رغم مرور شهر ونصف على إقرار خطة الحكومة للإصلاح الاقتصادي والمالي والنقدي والمصرفي، فإنها لا تزال حبراً على ورق، ولم تظهر حتى الآن أي بوادر للبدء بالتطبيق العملي للإجراءات المطروحة في الخطة. وفي ما خصّ الإصلاحات النقدية والمصرفية تحديداً، لم تقدّم الخطة الآليات والإجراءات التنفيذية لها، ولا المدى الزمني للتنفيذ أو التواريخ التقديرية لبدء التنفيذ.
أركاديو اسكيفيل ــ كوستاريكا

- أولاً: يُلاحظ أن مقترحات الخطّة للإصلاح النقدي تستند إلى نظريات أكاديمية لا يمكن الجزم بمدى انطباقها عملياً. فعلى سبيل المثال، وفي معرض شرح نيّة الحكومة اعتماد سعر صرف أكثر مرونة، والانتقال من نظام سعر الصرف الثابت الى نظام سعر الصرف العائم، تُورد الخطة أن مصرف لبنان سوف يُطبّق سياسة صرف تضمن أن سعر الصرف الأجنبي سيعكس الفرق في التضخم بين الليرة والعملات الأساسية. ونستند هنا الى النصّ باللغة الإنكليزية للخطة بسبب الأخطاء وعدم الوضوح في النص المترجم باللغة العربية: BdL will implement an exchange rate policy that will ensure that adjustable FX rate will reflect inflation differential with major currencies. وعليه، فبحسب الخطة، سوف يتعدّل سعر صرف الليرة مقابل العملات الأساسية بحسب الفرق في معدلات التضخم بين لبنان والدول صاحبة العملات الأساسية (كالولايات المتحدة ومنطقة اليورو وبريطانيا وكندا وغيرها). يستند هذا المنطق الى نظريةTheory Purchasing Power Parity التي تشير إلى أنّ سعر الصرف بين العملات يتحدّد (فقط) بنتيجة الفرق في معدلات التضخم بين الدول. وعدا عن أنها نظرية تظلّ قابلة للدعم أو الدحض، فهي لا تستطيع «تفسير» التغيّر في سعر الصرف، لأنها تُهمل جميع العوامل الأخرى التي تؤثّر في قيمة العملة، كالفرق في معدلات الفوائد على العملات، والفرق في النموّ الاقتصادي للدول، ووضعية الحساب الخارجي للدولة، والصدمات الاقتصادية والسياسية التي تتعرض لها الدولة وغيرها. هكذا، تقترح خطّة الحكومة اعتماد نظام سعر صرف جديد يستند إلى نظرية بدائية ومقاربة أحادية، بدلاً من الاستناد الى إطار متطوّر وقابل لتطبيق نظام سعر الصرف يأخذ في الاعتبار جميع المتغيرات الواردة أعلاه، على أن يتَكَامل هذا الإطار مع الإجراءات الإصلاحية الأخرى الهادفة إلى تخفيف العجز في ميزان التجارة والحساب الجاري وميزان المدفوعات.
- ثانياً: أشارت الخطة إلى خفض قيمة الليرة (Devaluation) مقابل الدولار، وبالتالي زيادة سعر الصرف الرسمي إلى 3500 ليرة خلال عام 2020، على أن تنخفض قيمة الليرة (Depreciate) بنسبة 5% سنوياً حتى عام 2024 ليبلغ سعر الصرف 4297 ليرة للدولار، وأن يتحقّق الاستقرار في سعر الصرف بعد ذلك، بناءً على تصحيح عجز الحساب الجاري وإعادة هيكلة الاقتصاد. يثير هذا الأمر سؤالاً: بمعزل عن احتمال حصول انفلات في سعر الصرف الرسمي نتيجة للخفض (Overshooting)، وإذا كان المقصود بالزيادة التدريجية لسعر الصرف الرسمي خلال السنوات الأربع المقبلة هو ناجم عن انخفاض بمعنى (Depreciation) وليس خفضاً بمعنى (Devaluation)، فهل يدل ذلك على أن واضعي الخطّة يتوقعون استمرار الضغوط على الليرة لغاية عام 2024، ما سيؤدي إلى استمرار تراجع قيمتها حتى ذلك التاريخ؟ ويستتبع ذلك سؤالاً آخر: هل أخذ واضعو الخطة بالاعتبار احتمال زيادة سعر الصرف بين 2021 و2024 بأكثر من 5%؟ وما هي الخطة لمواجهة ذلك؟ هل ستكون لدى مصرف لبنان إمكانية التدخل في السوق ومنع ذلك؟ قد يكون ذلك صعباً جداً!
رغم وجود نقاط جيدة في خطة الحكومة إلا أنها بحاجة إلى مراجعة جدّية وإسناد الإصلاحات إلى أطر عملية ثم اعتماد سياسات ملائمة وقابلة للتطبيق


- ثالثاً: بالعودة إلى سعر الصرف الرسمي الجديد لعام 2020 وما بعده، هل سيُطبّق على جميع القطاعات الاقتصادية وجميع المستوردات من دون استثناء؟ أم سيستمر الاعتماد على «الدولار المدعوم» للمستوردات الأساسية؟ تُشير الخطة الإصلاحية إلى أن الحكومة ومصرف لبنان سوف يواصلان إيلاء الاهتمام للمستوردات ذات الأولوية، لكن من دون شرح كيفية ذلك. فهل سيكون ذلك فقط عبر تأمين الدولار للمستوردات الأساسية، أم عبر تأمينه بسعر مدعوم؟ إن لبنان ليس حالة فريدة لناحية وجود سعرين للصرف أو ما يُسمى بسعر الصرف المزدوج (Dual exchange rate) الذي اعتُمد في العديد من الدول التي واجهت صدمة في سعر صرف عملاتها بهدف منع تضخم أسعار السلع الأساسية المستوردة. إن التحول المفاجئ لتسعير الطحين والمشتقات النفطية والأدوية إلى سعر الصرف الجديد، في ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية ومعدلات البطالة والفقر غير المسبوقة، سيؤدّي إلى انفجار اجتماعي. لذا، يجب الانتقال من اعتماد الدولار المدعوم للسلع الأساسية إلى السعر الرسمي بشكل تدريجي، وذلك توازياً مع تحسّن الأوضاع الاقتصادية وتراجع معدلات البطالة.
