«بطل» الرواية قد يكون أي شخص يملك حساباً في واحد من المصارف اللبنانية. «ائتمن» هذه المؤسسات على أمواله، قبل أن يُفاجأ بمنعه من حقّه في استردادها كاملة. فمنذ أسابيع، وزبائن المصارف في لبنان محكومون بإجراءات غير قانونية تحدّ من قدرتهم على نقل أموالهم: تحديد سقف للسحب النقدي، عدم صرف الشيكات نقداً، عدم السماح بالقيام بتحويلات من مصرف إلى آخر، خفض الحدّ المسموح به للسحب عبر بطاقات الائتمان، منع التحويلات المالية إلى الخارج... إنّه زمن تقييد عمليات السحب والتحويل، أو ما يُعرف بلغة الاقتصاديين بـ«الكابيتال كونترول». يتمّ اللجوء إلى هذه الإجراءات استنسابياً. فالمصارف تُطبّقها من دون أي مُسوّغ قانوني، يُحدّد المعايير الواجب اعتمادها. أما المشكلة الكُبرى، فهي أنّ المصارف جائرة باجراءاتها: تُمارس القيود على صغار المودعين، المُحتاجين إلى الأوراق النقدية، فيما هي تُقدّم استثناءات لكبار المودعين وزبائنها «المُميزين»، حتى «يُهرّبوا» أموالهم إلى الخارج.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

بين التمسّك بحرية نقل الأموال واستثمارها في بلدان أخرى، والدعوة إلى فرض قيود على عمليات السحب والتحويل، تتنوع الآراء. فالرافضون لتشريع «الكابيتال كونترول» في لبنان، يربطون بين سنّ القانون والتأثير السلبي في التحويلات المالية إلى البلد، أكان من المغتربين أم المستثمرين أم ودائع المؤسسات المالية العالمية والحكومات الأجنبية. يرفضون الاستمرار في سياسة فرض القيود، أو تشريعها، لاقتناعهم أنّ ذلك سيؤدي إلى تدمير القطاع المصرفي. على الجانب الآخر، برزت مطالبات خلال الانتفاضة الحالية تُشجّع «الكابيتال كونترول» منعاً لهروب رؤوس الأموال في هذه المرحلة الدقيقة على كلّ المستويات. أما بالنسبة إلى صندوق النقد الدولي، فيُمكن «تطبيق الضوابط على رأس المال، حين تكون جزءاً من حزمة أوسع، تهدف إلى تحسين البيئة الاقتصادية والمالية للبلد». فهي إجراءات «تهدف إلى الحدّ من التحويلات والمدفوعات المرتبطة بمعاملات رأس المال» (صندوق النقد الدولي - 2011). فتنظيم هذه التدفقات يؤدّي إلى «تفادي الآثار المتأتية عن زيادة التدفق أو التوقف المفاجئ في دخول الأموال» (صندوق النقد الدولي - 2012).
بلدانٌ قليلة تعتمد سياسة تقييد عمليات السحب والتحويل، كالصين والبرازيل والأرجنتين. في حين أنّ دولاً أخرى تلجأ إلى «الكابيتال كونترول» لفترات زمنية مُحدّدة، بغية تقليص تدفقات الودائع إلى الخارج وضمان استقرار النظام المالي المحلي، خلال فترات عدم اليقين السياسي والاقتصادي. من الأمثلة على ذلك، ايسلندا (فُرض الكابيتال كونترول سنة 2008، لدعم استقرار سعر الصرف) اليونان (فُرض في حزيران 2015 لحماية النظام المصرفي المحلي) وقبرص (طبّقت القيود في آذار 2013).
في الأول من آب 2016، أصدر قسم البحوث الاقتصادية في «يوروبنك» دراسة تناولت آثار هذه السياسة على الاقتصاد المحلي لكل من قبرص واليونان، شارحاً الدروس التي يُمكن تعلّمها من التجربتين.
سنة 2010، بدأت أزمة اقتصادية في اليونان نتيجة تراكم تأثيرات سلبية لعدد من الأزمات، أبرزها الأزمة الاقتصادية العالمية في الـ2008. عجزت اليونان عن سداد ديونها، مع ارتفاع معدل العجز في الموازنة وتصاعد كلفة الدين العام. الأزمة التي هدّدت استقرار كامل منطقة اليورو، أوصلت في النهاية إلى موافقة الاتحاد الأوروبي على تقديم المساعدة لليونان، شرط تنفيذها إصلاحات اقتصادية قاسية، بهدف خفض العجز في الموازنة العامة. «الكابيتال كونترول» واحد من الإجراءات، فكان له تأثير على الاقتصاد الكلي لليونان، ولا سيما الناتج المحلي الإجمالي.
في ما يأتي، ملخّص لأبرز ما ورد في الدراسة:

تجربة قبرص
قبرص، أول بلد في الاتحاد الأوروبي يفرض قيوداً على حركة رأس المال، بغرض مواجهة الـ«Bank Run»، أي حين يُسارع العملاء إلى سحب أموالهم من المصارف خوفاً من انهياره أو إفلاسه، وإنقاذ الدائنين غير المضمونين. وقد تمّ تطبيق «الكابيتال كونترول» بإجماع سياسي في البلد. أبدت السلطات المحلية التزاماً قوياً بشروط البرنامج، ما أدّى إلى نتائج إيجابية على الاقتصاد الكلّي والتأثير السلبي كان أقل من المتوقع. تُشير دراسة «يوروبنك» إلى استمرار النشاط الاقتصادي السياحي والخدمات المهنية «لأنهما أقلّ اعتماداً على الائتمان وأكثر قدرة على المنافسة من قطاعات محلية أخرى».
رُفعت كامل القيود عن رأس المال في قبرص، بعد سنتين من تطبيقها وتحقيق نتائج ملموسة.
التدابير التي اتُخذت لمواجهة تدفق رأس المال:
- إعادة هيكلة الديون في إطار خطة الإنقاذ المالي، بقيمة 10 مليارات يورو، من دون مشاركة القطاع الرسمي في إعادة تمويل البنوك
- إقفال البنوك لأسبوعين، وحصر السحوبات المالية من ماكينات الصرّاف الآلي، بحسب توافر السيولة
- بعد فتح المصارف، حُدّ سقف السحوبات اليومية بـ300 يورو، وفُرضت قيود على المعاملات عبر المصارف
أما بالنسبة إلى المعاملات خارج الحدود، فقد تمّ:
- حظر التحويلات والدفع غير النقدي في الخارج، مع تطبيق استثناءات
- تحديد سقف 5 آلاف يورو في اليوم على المدفوعات والتحويلات للخارج عبر البطاقات الائتمانية
- تحديد 5 آلاف يورو، كل ثلاثة أشهر، لمصاريف المعيشة والتعليم في الخارج
- رفض صرف الشيكات
- رفض فتح حسابات جديدة
- حظر فسخ عقود الودائع المُحدّدة بأجل

مراحل القيود في اليونان؟
قُسّم «الكابيتال كونترول» في اليونان إلى خمس مراحل، من 28 حزيران 2015 إلى 22 تموز 2016، تطورت خلالها القيود المفروضة على المعاملات المالية والنقدية، إذ كانت في كلّ مرحلة تتسم بنوع أكبر من المرونة. البداية كانت مع فرض إقفال المصارف وبورصة أثينا لفترة معينة؛ مع تحديد سقف للسحب النقدي اليومي بـ60 يورو؛ وإنشاء لجان فرعية خاصة للبتّ بطلبات الكيانات القانونية (أفراداً أو مؤسسات) والشركات والملكيات الفردية، لتحويل الأموال إلى الخارج بغية تسهيل أعمالها، على ألا تتعدّى عملياتها الـ100 ألف يورو لكل يوم عمل، وتحديد المعاملات المسموح القيام بها لتأمين النفقات الطبية ورسوم التعليم... وصولاً إلى المرحلة الخامسة، التي تقرّر فيها:
- تحديد الحدّ الأقصى للسحوبات النقدية بـ840 يورو للفرد كلّ أسبوعين
- إمكان سحب 30% من مجمل الأموال التي أُرسلت إلى اليونان، ابتداءً من 22 تموز 2016
- إمكان سحب 100% من الأموال التي أودعت نقداً في حسابات تملكها كيانات قانونية ومعنوية، ابتداءً من 22 تموز 2016
- إزالة القيود على تسديد القروض، جزئياً أم كلياً، قبل توقيت استحقاقها
- الموافقة على دفع المعاشات التقاعدية وأي نوع من مزايا الرعاية الاجتماعية من الخارج بموجب شروط معينة
- فتح حسابات مصرفية للمتقاعدين خارج البلد، للتمكّن من تحويل رواتبهم
- فتح حسابات مصرفية للطلاب الذين سيُشاركون في برنامج التعليم «ايراسموس»
تلجأ الدول إلى «الكابيتال كونترول» لحماية استقرار النظام المالي


