار الأسد، جزءاً أساسياً من منظومة الأمن الإقليمي والآسيوي. السيطرة التقليدية للبحرية البريطانية سابقاً والأميركية حالياً، تواجه تحدّيات يصعب تجاوزها. ربط بحر قزوين بالبحر الأسود عبر القناة بين نهر الدون الروسي الذي يصب في البحر الأسود، حوّل بحر قزوين إلى بحيرة تسيطر عليها روسيا وإلى حدّ ما الجمهورية الإسلامية في إيران، كما أنه مع اكتمال العملية العسكرية الخاصة الروسية في أوكرانيا، ستحصل روسيا مع تركيا على اليد العليا في السيطرة على البحر الأسود وإخراج الأسطول الأطلسي منه، أما تواجد القواعد البحرية الروسية في سوريا، فهو يكسر الاحتكار الأطلسي لشرق البحر المتوسط الذي أصبح بكامله ممرّاً لروسيا ومن ورائها للصين والجمهورية الإسلامية في إيران.

* باحث وكاتب اقتصادي سياسي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي