هناك الكثير مِن التهنئة الذاتية بين الحكومات ومسؤولي «البنك الدولي» والعديد من الاقتصاديين بشأن «تراجع معدلات الفقر» في الفترة بين عام 1990 وبين ظهور وباء «كورونا» أخيراً. ادّعاء التراجع يستند إلى «خطّ الفقر العالمي» (IPL) والبالغ 1.90دولار يومياً (وفقاً لتكافؤ القوّة الشرائية لعام 2011) الذي وضعه «البنك»، وهو يُعرِّف الفقر في جميع أنحاء العالم، على أنه عدم القدرة على الوصول إلى حزمة من السلع، على مدى يوم واحد، كان من الممكن شراؤها بمبلغ 1.90 دولار في الولايات المتحدة عام 2011.كيف يمكن قياس هذا الانخفاض استناداً إلى حقيقتين؟
في عام 2011، كان مبلغ 1.90 دولار أميركي يكفي لشراء فنجان قهوة، ولا شيء غيره. في الهند، كان المبلغ الذي يعادل 29 روبية (في عام 2011)، سيشتري بالكاد زجاجتين من مياه الشرب.
وفقاً لهذا التعريف، عاش 1.895 مليار شخص أو 36% من سكان العالم، في فقر عام 1990؛ انخفض عدد هؤلاء إلى 736 مليوناً (10% من سكّان العالم) بحلول عام 2015. وهنا أساس الادعاء بأنّ «أكثر من مليار شخص، انتُشلوا من براثن الفقر في هذه الفترة».
قبل أن نذهب إلى أبعد من ذلك، نحتاج إلى فحص هذا الادّعاء. فالانخفاض في معدلات الفقر عالمياً، حتى وفقاً لهذا المعيار، يعود بدرجةٍ رئيسة إلى الصين. في عام 1990، عاش 750 مليون شخص في الصين تحت مستوى «خطّ الفقر العالمي»؛ بحلول عام 2015، انخفض هذا الرقم إلى 10 ملايين (فقط)، أي بنحو 740 مليوناً. هكذا، إن 64% من «الذين باتوا فوق خطّ الفقر العالمي»، يعودون بالكامل إلى الصين. ووفقاً للمعيار نفسه، ارتفع عدد الفقراء في أفريقيا جنوب الصحراء والشرق الأوسط، خلال الفترة ذاتها، إلى نحو 140 مليوناً. وإذا كان هناك انخفاض حقيقي في الفقر حدث في أيّ مكان في هذا العالم، وفقاً لتقديرات «البنك الدولي»، فهو في الصين.
في ظلّ وجود خطّ فقر مختلف قليلاً (2.5 دولار في اليوم)، فإن عدد الفقراء في العالم لم يكن لينخفض على الإطلاق بين عامَي 1990 و2010 لو جرى استبعاد الصين. وإذا ارتفع خطّ الفقر إلى 5.5 دولارات في اليوم، سيرتفع عدد الفقراء من مليارَي شخص إلى 2.6 مليار بين عامَي 1990 و2015، مع استبعاد دول شرق آسيا والمحيط الهادئ. لذلك، فإن ما يسمى تراجع معدلات الفقر، هو ظاهرة محليّة للغاية، تقتصر على الصين وبقية شرق آسيا.
لكن المشكلة الحقيقية في ما يتعلّق بتقديرات «البنك الدولي» للفقر، كما ذكرنا سابقاً، هي أن «خطّ الفقر العالمي» الخاص به، قد وضع عند مستوى منخفض جداً، ما يشكِّل استخفافاً كبيراً بالفقر حول العالم. هذه نقطة لطالما أثارها كثر من انتماءات يسارية؛ لكن حتى تقرير الأمم المتحدة الذي أُعدَّ لمجلس حقوق الإنسان، أوضح هذه النقطة بشكل قاطع.