ما هي التأثيرات على الاقتصاد في الحالة اليونانية؟
فصول متتالية من النموّ السلبي للناتج المحلي، مع تدهور في التجارة الخارجية. تراجعت الصادرات، كما الواردات. لكن، وجدت الدراسة أنّ «التباطؤ بعد فرض الكابيتال كونترول، كان أكثر اعتدالاً ممّا كان متوقعاً» بسبب عوامل داخلية: الاتفاق على برنامج التكيّف الاقتصادي الثالث، تحسّن الموسم السياحي، التقليل من قيود الكابيتال كونترول... تُضاف إليها عوامل خارجية، كانخفاض أسعار النفط وقيمة اليورو.
تطبيق «الكابيتال كونترول» انعكس على القطاع المصرفي اليوناني، وأدّى إلى استعادة الاستقرار المالي. تُشير دراسة «يوروبنك» إلى «زيادة استخدام البطاقات الائتمانية، وستكون لذلك آثار إيجابية على المدى الطويل، كاعتماد نموذج معاملات أكثر كفاءة، ودعم مكافحة التهرب الضريبي». وعدم طلب سحب مبالغ مالية تفوق قدرة المصارف على توفيرها، «أدّى إلى تحسّن تدريجي في الظروف المالية اليونانية». لكنّ «يوروبنك» نصح «بتخفيف القيود للسماح بعودة الودائع إلى اليونان». فقد انخفضت ودائع الأسر إلى 101.8 مليار يورو في تموز 2016، مقابل 104.2% مليار يورو قي تموز 2015، و134.9 مليار يورو في تموز عام 2014. ويقترح البنك، «لإنعاش الثقة المحلية»: تنفيذ سريع للإصلاحات الهيكلية والالتزام بشروط البرنامج، تحسين النمو المحلي، وعدم حصول صدمة خارجية كبيرة.
في مقابل انخفاض ودائع الأسر، شهدت ودائع الشركات نمواً إيجابياً في الأشهر اللاحقة لفرض «الكابيتال كونترول»، فبلغت 16.1 مليار يورو في تموز 2016، بارتفاع 5% عن حزيران من السنة نفسها.

اليونان Vs قبرص: ظروف مختلفة
عانت قبرص من أزمة اقتصادية حادة، لم تبدأ من التخلص منها إلا بعد بدء تطبيق خطة الإنقاذ المالية، وتضمنت قصّ نسبة من الودائع التي تتخطى الـ100 ألف يورو، وفرض «الكابيتال كونترول» لسنتين. استناداً إلى دراسة «يوروبنك»، «كان التكيّف الاقتصادي في اليونان، بعد تطبيق الضوابط، أفضل من قبرص، أكان على مستوى إجمالي الناتج المحلي أم الصادرات والواردات». الصدمة الاقتصادية في اليونان «كانت متوقّعة أكثر منها في قبرص، لذلك تمكنت أثينا من استعادة الثقة المحلية وتعافي ودائع القطاع الخاص أسرع»، بينما في قبرص «فقد كان لعملية الإنقاذ والتباطؤ الاقتصادي أثر في الانخفاض الحادّ في ودائع القطاع الخاص».
خلاصة دراسة «يوروبنك» من التجربة القبرصية، أنّه يجب على الدول الإسراع في تنفيذ الإصلاحات والتواصل مع المواطنين لإقناعهم بضرورة فرض «الكابيتال كونترول». ومن النقاط الأساسية، «وضع خطة عمل واضحة تُصاغ في المراحل الأولى من برنامج إعادة تحقيق الاستقرار، تتضمن الإجراءات الواجب الوفاء بها قبل التوصّل إلى وقف العمل بالكابيتال كونترول».