- رابعاً: ربما الأهم بين جميع بنود الخطة الاصلاحية، ما يتعلق بالسياسة النقدية الجديدة المُقترحة لمصرف لبنان. تورد الورقة أنه بعد استقرار الأوضاع الاقتصادية، سيقوم مصرف لبنان باعتماد سياسة نقدية تُركز على استهداف القاعدة النقدية (Monetary targeting) كبديل من السياسة المعتمدة منذ عام 1993، وهي استهداف سعر الصرف (Exchange rate targeting). تهدف السياسة المقترحة، إلى قيام المصرف المركزي بالتأثير على معدلات التضخّم والنموّ الاقتصادي عبر تحقيق نسب محددة من النموّ للكتلة النقدية M1 أو M2. لا شكّ في أنه يجب تغيير أهداف السياسة النقدية في لبنان، والتحوّل من سعر الصرف الثابت إلى سعر صرف مرن يتحدّد (ضمن ضوابط) عبر آليات العرض والطلب ويعكس وضعية المتغيرات الاقتصادية الكلية. ولكن هل السياسة النقدية البديلة المطروحة هي ملائمة فعلاً للبنان؟ إن دولرة الاقتصاد اللبناني العالية جداً ووجود عملتين في التداول يؤديان إلى وجود كتلتين نقديتين في السوق، واحدة بالليرة، وأخرى بالدولار. يمكن مصرف لبنان التحكم في الكتلة النقدية بالليرة على عكس الكتلة النقدية بالدولار. وقد تضاءلت قدرة مصرف لبنان على التأثير بالكتلة النقدية بالدولار نظراً إلى تداول جزء مهم منها خارج القطاع المصرفي بعد 17 تشرين 2019.
كما أنه مع فتح المطار، فإنه يتوقع دخول كميات متزايدة من الدولار إلى لبنان مع القادمين، إلا أنها لن تدخل إلى النظام المصرفي بسبب فقدان الثقة. لذا، فإن قدرة مصرف لبنان على التأثير بالكتلة النقدية بالدولار قد انخفضت فعلاً وستنخفض أكثر. وكلما ازداد حجم الكتلة النقدية بالدولار خارج النظام المصرفي، سينخفض تأثير تحكّم مصرف لبنان في الكتلة النقدية بالليرة على التضخّم.
الخلاصة، إن الطلب المحلّي لن يكون مدفوعاً بالكتلة النقدية بالليرة فقط، بل كذلك بالكتلة النقدية بالدولار، ما يؤدي إلى عدم القدرة على تحقيق معدلات التضخّم المستهدفة. إن الشرط الأساسي لنجاح سياسة الاستهداف النقدي هو وجود علاقة قوية وموثوقة بين المتغيرات المستهدفة (التضخم والدخل) وبين إجمالي النقد المستهدف (Targeted monetary aggregate)، وهو أمر غير متوافر في لبنان. مع الإشارة كذلك إلى أن عدداً كبيراً من الدول المتقدمة والنامية تخلّى عن هذه السياسة بسبب فشلها في تحقيق الأهداف المنشودة.
قد يكون البديل هو اعتماد سياسة «استهداف التضخم» (Inflation targeting) مباشرة، بما أن ضبط التضخّم هو هدف الحكومة. ضمن هذه السياسية يمكن اعتماد مروحة أوسع من الأدوات النقدية بدلاً من التركيز على الكتلة النقدية فقط. ومع الأخذ بالاعتبار التعقيدات العديدة والقيود الكبيرة والهوامش المحدودة للسياسات خلال عملية إعادة الهيكلة الاقتصادية والمالية الشاملة، فإن سياسة استهداف التضخّم تعطي مصرف لبنان حريّة أكبر لتحقيق هدف ضبط التضخّم. طبعاً مع التكامل مع السياسات الحكومية، ومنها تحديداً ما ورد أعلاه بالنسبة إلى التحوّل التدريجي من اعتماد سعر الدولار المدعوم إلى سعر الدولار الرسمي للسلع الأساسية المستوردة. وبعد تحقيق الإصلاح النقدي والمصرفي الشامل، يستمر مصرف لبنان في اعتماد هذه السياسة عبر أدوات نقدية أخرى، كمعدلات الفائدة وعمليات السوق المفتوحة، حتى في ظل استمرار الدولرة.
رغم وجود نقاط جيدة في الخطة الإصلاحية الحكومية، الا أنها بحاجة الى مراجعة جدّية لأنها تتضمن العديد من المقاربات المتسرّعة، وخصوصاً أنها تعرض اليوم على صندوق النقد الدولي. يجب إسناد الإصلاحات إلى أطر عملية وليست نظرية فحسب، ثم اعتماد سياسات ملائمة وقابلة للتطبيق في لبنان وتحقّق الأهداف المطلوبة.
* أستاذ جامعي