سبب الاستخفاف بالفقر حول العالم، وفقاً لتقديرات «البنك الدولي»، بسيط للغاية: لا يستند «خط الفقر العالمي» الخاص بـ«البنك» إلى أيّ معيار موضوعي، مثل مقدار الإنفاق المطلوب لتلبية مجموعة محددة من «الاحتياجات الأساسية»، أو لتلبية احتياجات غذائية، أو غيرها. لكنّه ببساطة، يأخذ خطوط الفقر الوطنية لـ15 من أفقر بلدان العالم، الموجودة بشكلٍ رئيس في أفريقيا جنوب الصحراء، ويحوّلها إلى أسعار صرف تعادل القوّة الشرائية (ليس بأسعار الصرف الاسمية) إلى دولار عام 2011، ثم يأخذ متوسّط هذه الأرقام للوصول إلى «خط الفقر العاملي» الخاص به، أي 1.90 دولار أميركي لعام 2011. الأساس الدقيق لخطوط الفقر الوطنية هذه غير معروف؛ وبما أن الحكومات تميل، عادةً، إلى خفض مستويات الفقر لديها من أجل المبالغة في تضخيم «إنجازاتها» في مجال القضاء على الفقر، فإن خطوط الفقر الوطنية هذه هي أقلّ من الواقع.
بالإضافة إلى ما سبق، ليس ثمّة سبب لاستخدام خطوط الفقر الوطنية لبعض البلدان، وإسقاطها على جميع البلدان، بصرف النظر عن الاختلافات الوطنية. واقعاً، إن خطوط الفقر الوطنية الموجودة بالفعل في معظم البلدان أعلى بكثير من خطّ الفقر العالمي الخاص بـ«البنك الدولي»؛ وتالياً، فإن حجم الفقر العالمي، لهذا السبب أيضاً، أعلى بكثير ممّا يبدو عليه لدى استخدام مؤشرات «البنك».
أخيراً، هناك عدد قليل جداً من البلدان التي لديها مثل هذه الاستطلاعات التفصيليّة على مستوى الأمة مثل الهند التي تنفذ مسحاً لعينة كبيرة كل خمس سنوات، وعيّنة صغيرة كل عام؛ بالإضافة إلى عيوب «خط الفقر العالمي»، هناك عيوب إضافية في المعلومات الأساسية حول المستجيبين.
إلى جانب ذلك، هناك ثلاث نقاط أخرى تجعل الادّعاء بحدوث انخفاض في معدلات الفقر عالمياً، أمراً غير مقبول. الأولى هي حقيقة أن مؤشرات الأسعار النموذجيّة، لا تعكس الارتفاع الفعلي في كلفة المعيشة. يمكن توضيح ذلك استناداً إلى البيانات الهندية. تحدّد مؤشّرات الأسعار كلفة سلّة السلع التي كان يستهلكها سكان معيّنون في سنة الأساس، اليوم، مقارنةً بتلك السنة. وفي هذه الأثناء، فإن تغيّر محتويات السلّة، لا يكون دائماً طوعياً، إنما لأن السلع والخدمات القديمة تسقط تدريجياً من السلة، بينما يتم إدخال سلع جديدة.
المثال الأكثر أهمية هنا، هو إدخال الرعاية الصحية الخاصة والتعليم سعياً وراء السياسات النيوليبرالية. وفي حين يبقى ممكناً ألا تتغيّر معدلات العمليات الجراحية والإجراءات الأخرى في المستشفيات الحكومية بين سنة الأساس والسنة الحالية، وتالياً يظلّ سعر الرعاية الصحية في مؤشر الأسعار من دون تغيير، فإن الزيادة في عدم توافر الرعاية الصحية الحكومية من شأنها أن تدفع المزيد من الناس إلى مرافق الرعاية الصحية الأعلى كلفة، وهو ما يرفع من كلفة الرعاية الصحية. من شأن حركة مؤشّر الأسعار هنا، أن يقلّل من ارتفاع كلفة المعيشة. لذا، حين ننظر إلى مرادف «خط الفقر العالمي» لأيّ مجموعة من السنوات، فإن الارتفاع في الرقم الذي نحصل عليه (في مؤشّر الأسعار)، سيكون أقلّ من معدلات ارتفاع الكلفة الفعلية للمعيشة ما من شأنه أن يبالغ في انخفاض مستوى الفقر بمرور الوقت (أو يقلّل من زيادته). وبالتالي، فإن تراجع معدلات الفقر المسنود إلى تلك الأرقام، خاطئ.
هذا هو السبب الرئيس وراء كون خطّ الفقر في الهند، اليوم، أقلّ بكثير ممّا ينبغي أن يكون عليه إذا أخذنا تعريف الفقر على محمل الجدّ، أي مستوى الإنفاق الذي يصل فيه الشخص الريفي إلى 2200 سعرة حرارية في اليوم والشخص الحضري إلى 2100 سعرة حرارية. في المقابل، يتم خفض تقديرات عدد الفقراء، ما يعطي انطباعاً زائفاً عن تراجع معدلات الفقر. لكن هذه المشكلة ليست خاصة بالهند وحسب؛ إنها ظاهرة عالميّة سبّبتها خصخصة الخدمات الأساسية، في ظلّ النيوليبرالية.
السبب الثاني وراء خطأ الانخفاض المزعوم في معدلات الفقر، هو الانخفاض في أسعار السلع الأساسية الذي حدث بعد عام 2011. فبَين نيسان/ أبريل 2011 وكانون الأول/ ديسمبر 2019، أي قبل ظهور الوباء، كان هناك انخفاض بنسبة 38% في مؤشّر أسعار السلع التابع لـ«صندوق النقد الدولي». لا بدّ أن ذلك أدّى إلى تدهور مستويات المعيشة لأعداد كبيرة من سكّان العالم الثالث. وإذا لم تنعكس هذه الحقيقة في استهلاكهم، فيمكن أن يكون ذلك لأن المديونية الأكبر، ربّما مكّنتهم من الحفاظ على استهلاكهم عند مستويات معينة. الادّعاء بتراجع الفقر عندما يتم دعم الاستهلاك من خلال الاقتراض، هو أمر سخيف.
إن خطوط الفقر الوطنية الموجودة بالفعل في معظم البلدان أعلى بكثير من خطّ الفقر العالمي الخاص بـ«البنك الدولي»، لذا فإن حجم الفقر العالمي أعلى بكثير ممّا يبدو عليه لدى استخدام مؤشرات «البنك»


السبب الثالث مشابه للثاني: الزيادة في البطالة التي حدثت أخيراً على خلفية اشتداد أزمة الرأسمالية العالميّة ومن أحد تداعياتها انخفاض أسعار السلع الأساسيّة. وعلى خلفية ارتفاع معدّلات البطالة، فإن الاستهلاك إمّا ينخفض أو يستتبع بمديونية أكبر. في الهند، على سبيل المثال، كانت البطالة قبل الوباء هي الأعلى على الإطلاق في السنوات الـ45 الماضية.
تتضح حقيقة أن كل هذه العوامل كان لها تأثير سلبي للغاية على مستوى الاستهلاك في الهند من بيانات مسح العيّنة الوطنية لعامَي 2017-2018 حول الإنفاق الاستهلاكي، وهي بيانات صادمة للغاية لدرجة أن حكومة ناريندا مودي قرّرت حظرها تماماً. في المناطق الريفية مثلاً، كان نصيب الفرد من الإنفاق الاستهلاكي الحقيقي في 2017-2018 أقل بنسبة 9% مقارنة بالفترة 2011-2012.
الادّعاء، في هذا السياق، بأن عدد الفقراء حول العالم قد انخفض، خارج الصين وشرق آسيا في أحسن الأحوال، هو أمر سخيف، حتى في غياب البيانات الغذائية التي تشير إلى خلال ذلك.

* أستاذ فخري في مركز الدراسات الاقتصادية والتخطيط في جامعة جواهر لال نهرو في نيودلهي. لديه مؤلّفات عديدة، أبرزها «التراكم والاستقرار في ظلّ الرأسمالية» (1997)، «قيمة المال» (2009)، و«إعادة النظر في الاشتراكية» (2011)

* نُشرت هذه المقالة في صحيفة «ذا تلغراف إنديا} - 18 تموز 2020

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا